دفاعاً عن ذائقتي كقارئ (حقنا في الخيال)

2017-02-09 02:39:27

دفاعاً عن ذائقتي كقارئ (حقنا في الخيال)

كما في كل مرة تقرر جهة رسمية حظر كتاب ما، بغض النظر عن أسباب المنع، أقف ضع قرار السلطة التي قررت فرض رقابة على ذائقتي، وتقرر بمنطق الوصاية غير المقبولة، ما يجب أن أقرأ وما يجب أن يحظر عني، كما يحظر الآباء عن أطفالهم الصغار –غير العاقلين قانونياً- المواقع الإباحية.

حين يطالب النائب العام في رام الله، وغيره، بحظر أو إتلاف كتاب بغض النظر عن مضمونه، يكونون قد فرضوا أنفسهم أوصياء عليّ، وقرروا أن دَور النقد المختص ليس مهماً، صادروا حقي كقارئ في أن أقرأ ما أشاء لأنتقي الجيد من الرديء، لأنتقي ما يعجب ذائقتي وما لا يعجبها، وقرروا نيابة عني وعن القراء والنقاد والمختصين بأن هذا الكتاب لا يرتقي لمستوى ذائقتي كقارئ أو قد يشكل خطراً ربما على منظومتي الفكرية أو الدينية أو الأخلاقية، ولكن من له الحق بالوصاية؟ ومن أعطاه الحق؟ سواء كان إمام مسجد أو مفتي أو نائب عام أو غيره!

أنا لا أعرف مؤلف رواية "جريمة في رام الله" التي صدرت عن دار المتوسط في إيطاليا، يحيى عباد، لم يسبق أن ألتقينا ولا أذكر أنني قرأت له من قبل، لكن صدور قرار من محكمة فلسطينية يقضي بحظر رواية استناداً إلى نص قانوني تم تشريعه لغرض آخر، هذا يعني بالنسبة لي مسألتين، رفض فكرة الوصاية عليَّ وعلى ذائقتي كمتلقي، ورفضي تأويل القوانين والالتفاف في تفسيرها، وهي مسألة لا تقل خطورة عن الأولى، بل إنها تمس صلب القضاء وروح القانون والتشريع بحد ذاته وبالتالي حقوقي كمواطن وحقي بالتعبير والاختيار.

في كل مرة يجري فيها حظر كتاب، أو مطالبة بحظره أو سحبه من المكتبات، من سلطات سياسية أو دينية أو اجتماعية، يدور ذات الجدل غالباً على وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة، ليقوم البعض "بعقد محاكمة" للكتاب ومضامينه، بعضهم قد يكون قرأ الكتاب ويختلف مع جمل أو مفردات أو لم يعجب ذائقته، أو من المتابعين للتطورات ممن قرأوا نصوصاً جزئت من سياقها، أو لم يقرأوا شيئاً من الكتاب أبداً، لتبرير قرار المنع، حيث المتلقي أحياناً لا يفرق بين الرديئ وبين ما لا يلقى إعجابه، فيعتبر أن كل ما لم يعجبه أو كل ما يختلف معه أو مع معتقداته يعتبر رديئاً، ومن حقه أن يعقد محاكمات لا تقل خطورة عن عقلية الرقيب العسكري. كما من حق القارئ أن يعبّر عن رأيه بحرية تامةً عما قرأه، من حق القارئ أيضاً أن يختار ما يشاء ليقرأ.

وفي هذا السياق أذكر كيف كانت مرحلة ما قبل السلطة الفلسطينية وما قبل عصر الإنترنت في فلسطين، حيث كانت تهرب نسخة مصورة من الكتب بين الناس، بعضها كان عادي المضمون ولا يحمل أي مضامين تشملها قرارات رقابة الاحتلال العسكرية، لكن قرر الرقيب العسكري الإسرائيلي حظرها لأسباب غير منطقية سوى أن عناوينها أو مضمونها أو ربما شكل غلافها لم يعجبه.

دور رقيب الاحتلال العسكري الذي اعتقدنا أنه انتهى مع زوال الاحتلال نسبياً عن بعض مدن الضفة الغربية وغزة، وجد من يمارسه نيابة عنه، وما أخطأ النائب العام الفلسطيني فيه أنه مارس ذات الدور، الدور الخطير الذي يفترض أنه وصي على حتى ذائقتي بالقراءة، وأستند لنص قانون خطير متعلق بحماية الأطفال من الاطلاع على محتوى لا يناسب أعمارهم، حيث جاء في قرار المنع "وردت في الرواية نصوص ومصطلحات مخلة بالحياء والأخلاق والآداب العامة، والتي من شأنها المساس بالمواطن، ولا سيما القصّر والأطفال حماية لهم ووقاية من الانحراف، بما يتنافى مع الاتفاقيات الدولية ومنظومة القوانين الفلسطينية ذات العلاقة، سيما قانون المطبوعات والنشر، وقانون العقوبات، وقانون حماية الأحداث، وقانون الطفل، الذى حظر نشر أو عرض أو تداول أي مصنفات مطبوعة أو مرئية أو مسموعة، تخاطب غرائز الطفل وتزيّن له السلوكيات المخالفة للنظام العام والآداب العامة".

أي أن النائب العام وبشكل أخر يقول للمجتمع أنتم دون السن القانوني الذي يسمح لكم بقراءة مثل هذه النصوص لأنها قد تؤدي بكم إلى الانحراف، والمضحك أن قرار النائب العام جاء متبوعاً بعبارة "لا يتنافى مع حريّة الرأي والتعبير المكفولة بموجب القانون".

تذكر هذه الحادثة أيضاً، بحادثة مشابهة قبل عدة سنوات حين قررت وزارة التربية والتعليم في الحكومة الفلسطينية التي شكلتها وتولت فيها حركة حماس مسؤولية كل الوزارات، بإتلاف كتاب "قول يا طير"، للكاتبين والباحثين الفلسطينيين، د.إبراهيم المهوي ود.شريف كناعنة، ومنع تداول هذا الكتاب في المدارس الفلسطينية. كان مضمون الكتاب نصوص ودراسة في الحكاية الشعبية الفلسطينية، وخمسة وأربعون حكاية شعبية من التراث المحكي، كانت متداولة أساساً بين الجدات اللاتي روتنها لأحفادهنّ.

هاجم المثقفون والحراكات الشعبية في الداخل الفلسطيني والخارج هذا القرار واعتبروه فرض وصاية دينية على المجتمع، واعتداء صارخاً على التراث الفلسطيني، وتم تحميل حكومة حماس المسؤولية، باعتبارها حكومة ناتجة عن تيار ديني، لكن النائب العام الفلسطيني الذي يفترض أنه يمثل سلطة وطنية فلسطينية رؤاها وتشريعاتها القانونية مدنية، يضع على عاتق السلطة الفلسطينية اليوم وسلطتها التشريعية والقضائية الوقوف بجدية على قرارات منع الكتاب وكتب أخرى، والعودة لروح تشريع القوانين التي جاءت لتنظم حياة الناس وليس لحظر حرياتهم وفرض رقابة على ذائقتهم وحقهم بالتعبير.

لعب النائب العام الفلسطيني دور إمام المسجد وأستاذ المدرسة، في تفسير القانون الذي استند إليه، ومنح صفة قانونية بشكل بآخر للقارئ العادي أو المتابع غير القارئ، أو أي شخص بعصر التكنولوجيا والإنترنت يمتلك حساباً على مواقع التواصل الاجتماعي، بأن يصبح الرقيب العسكري، ويفرض رؤاه وأهواءه على الناس وذائقتهم، ويطالب بمحاكمات وتعليق مشانق، وأحيانا تنفيذ أحكام الإعدام بالمؤلف.

قبل شهور قليلة أقدم متابع للأحداث على موقع فيس بوك، على تنفيذ حكم الإعدام بكاتب أردني أمام قصر العدل بالعاصمة الأردنية عمان، حيث قرر هذا المتابع للأحداث أنه أعلى سلطةً من أعلى هيئات السلطة القضائية في بلاده ونفذ حكمه المجنون، مثل هذا المتابع القاتل، قد أخذ مبرراته من قرارات مشابهة لقرار النائب العام الأخير.

في كل مرة يجري فيها حظر كتاب، يسجل رقماً قياسياً بالقراءات، يبحث عنه موزعي الكتب، وتجد مواقع إلكترونية بدأت تسوق لنفسها من خلال تحميل نسخ من الكتاب على صفحاتها. لذلك أتساءل، هل يعيش هؤلاء الذين يقررون حظر كتب ما في عصرنا حقاً؟ هل يحملون هواتف ذكية موصولة بالإنترنت؟