حكاية الحكاية في «أولاد الغيتو»

2016-11-02 01:36:41

حكاية الحكاية في «أولاد الغيتو»
إلياس خوري

لم يخطر لي أن أتوقّف مرّة أمام قصّة عمّي الأصغر من أبي بأنّ الأخير لطالما قال له ممازحاً: لستَ أخانا ونحن وجدناك تحت الشجرة. قصّة كهذه لا يمكن أن تُستوعب خارج سياق المقاهرة بين الأخوة، أمّا أساس هذه الفكرة المأساويّة فلم أفكّر به خارج سياق مزاح الأطفال إلى أن قرأت رواية الياس خوري الأخيرة «أولاد الغيتو» حيث يتم العثور على شخصيتها الأساسية، آدم، رضيعاً متروكاً على صدر أمّه الميّتة الملقاة تحت شجرة زيتون أثناء تهجير الفلسطينيين عام النّكبة.

لم يأت ذلك كتفصيل درامي تتخطاه الرواية إلى ما بعده، بل كان الأساس الذي أرادت أن تحكي عنه، أو من بين الأساسات. فقصّة الولد الذي وُجد أسفل الشجرة هي كما يبدو "تراث شفاهي" فلسطيني يأتي على شكل مزاح، لكنّه كما نقرأ في الرواية يمكن أن يكون حقيقة، وهو بذلك ينقلب بلحظة من كونه ملهاة أطفال إلى مأساة أهاليهم.

سرياليّة العبارة "وجدناك تحت الشجرة" تعطي في الواقع احتمالاً واحداً لها وهي أن تكون مزحة، وإن ثقيلة على الأطفال يروونها في كبرهم لأبنائهم. لكن باستيعابها كحقيقة، كأمر حاصل ومتكرّر ومعمَّم خلال النّكبة، ما جعله "عادياً" في حينه، يجعل النكبة بكلّيتها حالة سرياليّة بمأساويّتها، وبما رافقها من قصص فرديّة وجماعيّة.

أما تفصيل أنّ آدم وُجد تحت الشجرة فهو محفّز أولاً لرغبة آدم في كتابة روايته «اسمي آدم» في رواية خوري، وكما يبدو لرغبة الياس خوري نفسه في كتابته روايته «أولاد الغيتو». ولذلك نقول أن هذا التفصيل الصغير هو أساسي في العمل الروائي الأخير لخوري، لأنّه بدأ من عار لم يُرد أحد الإخبار عنه.

آدم أراد كتابة حكايته، والياس خوري أراد كتابة حكاية آدم. ورواية خوري تحكي ضمن أفكار أساسيّة عن كتابة الحكاية الفلسطينية، وعن العار الذي حال دون ذلك، فكان الصّمت، فكتب خوري حكايةَ كتابة الحكاية، أي كتب حكاية كتابة آدم لحكايته، فكتب الحكاية التي تحكي عمّا يريد هو كتابته: النكبة والصّمت.

تقنياً، تحتاج رواية كهذه روائياً يكون تحديداً الياس خوري، ومعرفياً، تحتاجه هو تحديداً كذلك. وهذه من هموم خوري الأدبية، وقد سجّلها سابقاً في روايته «باب الشمس» كحكاية الفلسطيني الذي لجأ إلى لبنان عام النكبة، واليوم «أولاد الغيتو» كحكاية الفلسطيني الذي بقي في فلسطين، اللد، عام النكبة.

لأنّ هذا هو الأساس أتت الرّواية كحكيٍ للحكاية، أو للدقّة أقول: كحكيٍ لحكي الحكاية. والحكاية هذه حُكيت لكاتبها آدم فكتبها، وكتب خوري ما كتبه آدم، فالأساس هو حكيُ ما حصل عام النّكبة لآدم. منال ومأمون ومراد حكوا لآدم ما حصل فكتبه، وكتب خوري حكايةَ كتابة آدم لحكايته

في المقابلة التي أجريناها مع خوري قال أنّه تفاجأ أثناء التحضير لروايته «باب الشمس» بأنّ العديد من القصص الفلسطينية لم تُحكَ، وذلك لأنّها عار، والنّاس لا تخبّر عن العار. وهي فكرة بنى عليها «أولاد الغيتو» بادئاً إياها بعار بدأت به حياة آدم، أي تركه أسفل الشجرة.

فتأتي «أولاد الغيتو» لا لتحكي عن العار فحسب، بل لتحكي عن حكي العار، عن ضرورة أن نحكي عارنا، أن نكتبه، نسجّله، فالعار فعلة صهيونيّة وليست فلسطينية، فعل القاتل وليس الضحيّة. نقرأ في الرواية «جلستُ وحيداً لا أدري ماذا عليّ أن أفعل، لقد نسي أبنائي أنّ لهم أباً وانهزموا مع المنهزمين» (ص ٣٤٥).

ونحن لا نملك إلا أن نكتب قصصنا، بعارها، نكتب الحكاية وليس التاريخ، كما قال خوري في المقابلة ذاتها، وهو ما تقوله منال، أم آدم، لابنها حين أعطته ما ورثه، أوراق عليها بعض حكايته، ما لم تستطع قوله: «نحن منملكش إشي، غير الكلام» (ص ١٢٦).

لكن رغم ذلك، لم نكتب روايتنا كما يجب، أو حتى لم نحكها كما يجب، فمن كان يتخيّل أنّ "لستَ أخانا، وجدناك تحت الشجرة" حالةٌ معمّمة وأنّها وإن كان ظاهرها مزاحاً الغاية منه الإضحاك، فهي تتضمّن مأساة جماعيّة في داخلها، ونحن الفلسطينيين لم نحكِ مأساتنا وإن "ما ملكناش إشي غير الكلام".

واحدة من أقسى الفقرات التي مرّت عليّ وبدأت تعلق في ذاكرتي، وهي ما قد تفسّر تغليفنا للمأساة بالمزاح، كانت: «أعتقد أن تعدّد الروايات لا يعود فقط إلى حقيقة أنّها لم تُكتب، بل يعود أساساً إلى محاولة الضّحية التأقلم مع واقعها الجديد، عبر النظر إلى الأحداث المأساوية المتلاحقة بالعين الثالثة، التي لا ترى إلا ما يستطيع الإنسان تحمّل رؤيته. هذا هو أساس التباسات حكايات النكبة» (ص ٢٤٨)، أضيفُ إليها: «أعتقد أن ضحايا هذه المذبحة لم يرووها، لأنها انحفرت في أرواحهم ورافقتهم طوال حيواتهم البائسة، ولم يجدوا هناك ضرورة لبرهنة البديهيّ الذي عاشوه» (ص ٣١٥)، و «إن ذاكرة المذبحة تحوّلت ثقوباً من الصمت في حياته، وأنّه لم يروِ حتى لزَوجته الخليلية شيئاً عنها، لأنه لم يستطع» (ص ٢١٤)، وغيرها وغيرها مما يقول بأنّنا حتى اليوم، في 2016، لم نحكِ حكايتنا كما يجب.

ولأنّ الأساس في «أولاد الغيتو» هو الحكي، حكي ما حصل، الإخبار عنه، كتابته، وهو ما أكّد عليه كذلك خوري حين كتب «لم يسمع أحد أنين الفلسطينيين الذين كانوا يموتون ويُشرَّدون بصمت، لذا جاء الأدب كي يصنع للضحيّة لغتها الجديدة، أي كي يعلن أدب الصّمت» (ص ٣٦٣)، لأنّ هذا هو الأساس أتت الرّواية كحكيٍ للحكاية، أو للدقّة أقول: كحكيٍ لحكي الحكاية. والحكاية هذه حُكيت لكاتبها آدم فكتبها، وكتب خوري ما كتبه آدم، فالأساس هو حكيُ ما حصل عام النّكبة لآدم. منال ومأمون ومراد حكوا لآدم ما حصل فكتبه، وكتب خوري حكايةَ كتابة آدم لحكايته، فـ "من يكتب حكايته يرث أرض الكلام/ويملك المعنى تماما!" كما قال درويش.