المدينة في أفلام إيليا سليمان، بين النمطية والغيتو

2017-01-12 03:39:56

المدينة في أفلام إيليا سليمان، بين النمطية والغيتو
إيليا سليمان . باريس ٢٠١٠ . تصوير أوليفييه مارسني

ربما ما يجعلنا نتذكر مدينة الناصرة في الفيلم الفلسطيني "الزمن المتبقي" للمخرج إيليا سليمان هو ما وصلت إليه حال المدن السورية اليوم.

 على اختلاف مشهدية الدمار السوداء الموجودة في مدن سوريا تحافظ بعض المدن التي تعرّض تاريخها للاضطهاد على ألوانها، ولكن غطاءً لونيًا يمتد عبر سنوات على وقع الاستيطان الثقيل جعل من سوداوية العيش تلوح للناصرة من مكانٍ ما ينبشه سليمان بأدواته مقلبًا ألوان الحياة هناك.

مقابل ذلك نتساءل كم نحن بحاجة لنظرة متأنية في أدق التفاصيل التي حولت الواقع إلى مأساة راسخة، أما علاقة ذلك بالفيلم فهي آتية من ذهنية تأملية رضخت لها أحداث الفيلم خلال استعراضه للماضي ومحاولته استحضار وقع الهزيمة للتأمل والفهم، كأن أقول لك تعال شاهد نفسك كيف كنت وكيف تصرفت.

 نشاهد عبر أشرطة المخرج السينمائية الثلاثة رؤيةً كثيفةً لفرادة المكان، أراد من خلالها أن يحكي حكايته وحكاية الأرض والناس، فقرر خلق مساحة من صورة وصوت بحوارات قليلة وكثير من الصمت.


سجل اختفاء المدن بعيدًا عن النمطية 

توجه إيليا سليمان -بعد عودته إلى مدينته الناصرة التي تركها قبل سفره إلى نيويورك-، نحو رصد يوميات عائلته الصغيرة وأفعالها بسكونها وضجيجها، وبكل ما فيها من اعتيادية مفرطة، هو الذي يحب أن يطلق على أفلامه نوع الواقعية المفرطة في محاولته للكشف عن تفاصيل المكان والأشخاص والتحولات التي وقعت عليهم، كما تقول صورة فيلمه الأول "سجل اختفاء" 1998، ماذا حدث هناك ( في أراضي الـ 48) بعد السلام؟

يبدو سجله الأول مصورًا في غيتو مغلق تعيش فيه مجموعة من الناس تتفاعل مع بعضها بالحد الأدنى من الثرثرات اليومية وبمللٍ يمكن اعتباره مفصلًا في ذهنية أهل هذا المكان، إلى جانبه العديد من المفارقات التي تثير السخرية من طبيعة العيش والحياة اليومية، تفاصيل غير نفعية تشد الواقع نحو النسيان وتغاضي الانتظار والتغيير.

ولكن السؤال "من الذي اختفى وكيف؟" يحاول سليمان الإجابة عنه بدايةً بالوقوف عند رغبته بتصوير فيلم عن مدينته وعائلته (هذا الأمر الذي سيشغل الأفلام الثلاثة)  والتقاط أجواء هو حاضر فيها مع الآخرين بنظرته المزدوجة داخل/خارج كل من الشخصيات والبيت والمدينة، راسمًا تفاصيل سكون البشر وتناسيهم، فلا شيء يحدث هناك، وموثقًا من خلاله ثقل علاقة طبعت المكان بالضغط النفسي الفاتر إن صح التعبير، حين يبدو الاحتلال بكل تغوله مسيطرًا حتى على الأنفاس، فشلل الحركة والضغط الكبير على مدينة صغيرة  كالناصرة سيجعلها تختفي، وهي إن بدت حاضرة يلفها جو الإحباط والعدمية.

 

نحن بحاجة ليدٍ إلهية

ينتقل سليمان إلى القدس ليعيش في بيت كبير بالنسبة له، يلصق أوراقاً صفراء صغيرة على أحد جدرانه. نريد أن نصنع، فيلمًا كل البيت يقول، فنبدأ من أكثر التفاصيل رخاوة وإشكالية "يوميات الحب والآلم"، تبدو مدينة القدس أكثر عسكرةً وإحباطاً حين يقف حبيبان على حاجز عسكري يتأملان التعذيب والاعتقالات والسيارات المارة من أمام العسكر. أحدهما لا يستطيع الذهاب إلى الآخر فيصبح الحاجز مكان اللقاء الوحيد. يكتفيان بملامسة الأيدي والتأمل بديلًا عن البوح والحركة، كل هذا التأمل الذي يصيبك دفعة واحدة في فيلم "يد إلهية" 2002، يأتيك جرعةً مكمّلة لنسل تفاصيل أهل الناصرة، ولكن هنا انفجار كبير قد يكسر المتوقع ويجنح نحو الخيال، هو انفجار الخيال نفسه الذي قد أصابه ذات السكون والملل. 

هناك تنفجر دبابة بحبة خوخ، وتتحول صورة الفلسطيني الملثم على دريئة التصويب إلى مسيحٍ منتظر، جاعلًا منه سليمان مُقاومًا بأكثر الأشكال غرابةً، يقاوم ظلمًا تاريخيًا واقعًا ويواجه من لم يقوَ على مواجهته من قبل في مشهد من أقوى مشاهد المقاومة الأساسية كرمي الحجارة والاحتجاج باعتباره فعلًا يثير غيظ الاحتلال، ليُدرج بعدها أسئلة الحقوق والأمكنة بين صاحب الأرض ومن فُرض عليها،
 "ماذا نفعل نحن في المدن وماذا تفعلون أنتم؟"،
يصبح هنا فعل رمي القمامة فعلًا مقاومًا إذ توجهت نحوه فوهة دبابة، ويصبح معه الوقت المستغرق لرمي القمامة أو للتكلم على الهاتف وقتًا ممدودًا لتكرار الفعل وبالتالي فعلًا ساخرًا من هيبة دبابة تلاحق شخصاً ما خلال ما يقوم به من أفعال يومية بسيطة. 

هو رد الفعل غير النمطي على نمطية الاحتلال وشكل الخوف الذي يحاول تكريسه.

فيلم سليمان مازال على أوراق صغيرة وفيلمه الثاني ينحو نحو مدن عائمة على الملل والانتظار، بعد "سجل اختفاء" وسرده الشخصي والسياسي و"يد إلهية"، يد المخلّص المشبعة بصورٍ عن حق العيش والمقاومة يأتي الفيلم الأغزر من بين أفلام الثلاثية التي يسميها البعض هكذا، "الزمن المتبقي" 2009، الذي أعاد حكاية النكبة وأعاد تصوير ما آلت إليه ظروف سكان أراضي الـ .48 "لماذا وصلنا إلى هنا؟"،
لأن هذا ما حدث في الماضي يقول الفيلم. 

 

سيرة الحاضر الغائب

سرد حكاية المدينة ومعها حكاية الصمود والهزيمة حتى فراغها وسكونها التدريجي لا يبدو بالأمر السريع والسهل، فيروي سليمان حكايته التي تشبه حكايات أهل المدينة بكل ما مرّ عليها من غزو وفقدان غيّر أيامها المتلاحقة.

الناصرة عام 1948، يدخل إليها المحتل ويسرق البيوت ويعتقل السكان ويُجبر على التوقيع والتخلي، يلبس حلة الفلسطيني للتماهي السريع مع المكان وإبراز العنف. 
سجل اختفاء

نرى بعض االسخرية القاسية حدّ الكآبة مما يفعله البعض في علاقاتهم وطريقة حياتهم، فتكون الناصرة هنا أقسى وأشد وطأة في مشاهد الفيلم المتجذرة في الماضي، تحكي حكاية الاحتلال بعيون أهل الأرض، فيلم السيرة الذاتية الذي يمحص النظر في شكل هذا الاحتلال ويعريه، يكشف وقائع بعض اعتداءاته وينتقم مما حصل على طريقته الشعرية التي تحاكي فيها الصورة وعي ذلك الزمن وأهله. 

يجرّم الفيلمُ الاحتلالَ على طريقة سليمان الساخرة ولكن بقسوة مريرة هذه المرة.
تُبنى صورة المدينة على نمط الخط السردي للحكاية، على وقع انتكاسات ملحوظة على اختلاف صورتها في الفيلمين السابقين، بالرغم من القتل والسرقة والتهجير، نستطيع محاكمة صورتها من خلال مشاهد خارجية ومفتوحة على التأويل كما الناصرة التي ستصبح في آخر الفيلم مساحة ضيقة ينظر منها إيليا سليمان إلى أمه في أكثر حالاتها عجزًا وفقدانًا،
بعيدًا عن صور منمطة لحرب تُهلك المدن، أثقل الانتظار واللافعل يوميات أهل المدينة وحياتهم، لتبدو الناصرة غيتواً مضغوطاً أمام السكون الطويل ومساحة الصمت الكبيرة التي يراقب من خلالها سكان المكان التفاصيل الباقية وأصوات بعيدة عنهم وعن حدوث أية واقعة. اللاتحول والإنغلاق هذا ما حدث لها بعد السلام.

يد إلهية

الزمن المتبقي