مراحل الإنشاد الأخير

2016-11-15 11:35:58

مراحل الإنشاد الأخير
"العشاق ٢" . رينيه ماغريت . ١٩٢٨

على سبيل الخدعة نسجت وجهك أيدي العرّافات، بين أحبال النور وشرانق الكمال، واعداً ككل نبوءة، أنجزت أعوامك تحبو على جثث البحّارة قاصدين كهوف النساء الماكرات، سكارى ينشدون الاسم بطريقة مختلفة كلما لامست عينٌ الجسد.

***

في الغسق يلامس طيفك هدوء الزمن، تتمعن كيف يمر من خلالك مجدداً، كلما أبعدك التوهام باحثا عن وجهٍ يرثي حال وجهك، لكنك لا تخسر، تسأل الذات في الصباح متى نبت الثقل في قلبي، كيف يظلمُ مرءٌ ليلةً يزينها بالكمال بغفوة فتلعنه مرايا الصباح الماكرة تقبع بين الشمس وظل القمر.

***

تناجيك الأرواح بأسماء ندائك مجتمعةً في صخب دوام، لا تدركه آذان الجاحدين، كل شيء يغرق في التكرار. تتمتم بما تتليه عليك ريحٌ باردة، لا بأس بأن تذاع أخطاء العالم على الملأ، أن نعيد السمع مرّة بعد مرّة: كآبة العصر، جرس رخيم يتبع صوت المغنيات يرتلنّ نشيداً للرقص، يجمعن ظلال الغابة بأجساد ثلجية عذبة، في أسطورة أخرى وزمن آخر حين تعاد صياغة كل لعنة من جديد في كل مرة تهرب حقيقة من ركنها أم تنهار سماء.

***

الصراخ في وجه الفراغ حيلة أخرى لا تكفي. إن الأمر يتطلب بذل أضعاف ما حدث… إن الأمر يتطلب أن تأتي أغنية من الغابة في البعيد، أن تباح كل الاحتمالات، أن يرحل أموات من ضفة لأخرى يتناقلون رسائل الأسماك التي تغزو قاع كل سماء، لا تموت سوى في قدر الهواء الكاذب، تلفقه قوانين وأرقام وحلول لا تفهمها. تدرك أنك ككل الكائنات، تتذوق المشاهد بعينين ممتلئتين بالدهشة، تنسلخ الصفات عن جسدك كلما مررت بموكب تصنعه الكلمات، تحفل بيومك كأنك في عرس الأرض الأبدي، تسقي فيه كائنات الأعماق والجبال أسباب وجودك بيد من ريش و أخرى من حراشف.

***

 وليكن قلبك خرائط لا يعرف مسالكها سوى الطيور والأرواح؛ إن شئت ابتلعت نفسك. كأنك العرج الأول ترحل من نفس إلى أخرى، تحيط قلبك عارياً بيدين عاريتين تحمل معناك عارياً خالياً من المشيئة لا تُعرّف، لكنك لا تفزع، تراك عيناك قبل أن ترى بهما: هادئا ساكناً سكون كل الحيوانات، تتألم كلما جاءك وجهٌ أم رحل، بالخواء ذاته لا يملي عليك ما ستفعل، تحيط برائحتك القلوب والأصوات متدعياً أنك ملكتها قبلاً وأن ما يحدث أقسى من أن يحتمل.

 ***

ستدرك سر الوصول قبل حلول الانتظار، هي خطوة وحيدة لا يغويها أمل، ستسير في شوارع تألفها تبحث عن نصفك المفقود، متيقناً رتابة ما حدث، مكذباً الحقائق لاعناً كل ضرورة وجب عليك فهمها. تعلم أن سماع موسيقا الفالس في ظلال هذه مدينة خيانةٌ لأركان الجمال، لكنك تبتسم، ترغب بمزيد من النهايات، بمزيد من الصور في الذاكرة لا يلطخها الصمتُ في ليلة كاملة في سحرها لا يشوبها هجران. وكلما كان الشيء ممكناً أصبح أكثر نضجاً في الخيال، أكثر إصراراً في طلب المتعة الخالصة من يدٍ تعرف طريقك إليها أكثر مما تعرف نفسك. هب كل ما ظننت سابقاً للفراغ، احتفظ بالسر موشوماً على الأجساد والأنفاس، قدم الأضاحي لربّات المتعة في أعالي الجبال، فتعلم ما امتلكت قبل فوات البداية فيموت السرُّ في وحدته ولا يكشف وجهٌ عن إجابة تكفي.