في «نقش الجرح» للكاتب هيثم أبو الغزلان

2017-01-23 08:45:35

في «نقش الجرح» للكاتب هيثم أبو الغزلان
"تشكيل ١" . للفلسطينية سامية حلبي

يشدنا الحنين دائمًا إلى ذاك المكان الذي لم نولد فيه، ولم نره. نحلم به، نتأمله غيابيًّا. حفظنا معالمه في أذهاننا من أحاديث أجدادنا وجداتنا، ومازلنا نراه كما وصفوه لنا.

أربعة أجيال تواترت، ونحن خارج المكان الذي نسميه "وطن" بل هو بلدنا الذي نحلم دائمًا ونتمنى أن يكون وطنًا.شربنا مياهه من حليب جداتنا اللاتي حملن معهن بقايا من صعتر بريٍّ نبت في الجبال، ومازال، ومن دحنون خرج من صخور جرداء ليبقى عنوانًا على صلابة شعب أن ينكسر، شعب حفر الصخر بأظفاره، شعب يقول ها أنا ذا أعرش نحو الشمس شموخًا وعزة وإباء.

مهما كانت نتائج النكبة والتهجير قاسية، ومهما كانت همجية العدو غادرة، فإن الأمل يبقى موجودًا نقهر به عتمة الظلم التي استمرت منذ 1948. لن يغادرنا الألم، ولن يغادرنا الشهداء، سيبقون فينا، ظلنا، وسلاحنا الذي نحارب به.

الموت، ذاك الشاهد على من نحب، ومكرهين نفارقه على الرغم من أننا لا نستطيع منع ذلك، وهو موت لا إرادي بأنواعه المختلفة، ومهما تعددت أسبابه. يقول هيثم أبو الغزلان: أيقظني الفراق على عجل… فلا وقت للفكر، ولا وقت للحياة. صدمنا الرحيل باكرًا، أخذ الحبيب بلا تمهّل، لم تكن ترتجّ أحلامي قبل هذا، فالحب مرساة الشاطئ والساحل".

بعض من وجع في هذه الكلمات يعبر عنه الكاتب، وجع النكبة واللجوء "الموت المؤقت"، ووجع الفراق على والده الذي فارقه على عجل من دون تمهل وأناة واستئذان، مسافر إلى مكان لا مرساة فيه ولا شاطئ، كحال اللاجئ الفلسطيني، دائمًا في سفر، وحتى في المخيم الواحد فهو على الدوام حاملًا حقيبته ومتنقلًا بها من مكان إلى آخر.

رحل الوالد من دون إنذار، رحل "الأمن والأمان"، والشاطئ والمرساة، فترك الشاطئ يعوم بوجعه تاركًا خلفه أناسًا يهيمون في ظلمة الليل، رحل الحب والأمل والدفء باكرًا، مخلّفًا وجعًا لن يهدأ.

أيُّ الموت أختار يا غصّة الرّوح، وشهقة الأمل. على أي جرح أسير، والجراح ما فتئت تزداد. كيف أمضي ومازلت تشعل في كل يوم الضياء والأمل.

التضادات واضحة في مفردات الكاتب، تحمل في وجوه منه الأسى الذي يحمله في قلبه من جراء اللجوء والموت، فكلاهما أمر من الآخر. اللجوء صورته الأولى، هو موت في غربة طويلة لا نهاية لها، والموت خريف دام طويلًا، وسقطت أوراقه الصفر، ونامت بين ركام التراب المر بعيدًا عن الوطن.

هنا غزة، ويكفي أن الليل لن يمر من هنا، ولن يكون إلا فجر الانتصار. انبجس الفجر من غزة، وأشرق النور، وانتصرت.

هنا النصر انتصر على الذات أولًا، وعلى العدو وعلى كل القاهرين من العرب، هنا النصر سطر أبجديات المقاومة والعزة، هنا النصر انتصر وانهزم العرب، انهزم العرب لأن في غزة رجالًا يهوون الموت ولا يهابون نوم القمر.

هي الصورة تتكرر بين الموت والولادة، بين النصر والهزيمة، بين الفرح والألم والأمل بفجر لن يستكين.

لا تخلو كلمات هيثم أبو الغزلان على الرغم من انتشار للحزن في مجمل نصوصه، من فسحات أمل يعبر من خلالها على حتمية الانتصار على القهر والحزن والجلادين، بحتمية استرجاع الأرض مهما طال الليل، فلا بد للفجر أن ينتصر عليه.

في كلماته تعبير عن واقع الفلسطيني الذي يعيش في ألم دائم وترحال متكرر واستقرار معدوم، ومع ذلك كله فالصبح مستيقظ لا محالة.

والفرح مجبول ببذرات يزرعها المناضلون القابضون على أرواحهم ببندقية الأمل الذي مازال موجودًا، ومسكون بفرح الآخرين، والآهات تمر على المرء حين يفقد كل شيء جميل حوله، وحين يتبدد العمر عبر أهواء البعض قتلًا، وإجرامًا،واغتيالًا للأزهار الجميلة، وما أقسى اليوم عندما يمر والأحزان من حوله، والناس يغرقون فيه، ولا أشرعة ولا سفنًا ولا بحرًا يرتوي من الجرح.

كل ما في هذه الكلمات يدل على التناقضات الموجودة عند الإنسان الفلسطيني، يبحث عن الفرح في كل مكان، حتى تأتي الأقدام التي تقتل فرحة الزهور في نموها، ولكن أبو الغزلان يؤكد على أنه مهما كانت قساوة الجرح غير إن الفرح سيظل موجودًا.

نصان لهيثم أبو الغزلان:

لاجئ على أبواب الوطن..

وقفت على أبواب مخيم عين الحلوة.. وفي زواريبه مشيت، فهنا انسكب عرق والدي لبناء كوخ من الإسمنت تعلوه «ألواح الزينكو».. هنا سارت جدّتي، ووالدتي، ووالدي، وسميّة، وربيع، وخالد، وخولة... هنا كانت «نبعة الميّة» تروي العطشى.. هنا بوابة الحديد.. وشجر التوت والتين.. هنا سرت في الطرقات الضيّقة والمتعرّجة... وهنا صعدت التلال.. رأيت البحر.. وتنفّستُ هواء فلسطين...

ذهبت خيمة المخيم، وظلّ ناسه يحفرون في صخر الجبال قصة جديدة لفجر العودة القادم بالتأكيد... ألم يكتب غسان كنفاني عن المخيم بعد النزوح: "إن هذا المطر لن ينتهي الليلة وهذا يعني أنه لن ينام، بل سيظل مُنكباًّ على رفشه، يحفر طريقاً تجر المياه الموحلة بعيداً عن أوتاد الخيمة".

أتذكّر في هذه البقعة من المخيم عندما انقلب حائط منزلنا، وتصدّعت الجدران المتبقِّية... وعندما استشهد صديقنا تحت ركام منزله... وأطبقت الجدران على أربعة أطفال مع أمّهم... هنا، هناك انمحت «حارتنا»، وغدت أكواماً من حجارة وتراب، «يُزيِّنها» الشهداء، وقرقعة طبول النشامى العرب!!

***

هنا مشيت على أرض المخيم... هنا ذاكرتنا «الفولاذية القوية» باتت في خطر... هنا الأرض لم تعد أرضاً... هنا النشيد كان وما زال كالزلزلة: أطلِق اليدين والحجر.. إنزع الأسلاك الشائكة.. دُس الشوك بأقدامك العارية، وانطلق لعينيها أملاً، وأمضِ لحضنها شهيداً؛ فما يفصلنا عنها مساحة أمتارٍ وجنود وكلاب عاوية.. فلا تبك إلا قليلاً، فالدمع عند العرب بحورٌ ويزيد!!

أطلق يديك والغضب، أطلق شعلة النار ولهيب الألم.. احمل الروح تقذفها... احمل كلّ أماني الطفولة، ودموع النساء والأحبَّة والأطفال، اجعل الجسد جسر عبور بين الوطن والوطن.

دع الأمل يَعْبرُ عبر حقيبة الشظايا، دَعْها تلوّن سماءنا، أشجارنا، زهورنا، أسماءنا... دعها تنتفض عبر خيوط الصباح تجتاح نهارنا المسبي... وتصل للقدس رسالة وعنوان...

تمر السنون، وأيام العمر تتشابه، ووحدهم الذئاب قادرون على البقاء؛ فلا ورد يُزهر، ولا عمر يكبر عند طغيان. ويصبح الوطن وحده في المنفى بلا تضاريس، ولا عنوان ... ويضيع فيه الإنسان.

هنا نكتب بأمل الواثق بالنصر الأكيد أن الأعداء يمكن أن يُحاصروا القمر، ويأخذوا كل نور الشمس، ويكسّروا عظام الأطفال، ويدمّروا المنازل، ويحطّموا الأبواب، ويجعلوا الدنيا سجناً للأبطال، ويمزّقوا أكفان الشهداء، ويحرقوا كلّ شيء كما التّتار، لكنّهم لن يستطيعوا منعنا من عشق الأرض والتّشبث بالتراب فنحن «نحب الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلاً».

تسلّلٌ إلى شقوق الأرض

تطهُر الأرواح حين يتعانق الوجد مع دعاء الفجر في يوم ماطرٍ، وتهطُل المنايا، وتنتثر الأشواك؛ ولكن الأغصان لن تتجرّد من أوراق الربيع، ولن تُكسر أشرعة الروح!

أراد البعض أن يعبث خلسة بالأمل حين سكنت الغربان الأرض، وتهاوى البعض كما تهاوت الأصنام.. أراد أن يقطع شجر الزيتون والصنوبر المغروس بالرُّوح، الممتد إلى الشمس اللاهبة، لكنّه ما عَرِف أنّه يعمل المستحيل... المستحيل!

ثرثر الواشون حين اخترق الجَسدَ الرصاصُ، حاولوا تلقُّفَ قوس القزح، وتجريد الأغصان من أوراقها الربيعية، حاولوا أن يقتلوا أسراب الطيور القادمة محلّقة أسراباً أسراباً، تَعْبُرُ حُلكةَ الليل لتسكن قلب النهار...

حين توشَّحَ السّوادُ سواداً، وخبت الصرخات، وسارت السّبايا أمام عيون الغريب، فلا السيف نطق، ولا أسمعت الكلمات من به صمم. وداست الخيول الرقاب، وتهاوت القلوب بفأس إبراهيم «عليه السلام»، هناك هُتِكت سواتر الدجى، وأورق الجرح دموعاً ذرفتها حُرْقّةُ القلوب الثكلى... هناك هبّت جياد أصيلة عَدَت، كسرت طوق الغربان، ونثرت في أعماق الليل رماحاً غائرة موشَّحة بالأحمر القاني حدود الوطن، فتهاوى المستحيل أمام نَصْلِ سِكّين الفارس الذي أَسْرَجَ الخيل وأقسم أن بلادي لن تركع، وأن عروق الفجر لن تذوي، وأن أشرعة القادمين تروي طُهْرَ الأرض بسيوف خرجت من أغمادها تعانق المنايا وترنو لانبجاس الفجر مع أرواح متحررة في حواصل طير خضر، وبسواعد تلقف إفك الغاصبين...