الشعر السوري في المنفى، وعالم يحرق قلبه

2017-02-16 08:00:00

الشعر السوري في المنفى، وعالم يحرق قلبه
"ربيع الألم" . السوري وسام الجزائري

الشعرهو تلك المسافة التي يعبرها كل من الشاعر والقارئ بين نارين كاملتين، بين موتين ناقصين، بين حالتين متفردتين من السؤال والدهشة والنطق الأول لكل أبجديات الأرض.

والقصيدة أم تربي أبناءها الكبار لكي يعودوا صغاراً، وهي أيضاً تلك الأم التي تعرف كيف تطبخ لهم دهشتها على نار هادئة بحيث تستوي ولا تحترق.

ولكن أي عبور يعبره الآن الشاعر السوري في أكبر تغريبة عرفها هذا القرن؟ وما الذي ستقوله قصيدته الأم التي سقط قلبها في حفرة من تراب؟ والتي سقط شعر رأسها حين مات أبناؤها تحت النعذيب؟ ماذا سيبقى فيها حين تسقط على أبنائها كل سقوف العالم، وسقوف أحلامهم البسيطة بالحياة؟ ما الذي ستقوله القصيدة الأم السورية حين صارت قلوب سكانها طحيناً من غبار؟ وكم من الملح سيملأ فمها، وقلبها، حين يغرق أطفالها في البحر؟

يقول الشاعر السوري عارف حمزة الذي وصل إلى المانيا ولم يزل يعرّف عن نفسه بأنه مقيم في الحكسة:

لا أطفئ أضواء شرفتي المطلة على البحر المتوسط 

من أجل المهاجرين السوريين 

اللذين يغرون فيه 

كل ليلة .

إن القصيدة السورية الراحلة عن دمشقها، تحمل معها كل طعم الحارات التي كانت، وتحمل كل الشرفات التي هوت، وكل الملح الذي ملأ القلب، تعجهنهم جميعهم مع طحين الأحلام وماء العيون التي رحلت وهي مفتوحة، تخبزهم في عبورها للنار، وتقدمهم للعالم الذي لا يشبع.

هذه القصيدة السورية الأم  يرحل الآن أبناؤها وقلوبهم ترتطم بأقدامهم،  يصير شاعرها السوري داخلها يتيماً، ويصير ذاك الغريب الذي يشرب ملح دموعه ويقتل نفسه كي يرى دمشقه فيه ولو مرة واحدة.

يقول فايز العباس الشاعر السوري الذي ينتقل من قبر إلى قبر:

يهرب من يسكنون أناي من الحلم 

يحتشدون على معبر الموت 

ينتقلون من القبر الذي كنته ذات عمر 

إلى القبر الذي صرته آن غادرني كل ذاك الحمام 

يمر بي الموت طفلا 

ويكبر حتى يكفن بعض شعره بعضا

ولا شيء ينجو من الياسمين 

كمصباح في بيت الأعمى، كالأشواك التي تهبها الصبارة للريح، كالسهم القتيل الذي بلا هدف لكنه يصيب القلب، يأتي شعر السوري الراحل عن حياته والذاهب لبلاد البرد، ويبقى شاعرها  يربي حياته التي تركها هناك 

يربيها ويقتلها، ويدفن حملها في القصيدة 

وداد نبي الشاعرة السورية تعترف من ألمانيا: 

كامرأةٍ سيّئةٍ، لا ملامحَ لها

تبيع جسَدها على رصيفٍ مزدحمٍ ببرلين

حفرتُ حفرةً صغيرةً

تحت شجرة زانٍ خضراء في منتزه "فيرستن فالدي"

حفرةً صغيرة تتّسعُ لأدفنَ فيها ثلاثين عامًا

وبلدًا خرابًا

ثيابي القديمة

أحذيتي في خزائنِ منزلي المتعدّدة

قصائدي القديمة

هنا في بلاد الغربة المنفى، تتحول الغابات الكبيرة إلى كائنات عارية مرعبة تشحد من السماء شمساً لا تأتي ويصير الشاعر التارك لبلاد لا يحيي فيها غير الموت سجيناً لحريته، وسجاناً لروحه التي بقيت هناك رغماً عنه والتي يريد أن يبادلها بكل بلاد العالم.

محمد المطرود الشاعر السوري يبادل غابات ألمانيا ببعض الدفلى التي كانت هناك ويعري سجنه بين قضبان المعنى وزنازين الله الواسعة:

خُذ الأشجارَ، أشجارَ السَرو العاليةِ، أشجارَ الزينةِ من الصنوبرِ والصندلِ والحشائشَ والخشبَ، الخشبَ الذي كانَ فتياً ويُسمىَّ شجرةً، واترك لنا الدُفلى فيما تَتركُ شجراً كثيراً، حينَ كانتِ الغابةُ تتنفسُ، ولم تكُن ابنةَ الموت، افعل هذا، لنتعلمَّ المرَّ ونفعلهُ بعد أن قلناه كثيراً ولم ننجَح ولم نيأس أيضاً، قدرُها أنْ تشتدَّ الحياةُ وقدَرُنا أنْ نشدَّ الصبرَ على ظهورِ دوابِنا ونرحلَ من أرضٍ إلى سواها، ونقولُ: " أرضُ اللهِ واسعةٌ" في حين ضاقت علينا كأنَّها تابوتُ.

نعم يصير الشاعر السوري الطاعن في حزنه وفي رحيله، يصير الغريب عن كل الحياة ويصير الغريب عن نفسه فهو لم يأت إلى هذي البلاد سائحاً، ولم يأت مهاجراً، ولم يأت حياً.

الشاعر السوري عمار الجمعة يخاطب من ألمانيا رسول الرؤيا كما تخاطب فريسة عين صيادها:

هنا الرؤيا يا رسولُ الرؤيا وهنا تكسّر الذاتِ على نطعِ القصيدةِ

وهنا الهبوبُ يسكنكَ، وهنا الهبوب يغادر، وهنا الصَدع والأمسُ

فأنىَّ وليتَ وجهكَ يا غريب وقد نبتَت في النفس خناجر وأكاذيب

ثَمَّ ما لا يقولهُ الحنينُ سوىَ الآه.. آهٍ تتبعُها آه

إلىَ أنْ يحطَّ الحمامُ أو يطيرَ أو يبيضَ معجزةً

قُل كلمتك يا رسولَ الرؤيا، قُلها وامضِ خفيفاً

أو نَم بينَ جمعِ الجثث!

ولا تنتهي القصيدة، ولا تنتهي جراحات الناي في صدر الحنين، ولا ينتهي الموت الجاهز لكل مقاساتنا، وبكل ألوان الوجع، هناك في الحكسة أم لم تزل تعلق قلبها في صوت يأتيها بالهاتف، وهنا في ألمانيا شاعر يأكل البرد الطويل، يشرب حليب صوتها، ويكتب للعالم أجمل وأوجع المقاطع، يقول عارف حمزة:

نتحدّث أنا وأمي يوميّاً بالهاتف

مثل أرملتين

في سنوات الحداد.

الهاتف بالنسبة لأمي

مثل "سيروم"

معلّق في يدها.

هو الشاعر السوري في المنفى يعبر ألف دائرة للنار، يمد أصابعه إلى قصيدته، يحرك فيها شعلتها، وحين تتوهج هذه القصيدة، وتصير أدباً جديداً بطعم لم يعرفه العالم، أدباً بطعم الحطب والملح، حينها وعن سابق إصرار، سيحرق هذا العالم فيها قلبه.