فصل من رواية «حرب الكلب الثانية» لإبراهيم نصر الله

2017-02-27 05:00:00

فصل من رواية «حرب الكلب الثانية» لإبراهيم نصر الله

مقابلة عاصفة مع (ذلك الشخص)

كان قد سمع دائما عن (ذلك الشخص) الذي لا تنتهي قضية إلّا إذا تدخّل فيها. لم يكن راشد نفسه يعرف طبيعة عمل ذلك الشخص. بعضهم قال إنه في الأمن، وبعضهم قال إنه مجرد رجل اقتصاد كبير يتحكّم في كلّ شيء. ما كان يحيّر راشد هو ذلك الذي سيقوله له. مجرد أن يتحدّث له عن القتيل، سيدرك ذلك الشخص أن راشد هو مرتكب الجريمة، وإلّا فلماذا يلجأ إليه؟

لكنه قرر أن يمضي في الأمر حتى النهاية.

اتّصل بالضابط، وهذه أسوأ خطوة يضطرّ أن يخطوها. وسأله عما إذا كان باستطاعته أن يُرتّب له لقاء مع ذلك الشخص.

- أنا؟ ارتبكَ الضابط، من أين أتتكَ فكرةٌ مجنونة كهذه؟ هل جُننتَ؟ ثم هل تعتقد أنه مستعد للاستماع إليّ؟ أعني، هل تعتقد أن باستطاعتي أن أطرُق بابه في كلّ لحظة؟! ثمّ ما هي مشكلتك أصلًا؟ هل هي بمستوى أن تُعرَض عليه؟

- آسف، قال له راشد، أظنّ أنني طلبتُ الرّقم الخطأ!

- لا، لم تطلب رقما خطأ، ولكنك تستهين بي، وخفض صوته قليلا، وبهِ، حين تطلب أمرًا مباغتًا كهذا. رؤساء وجنرالات لا يستطيعون اللقاء به متى أرادوا! تواضعْ قليلًا، واعتبر نفسك من هؤلاء!

- أنا لست من هؤلاء، ولكن لقائي به ضرورة تفوق ضرورة لقاء أيّ شخص منهم به. قال راشد.

- وما الذي ستقوله له؟ إذا كان هناك كلام مُهمّ، فيمكنكَ أن تقوله لي، ثم بعد ذلك أنقلُه بنفسي إليه.

- لكنني لا أعرف ما سأقول له بالضبط.

- لا تعرف! وتريد أن تقابله!

- سأعرف ما سأقوله بمجرّد أن أقف أمامه. صدّقني، هذا ما يحدث معي دائمًا، ودائمًا أقول الكلام الذي يجب أن يقال، الكلام الذي لو صغتُه قبل اللقاء لأُسمِعه للطرف الآخر، لكان أسوأ كلام يخرج من فمي. ألم تقل لي حين أتيتُ لخطبة سلام: إنك أفضل مُرتجِل أراه في حياتي؟

- راشد، أظن أن أفضل ما يمكن أن تفعله هو أن تكتب ما ستقوله، وترسله إليّ، وأعدكَ، سأوصله إليه دون أن أُنقِص حرفًا. نصيحتي: أغلق الخط، واكتب ما تريد، وأرسله.

.. وقبل أن يُغلق راشد الخط أو يفكر في ذلك، قطع الضابط الاتصال، فانتشر صمتٌ عميق أصمّ أذنيه، صمتٌ يشبه ذلك الذي يلي انفجار قنبلة ضخمة في جوف إنسان!

***

دار راشد حول نفسه في الصالون، ثم اتّصل ثانية. كان قد غامر أن يصعد عتبةً أعلى ليصل إلى ما يريد.

- أهلا راشد؟ لولا أنك تعزّ عليّ كثيرًا لما أجبتُ على مكالمتك. فأنت تعرف، لا بدّ، ما نحن فيه، وما نحن فيه لا أستطيع وصفه، أتعرف لماذا؟ لأنه لا يجوز لنا أن نُخطئ، أعني تجمّع مدراء القلعة السابقين مع الحالي، فاهمني؟ الخطأ دمار، دمار لكلّ شيء، لأول مرّة أحسّ أن التمييز بين أمرين متشابهين جحيم لا يطاق. أتعرف يا راشد، أريد بصيرة ثاقبة كبصيرتكَ لأرى جيدًا، أعني لكي أتّخذ الخطوة التالية الصحيحة. من المحزن أنني لا أستطيع الاستعانة بخبرتك في هذه النقطة بالذات، لأنك لم تكن تعرفه جيدًا من قبل، بحيث تُصدر حكمك الصائب، ولكنني أعدك أنني سأُقرِّبك إليه إذا ما خرجنا من كلّ هذا سالمين، بل أعدك أنني سأمنحك قوة 6 بوم، لأنني أدرك أن كرامتك لم تسمح لك بطلب قوة أقل من 3 بوم، رغم أنك كنت تعرف أنني سأعمل على منحك إياها. وصمت المدير العام قليلا وقال: نسيتُ أن أسألك عن سبب اتصالك.

تلعثم راشد وقال: ليس هناك شيء، لا أحبُّ أن أُشغل بالك بأشياء صغيرة!

- ما دمتَ اتصلتَ فيجب أن تخبرني، لئلا تُضاعف حجم قلقي في وقت كم أنا بحاجة فيه للصفاء لكي يكون حُكمي صائبًا.

- كنت أريد أن أسألك معروفًا صغيرًا هو أن تُرتِّب لي لقاء مع (ذلك الشخص).

- أنا؟ ارتبكَ المدير العام، من أين أتتكَ فكرةٌ مجنونة كهذه؟ هل جُننتَ؟ ثم هل تعتقد أنه مستعد للاستماع إليّ؟ أعني، هل تعتقد أن باستطاعتي أن أطرُق بابه في كل لحظة؟! ثمّ ما هي مشكلتك أصلًا؟ هل هي بمستوى أن تُعرَض عليه؟

- آسف، قال له راشد، أظنّ أنني طلبتُ الرّقم الخطأ!

- لا، لم تطلب رقما خطأ، ولكنك تستهين بي، وخفض صوته قليلا، وبهِ، حين تطلب أمرًا مباغتًا كهذا. رؤساء وجنرالات لا يستطيعون اللقاء به متى أرادوا! تواضعْ قليلا، واعتبر نفسك من هؤلاء!

- أنا لست من هؤلاء، ولكن لقائي به ضرورة تفوق ضرورة لقاء أيّ شخص منهم به. قال راشد.

- وما الذي ستقوله له؟ إذا كان هناك كلام مُهمّ، فيمكنك أن تقوله لي، ثم بعد ذلك أنقلُه بنفسي إليه.

- لكنني لا أعرف ما سأقول له بالضبط.

- لا تعرف، وتريد أن تقابله!

- سأعرف ما سأقوله بمجرد أن أقف أمامه. صدّقني، هذا ما يحدث معي دائما، ودائما أقول الكلام الذي يجب أن يقال. الكلام الذي لو صغتُه قبل اللقاء لأُسمِعه للطرف الآخر، لكان أسوأ كلام يخرج من فمي. ألم يقل لك الضابط حين أتيتُ لخطبة سلام: إنني أفضل مُرتجِل رآه في حياته؟

- راشد، أظنّ أن أفضل ما يمكن أن تفعله هو أن تكتب ما ستقوله، وترسله إليّ، وأعدكَ، سأوصله إليه دون أن أُنقِص حرفًا. نصيحتي: أغلق الخط، واكتب ما تريد، وأرسله.

.. وقبل أن يُغلق راشد الخط أو يفكر في ذلك، قطع المدير العام الاتصال، فانتشر صمتٌ عميق أصمّ أذنيه، صمتٌ يشبه ذلك الذي يلي انفجار قنبلة ضخمة في جوف إنسان!

***

جلس راشد محدّقًا في الأرض محتضنًا رأسه، رأسه الأشبه بوليد لم يُطلِق بعد صرخته الأولى، وليد كلّ صرخاته في داخله. استعاد ما يعرفه عن ذلك الشخص، وقرر أن يتحرّك.

ارتدى ملابسه على عجل، انطلق مُهرولًا، صعد إلى سيارة الإسعاف المتوقفة، أدارَ محرّكها، أشعل أضواءها، وأطلق صفارتها. التفتَ للأعلى، كانت الشرفات ممتلئة بأناس لم يتبيّن ملامحهم. كانوا يراقبونه.

وكم أدهشه أنه استخدم المصعد دون أن يخطر بباله الرَّاصد الجوِّيّ.

غادر الضاحية، ولأول مرّة ينتبه إلى أن شيئًا فيها قد تغيّر، راقب المرآتين الجانبيتين ليتأكد، فأدرك، أن أدقّ الصّور وأكثرها وضوحًا في المرايا لا يمكنها أن تريك الحقيقة.

كان ثمة ضوء قليل لا غير، وهو مندفع يشقّ صباح يوم يغمره ضباب خفيف. وبدت سيارات الإسعاف، التي تحوّلت إلى سيارات شرطة تعمل بنشاط، قبل أن يلاحظ أن مَن فيها يديرون وجوههم إلى الجهة الثانية ما إن تُحاذي سياراتهم المُنطلقة سيارتَه!

رغم وجود دوريات كثيرة، لم يوقفه أحد، وهذا ما أثار استغرابه. كانت البوابات الإلكترونية، على طول الطريق، ترتفع أمامه كلما أصبح على بعد مسافة مائة متر منها، وكم طمأنه هذا، وإن لم يستطع إبعاد عينيه عن الكاميرات الكثيرة المعززة برشاشات موصولة بها، رشاشات تحدّق فوهاتها حيثما حدّقت العدسات بدقة متناهية، وهو إجراء أقرّه زعماء القلعة بديلًا عن قوات الدّرك المسلحة في أي حالة طارئة تحتاج إلى حسم سريع قد تؤثر في حسمها بعض العواطف البشرية لرجال الدّرك. 

أفراد الدّوريات المتحفّزة على جانب الشارع، كانوا يشيرون له، طالبين منه أن يُسرع كلما أصبح على مسافة قريبة منهم! بل يستحثونه كما لو أنهم يعرفون أيّ مَهمَّة خطيرة تنتظره! لكنه لم يكن يستطيع أن يُسرع أكثر، هو الذي لا يستطيع تشغيل السائق الآلي بصورة جيدة، أو مضمونةٍ.

أما صهاريج الأبخرة الطبية، فكانت توقف إطلاق غيومها، قبل اقترابه من أحدها بمسافة طويلة. 

.. وأشارت له دوريّة كان يقترب منها أن يُسرع أكثر، أسرع، وبعد لحظات، رأى أربع درّاجات نارية طائرة تنطلق وراءه. خاف. أبطأ السرعة، فتجاوزه الدرّاجون وهم يشيرون له أن يلحق بهم.

أدرك أنهم يشقّون له الطريق، أسرعَ.

وما هي إلا دقائق قليلة حتى راحت السيارات تُخلي لهم الطريق. ورغم انطلاقه، لاحظَ ما لاحظه من قبل، وهو قيام السائقين بالنظر في الاتجاه الآخر ما إن يغدو بمحاذاتهم!

بعد زمن خُيِّل إليه أنه العمر كلّه، اختفت الدرّاجات، فأدرك أن عليه أن يخفّف من سرعة انطلاقه. 

فعلَها.

فجأة وجد نفسه على وشك الاصطدام بباب كبير، يقف إلى جانبيه رجلان ضخمان مسلّحان.

كبح جماح السيارة، لكنه لم يسمع صوت اصطكاك عجلاتها بالشارع، أو بأي شيء!

حين توقّفت أخيرًا، لم يعرف إن كان عليه أن يفتح الباب ويترجّل، أم أن عليه أن ينتظر حتى يُعطيه المسلّحان، أو أحدهما، إشارة بذلك.

كانا يتحدّثان، وواصلا حديثهما دون أن ينظرا نحوه أبدًا.

بعد لحظات ظنَّ أنها كافية، فتح باب السيارة وترجّل، وعندها انتبه إلى أن عليه إطفاء أنوارها الدوّارة في أعلاها، على الأقل، احترامًا للمكان.

عاد وأطفأها، لكنه ترك المحرّك دائرًا.

المدهش في الأمر أن المسلَّحَين لم يلتفتا إليه حين ألقى التحية. واصلا حديثًا لم يفهم منه شيئًا.

وحين ألقى التحية مرة أخرى، انفتح الباب الضخم، ففهم أن عليه أن يدخل، فدخل.

تلفّتَ خلفه أكثر من مرّة متوقعًا أن يتبعه صراخهما: 

- إلى أين أنت ذاهب؟

لم يصرخا، فواصل طريقه بحذر شديد. وبعد عشرين خطوة التفتَ خلْفه، كان الضباب قد اختفى تمامًا، لكنه لم يرَ طريقًا خلف السيارة ولا تحت عجلاتها؛ كأن يدًا عملاقة ضغطت الضباب بحيث أصبح ارتفاعه لا يزيد على شبر واحد! لكن الضباب أمامه كان لمّا يزل على حاله.

أخذ الطريق يصعد ويصعد، بين أشجار لا تشبه الواحدة منها الأخرى، وحامت طيور قرب رأسه، كل واحد منها من فصيلة مختلفة تمامًا عن الأخرى. لم يكن متأكدًا من أنه يسير في الطريق الصحيح أم لا. حاول أن يتأكد، انعطف جانبًا، فارتطم بضباب صلد، مدَّ يده، وحاول اختراقه، لم تتجاوز يده مسافة أبعد من شبر.

واصل صعوده. 

انتابه حسٌّ بأنه يصعد منذ أيام، وليس منذ نصف ساعة؛ كان مُتعبًا، مدّ يده وهرش وجهه. اعتقد في البداية أن ضبابًا كثيفًا قد التصق به حين حاول تغيير طريقه. تبيّن له أن لحيته طالت، شدّها برفق ليتأكّد، كانت لحيته حقًا! 

وصعد.

أحسّ بألم في قدميه، نظر صوبهما، كان حذاؤه ممزقًا تمامًا. سمع صوت السكرتيرة: اطمئن، سأتابع الأمور، لا تقلق، فأنا سعيدة أنك حدّثتني من البيت أخيرًا. استدار. كانت خلْفه كتلة هائلة من ضباب كثيف تتبعه على بعد مترين لا أكثر.

وصعد..

وفجأة، وجد نفسه أمام بابِ مبنىً ضخم، مبنىً تشبه واجِهته حبات رمان ملتصقة بعضها ببعض، وله من ورديّتها شيء كثير.

التفتَ يمنةً ويسرةً، فلاحظ وجود حراس أشداء يحملون بنادق غير متشابهة لم يرَ مثلها من قبل.

وفُتِح الباب، فخرج منه الضابط نفسه. كان في حالة ذهول تامّة بحيث لم يرَ راشد، راشد الذي فكّر في أنه قد يكون تسرَّع في القدوم، فها هو شقيق زوجته يأتي حاملًا لذلك الشخص الرسالة التي لم يكتبْها ولم يرسلها! لكن ما لفت انتباه راشد أن هناك آثارًا واضحة لعشرة ثقوب في بزته العسكرية.

زمن طويل مرّ، قبل أن يُفتح الباب ثانية ويخرج منه رجل ضخم، لم يكن صعبًا على راشد أن يدرك أنه المدير العام. كان، هو الآخر، في حالة ذهول، والثقوب العشرة في بزته أكثر وضوحًا. همسَ المدير العام وقد حاذاه: ويْلكَ! إنه الشخص الوحيد الذي لا تتمنّى أن تراه.

ومرَّ زمن، قبل أن يُفتح الباب.

انتظر خروج أحد ما، متوقِّعًا أن تكون السكرتيرة هذه المرّة. لكن أحدًا لم يخرج، فأدرك أن عليه أن يدخل. 

بوجل تقدّم نحو الباب، وما إن اجتازه حتى أُغلِق خلفه.

واصل تقدُّمه نحو باب آخر، فُتِحَ بمجرد وصوله إليه. كان ثمة كرسيّ في الصالة البيضاء الواسعة، ظهْره إليه، وكذلك ظهْر الرّجل الجالس عليه.

تحرّكت يدٌ كما لو أنها صوتٌ، طالبةً منه أن يبدأ الحديث.

فتح فمه، ليتكلَّم، وقد أحسّ بالكلمات تتسابق فوق لسانه، وقبل أن ينطق أوَّلها، سمع صوتًا يقول له: أظنُّ أنّ ما قلتَه يكفي! لقد أوضحتَ أكثر مما يجب! ونهض الرّجل، واستدار مُحدِّقًا في راشد.

وقف راشد متجمِّدًا، وأحسَّ بالكلمات التي لم يقلْها، الكلمات التي لامس بعضها شفتيه، ترتدُّ عائدة إلى الوراء بذعر.

كان ذلك الشخص هو راشد، بلحمه ودمه.

- كنتُ أعرف أنك ستأتي إليَّ بنفسكَ آخر الأمر، وأخرج سلاحًا لم ير راشد مثله من قبل، وأطلق عشر رصاصات عليه.

ترنّح، فأمره: لا تمُتْ هنا.