حكايات اليوم التالي: غوراني من مخيم اليرموك

2016-11-09 08:05:12

حكايات اليوم التالي: غوراني من مخيم اليرموك
الظاهرية التحتا . صفد

الحكاية الرابعة

أنا غوراني من بيت (خرمندي)، لكن جدي أحب أن يخلِّد اسمه فبدَّل الكنية إلى اسمه بعد خروجه من فلسطين، ثم أحب أن يخلده أكثر ففرض على أولاده الأربعة أن يكون اسمه في كل بيت، وكان نصيبي أن أحمل هذا الاسم وقد ثَقُل علي لدرجة أنني لم أحبه في يوم، واحد منهم لم يرضخ لرغبته هو عمي الكبير أبو العبد، ومن الثلاثة الذين يحملون الاسم استشهد اثنان: الأول بقذيفة أثناء قيامه بعمله الإغاثي في ساحة الريجة في مخيم اليرموك المحاصر، عام 2014، والثاني استشهد تحت التعذيب في العام نفسه.

 ورثت عن أمي سمرة وجهها وبعض عنادها، لا أذكر أبي الذين غادرنا إلى الدار الآخرة حين كنت بعد الثالثة من عمري بقليل، ولكنني أذكر شيئاً واحداً هو قهقهته ومعاناته في إخراج حبة حمص وضعتها في أذني لأخرجها من أذني الثانية كما فعل الساحر الذي رأيته في ساحة العيد.

كان أبي شاعراً بلغة الغوارنة (والشاعر بلغتهم هو الذي يغني في الدبكة مرافقاً عازف المجوز أو اليرغول)، وليس عند الغوراني هوى يعادل هواه للدبكة، كان أبي ذا صوت عذب ورثه أغلب إخوتي عنه باستثنائي أنا، رغم إصراري على الغناء في كل عرس.

صحيح أن قريتي لا تبعد أكثر من عشرة كيلو مترات عن مدينة صفد إلا أنني لست صفدياً بحسب تصنيفات السلم الاجتماعي الفلسطيني، فالمناطقية الفلسطينية قوية السطوة في مجتمعنا الفلسطيني، ويجد الناس فيها نوعاً من التفاضل وإن كان شكلياً فهو في المضمون يعبر عن إحساس واقعي راسخ بنوع من الشعور بالأفضلية الشكلية الفارغة.

 هم من أطيب الناس قلوباً لكنني لست أبالغ حين أقول أن النظرة للغوارنة غالباً ما كان فيها قدر كبير من التعالي، فالغوراني عند الغالبية نمط مختلف عن البقية الفلسطينية، فلهجته مختلفة، ولون بشرته أكثر سمرة من الآخرين، وسار بين الناس اصطلاح (الغورنة) وكانوا يقولون: غورنت معه، والغورنة ،كناية عن سرعة الغضب لدرجة فقدان العقل والتعامل بعنف...

هذا الإحساس دفع الغوراني إلى أنواع مختلفة من ردات الفعل، فالناس عند الغوراني نوعان: غوراني وفلاح (والفلاح هو كل من ليس غورانياً)، جزء كبير منهم اتجه باتجاه التكتل بطرق مختلفة في كل مناسبة، ومن تجليات ذلك أن حل خلافاتهم مع الآخرين أخذ شكلاً عنيفاً، ومصطلح (الفزعة معروف لديهم بشكل واسع، وهي معركة حامية الوطيس تخوضها مجموعة كبيرة من الغوارنة دون معرفة السبب.

 كل المجتمع الفلسطيني في المخيم كان كذلك، ولكنه عندهم كان أكثر تجلياً، وقد يكون السبب في ذلك كثرتهم، أنا شخصياً دائماً كنت أرفض أن أقول إنني صفدي كما كان يفعل الكثيرون من الغوارنة هرباً من إحراج النظرة المريبة إليه، عندما كنت أُسأَل أجيب "أنا غوراني" وظللت مصراً على التكلم بلهجتي الغورانية الفجة التي كان يُنظَر إليها على أنها شكل من أشكال التخلف، وفكرة ربط التخلف باللغة مضحكة بدرجة غبائها، لهجتنا تختلف كثيراً عن لهجة أهل مدينة صفد الرقيقة الناعمة.

 هم من أطيب الناس قلوباً لكنني لست أبالغ حين أقول أن النظرة للغوارنة غالباً ما كان فيها قدر كبير من التعالي، فالغوراني عند الغالبية نمط مختلف عن البقية الفلسطينية، فلهجته مختلفة، ولون بشرته أكثر سمرة من الآخرين، وسار بين الناس اصطلاح (الغورنة) وكانوا يقولون: غورنت معه، والغورنة ،كناية عن سرعة الغضب لدرجة فقدان العقل والتعامل بعنف...

يتميز الغوارنة بلون بشرتهم السمراء، وملامحهم القاسية، وكثرة إنجابهم على فقرهم الشديد، وأستطيع أن أجزم أنهم يشكلون أكبر كتلة بشرية فلسطينية، خصوصاً أنهم جاؤوا من أكثر من أربعين قرية في سهل الحولة شمال فلسطين وتوزعوا على دول المجاورة، عدا الذين ظلوا في فلسطين المحتلة، وبعض المخيمات الفلسطينية في لبنان وسورية هي في نسبتها الأعظم من الغوارنة (مخيم تل الزعتر والرشيدية في لبنان ومخيم خان دنون وجرمانا في سورية، وفي مخيم اليرموك كانت هناك حارات خاصة تسمى حارات الغوارنة، هي الحارات الأكثر فقراً في المخيم، والأكثر خطراً، لكنها في حقيقة الأمر الحارات الأكثر طيبةً، والأهم من الكلام السابق كلِّه أن أكثر من نصف سكان مقابر الشهداء هم من الغوارنة.

في حاراتهم ترتفع نسبة غير المتعلمين كثيراً، فهم يهتمون أكثر بالعمل العضلي بسبب الفقر الشديد، فسرعان ما كان يترك الغوراني الطفل مدرسته في وقت مبكر ليلتحق بسوق العمل لمساعدة والده الذي يعمل غالباً عاملاً في مهنة شاقة، أضف عليها مشقة كثرة الإنجاب.

صدف أن بيتنا كان على أطراف حارة الغوارنة في شارع المدارس، وفي ذلك البيت الصغير جداً أنجبت أمي فاطمة الشمدين سبعة أولاد بينهم فتاة واحدة، مات أبي مبكراً قبل أن يرى ابنه الأخير الذي أسمته أمي على اسم زوجها الراحل (إبراهيم)، كانت في الثلاثينيات من عمرها عام 1970.

 خرجت من فلسطين بعمر الحادية عشرة ولا تعرف إلا العمل في الأرض ورعاية الأطفال، لي ثلاثة من الأعمام، أصغرهم من أم ثانية، لم يكن بإمكانهم أن يساعدوا في الإنفاق على أولاد أخيهم، كلهم كانوا عمالاً وكلهم أنجبوا حتى جفت أرحام نسائهم.

 إذاً، على هذه المرأة أن تفعل شيئاً لإنقاذ أولادها، وسرعان ما تحولت إلى لبوة لا هدف لها في الحياة سوى أن تدافع عن أطفالها اليتامى، كان عمري أربع سنوات، وأخي الكبير محمد كان في الثالثة عشرة من عمره يليه أحمد ففايزة ففايز ثم أنا فمحمود فأصغرنا إبراهيم (أنجبته بعد رحيل والدي بأشهر).

سبعة أطفال عليها أن تحميهم، نعم  أن تحميهم لأنها الحرب التي ليس مثلها حرب، جدي أبو علي شمدين والد أمي لم يتخلَّ عن ابنته و بالتالي عن أولادها، ولكنه فقير يبيع الخضراوات على عربة لأهل المخيم الفقراء مرة، ومرة يرعى الغنم، أخوالي أيضاً كانوا فقراء باستثناء أبو العبد شمدين أكبرهم فقد كان ميسوراً قياساً بأخوته، وهو لم يقصر مع أولاد أخته.

كل هذا لم يكن كافياً فهم سبعة أطفال، ترك أخي الكبير المدرسة والتحق بالعمل مع خالي أبو العبد شمدين في نجارة البيتون، وهذا أيضاً لم يكن كافياً.

ماذا يمكن أن تعمل امرأة فقيرة غير متعلمة؟ أمي كانت فقيرة لدرجة أنها رضيت أن تعمل في الخدمة في البيوت الشامية، نعم هذا هو العمل الذي استطاعت أن تجده، ولم يكن عندها مانع مادامت تستطيع أن تحمي أولادها من الجوع، وتستطيع أيضاً بعد أن ينام أولادها أن تنتحب طوال الليل. كنت أصحو على صوت نحيبها ولكنني لم أجرؤ مرة واحدة على سؤالها لماذا تبكين يا أمي؟! حتى إنني كنت أحرص على ألا تشعر بأنني صحوت، لا أدري ربما لأنني لم أكن كبيراً لدرجة أن أتحمل مسؤولية السؤال، انتظرت أن أكبر ما يكفي كي أسألها.

إذا قُدِّر لي يوماً أن أزور قبرها في سوريا سأسألها.