لم يتسنَّ لي قراءة رواية عبادي يحيى «جريمة في رام الله»، لكن عنوان الملف في رمّان، والإيحاء الفاتن في عنوان الرواية من حيث أن الجريمة تقع مجدداً، في الأرض التي بني عليها الكيان العنصري، الجريمة الأكبر في التاريخ، دفعني للعودة إلى مجموعة من الهواجس التي تشغلني منذ مدة عن المخيلة المعاصرة والخيال الحر.
لماذا يهاجم الاستبداد الخيال؟
يبدو هذا الفعل بدايةً، أنه فعل قروسطي، يذكرنا بغاليلو والحلاج والسهروردي وابن الفارض والماركيز دوساد، يعيدنا هذا إلى مساحة صراع تقليدي بين المؤسسة الدينية ممثلة الإقطاعيات الكبرى في التاريخ وبين العقل الحر في علاقته بالكون والعالم، والسؤال الذي يتراكب على ما سبق، هو كيف لهذا النزاع أن يتكرر بعد ثورة صناعية وثورات تلتها في التحرر الوطني والعلوم والعقائد والتقنيات مروراً بحربين عالميتين شرستين وثالثة تنهش أرضنا ولحومنا وخيالنا؟
تبدو هذه الاستعارة الوحشية لهذا التناقض عكس ما تنبأ به ماركس في أنها مهزلة، إنها جوهر الصراع الآني والمقبل للحفاظ على عبودية الإنسان واستلاب مستقبل المجتمع الإنساني برمته، يبدو الخيال المعاصر أول الفرسان المدافعين عن الانتماء الإنساني للكون، لقد جهدت ماكينات النظام الإعلامي والفني والأدبي والثقافي في العالم، في مجتمعات المراكز والديمقراطيات المعاصرة، وفي المجتمعات والدول المحكومة من الوكلاء، إلى إنتاج مخيلة معاصرة من شأنها خدمة وتعمّق العبودية ولجم الخيال الحر للأفراد والجماعات، الخيال الذي من شأنه الذهاب نحو الإنسان كقيمة عظيمة وأولى على وجه الكوكب.
خيال (1)
الخيال.. سقوط العقل في كمين الكون..
صدفة، كطواحين الهواء التي أنقذت سرفانتس من رماح دون كيخوتة.. أو بفعل الشغف الذي أنقذ سانشو من براثن العار المسمى (مخيلة).
بين الخيال والمخيلة هو الذي بين لحظة الاتصال بالكون، ولحظة الإتصال بالعالم.
الخيال بوابة لفرادة الاتصال بالكون وبزمنه المنفلت، الطازج، العاري إلا من ذاته.
المخيلة بوابة إعلامية للإتصال بالعالم المنجز وبزمنه المحاط بالأسلاك الشائكة، زمنها متكرر، مجاني، فضاء كوني ينفتح ما بعد التخلص من الحرية كشبكة ينسجها العقل الشرس لتنظيم الحلم في سياقات الحضارة.
المخيلة برنامج عالمي، مدينة بربرية… سياق من الفلزات محكوم بعقل أقل من الحب وأشرس من العار.
خيال (2)
العالم الآن… حيث يكرس الضحايا كل ما في وسعهم من الحلم (وهو قليلٌ بقدر الأقل الباهت الذي في خمول الأرق) كي يتثائب القتلة على أنقاض الضوء والظلام وعلى الاحتقار المطلق للطبيعة، والحق في الوجود (ذلك الحق الذي لا يحتوي على إكسير الآلهة)
حين أغني، فإن مذياعاً ينهض في ذاكرتي وحين أحب الأشجار وشواطئ مدينةٍ فاتنة ينبت أمام عيني دعاةٌ وأنبياء ومفكرون ومحللون وسياسيون ليعتقلوا مشاعري وليعيدوا تركيبها في مخيلتي على هيئة إنتماء أخرس.
وحين أقبّل إمرأة… فإن سيلاً من المحطات الفضائية تسكن في لحظة ذاكرتي وتسوطن في حدقتي كأفق وحيد للمخيلة…
حين نتخيل ما سيحدث قبل وقوعه، فإننا نغتصب غموض الصدفة، عمى الطرق السرية والمبهمة التي لا يحكمها اتجاه والتي تقود إلى الحدث الذي نسفكه، حين نتخيله قبل اكتماله، وندفعه نحو تحققٍ مختصر، يدور في أروقة العقل المريض والمتوهم بأنه يستطيع اختراق الجمال بالمخيلة.
المخيلة المعاصرة تجعلنا أفراداً لا نستطيع على السحر الخالص لغموض الأشياء، فذلك يجعلنا نشعر بأن العالم ينبض خارج أكفنا المغلق.
الشرانق والريح…
هل تستوي خارطة الأشياء على هذا المناخ المعادي للحياة، حيث ما اختبئ في شرانقه، بعد أن فاتت الريح وحملت معها إمكانية لفح الغشاء المتحجر لوعي الكون المفتوح، سيظل هناك بين جدران منامه الحي عن الحياة المديدة التي تستكمل دورتها من يمين الشرنقة الصدئة وحتى شمالها.
المخيلة تقودنا نحو النبوة في اتجاه معاكسٍ للزمن.
سوف يحدث ما تنبأنا به، حتى ولو فعلنا ذلك كحمقى بمخيلة فاترة، فإن العار الذي يكللنا حين نتخيل ما سيحدث يدفع بنا إلى فعل ذلك دائماً… مكللين بعار المخيلة الممتع.
هكذا ودائماً، نعيش ما نعي، عبر الصيرورة التي نخترعها وتتحقق نبؤاتنا لمجرد أن نتخيلها، وسيكون أي حدث نرتكبه معتقلاً لشكل وجوهر تخيلنا له.
المخيلة تلك البنت المريضة للخيال، إنها وليدة قرون طويلة من الحضارة التي لوت عنق الحلم، وابتسرت عوالمه وأخضعتها لقوانينها، لذلك فإننا نرتكب من خلالها أقسى عملية تدمير ممنهج لفضاءات الحلم الشاسعة.
المخيلة... تلك الألة المدمرة… الإمبراطور الذي يستمد سلطته من تاريخه الواضح، الدموي، والذي صنعه على أنقاض الغموض العالي للأشياء والكائنات، الغموض الذي تستمده الأشياء من فرادتها في كل لحظة جديدة...
هكذا، ينبت لمخيلة العالم عبر تصعيد الخيال بالقسوة أنياب… لتتحول مخيلة البشري إلى وحش يلتهم ما تبقى من غرابة الروح وتميزها… واستيقاظها المطلق والعابر كل لحظة بجديد أخرس ومشبع باللهاث، نحو فرادة اللحظة.
لحظة… أيتها الحياة… لحظة أيها العالم… لحظة أيها الفن… والأدب الراكض ككلب وراء مخيلة مدفوعة بقسوة، وعزله لذاته ولكل ذات في جحرها وتحت قلنسوة أمان زائف ورديئ…
أيتها المخيلة، يا وحش التعويض القميئ، اذهبي نحو الماضي، سأرميك بالكلمات كما يرمي أي طفل خائف في هذا العالم، الدبابات والجنود بالحجارة والتراب وبالقمامة.
حيث يحق لنا نحن المغفلين عن الإبداع الخارق والساحق، أن نعبر عبر الخيال برؤوسنا وقلوبنا وأطفالنا ربما… نحو الشبح المعتقل في زنازينك… المستقبل.
خيال (4)
في الغابة…
على الشاطئ... وفي البراري الشاسعة والوعور، يكون كل ما نتخيله ساقطاً في لحظة تنتمي لزمنٍ بائد.
تواجه المخيلة المعاصرة لحظتها، الجمال العاتي لاتساق الكون خارجنا، بمخالب شرسة، تستقدم من زمننا الفردي، الماضي، الصور والذكريات والسياقات البصرية… هكذا تدافع المخيلة المعاصرة عن انتمائنا السلفي للحياة، وسوف يكون علينا أن نكسر أظافر مخيلاتنا لحظتها لينطلق الخيال الخلاق والحر عبر زمنٍ حاضرٍ هو الآن، هو لحظة اصطدام الضوء مع الأشجار والوعور والجبال والمياه…
الخيال يحررنا فنغدو لحظتها أكثر قدرة على الرقص والغناء والرقص والصراخ… تماماً كما تفعل الوعول لحظة يصيبها أول المطر… وكما تفعل الذئاب لحظة تقف على المرتفعات تحت ضوء قمرٍ شاحبٍ…
المخيلة المعاصرة بماكينتها الإعلامية الهائلة، راكمت في أعماقنا الكثير من تلال قمامتها، قمامة ما نُنتج ونستهلك من الأفكار والصور والمشاعر، كي نكون معتقلين في كل لحظة مواجهة مع الجمال لألياتها، بهذا تكون المخيلة هي السياق السلفي القاتل والأول في العالم لإعادة إنتاج أرواحنا في نمطيتها المعاصرة، بينما الخيال الخلاق والحر… ينتظر كطفل في قفص لحظة الانفلات على مساحات اللعب الأكثر خطراً على حضائر أرواحنا الجماعية.
خيال (5)
ذاكرة المخيلة، تتشكل في الماضي القريب، يتم استهلاكها فور تشكلها في أرواحنا وعقولنا لإعادة إنتاج شرسة لواقع مستقر على أرض محروقة، قوامها أفراد يستظلون بالأمان الزائف في جحور من الإسمنت والزجاج والفلزات.
تكبيل المخيلة بذاكرتها المبرمجة يؤدي إلى الاستحواذ المطلق على الأفق، الأفق لوحة فولاذية، صورة تنتجها المخيلة ويتم توزيعها على الأفراد والجماعات والكيانات كبطاقات التموين.
ذاكرة الخيال ودائماً تتشكل في المستقبل.
المخيلة تغادر الآن نحو الماضي.
الخيال يمس الآن ويسبقه إلى المستقبل.