فصل من رواية "خانات الريح" للسورية سوسن جميل حسن

2017-03-25 06:00:00

فصل من رواية
للسوري فاتح المدرس

 وافي السوري ورأس "غونتر"

لو بقيت هناك لكنت هدفاً للموت بسكين أو برميل، مصيري كمصير مئات الألوف حيث ماكينة الموت لا تهدأ، كم تُهدر حيوات وطاقات ومواهب برخص وعنجهية ووحشية؟ لكنني هنا الآن، هنا ومسكون بي، أنا المتشكل خلال عمري هناك، أنا الخزان الهائل من كل شيء يصنع منه الإنسان، ماذا سيحصل لكل ما راكمته خلال أعوامي السبعة والثلاثين؟ أين سيذهب ذاك العمر الذي يحيّرني اليوم؟ لا أعرف ما هو العمر بدقة، لكنه أعوام نرصفها ونمضي، لا، ليس زمناً ننجزه أو ينجزنا، إنه ما نقدمه للموت صاغرين إلى وقت يحين موعد المواجهة معه. كنت أحزن كل عام يوم عيد ميلادي، أحزن على ما خسرته من عمري ومن سنين محسوبة لي، لم يكن يرضيني أن العمر قصير إلى هذا الحد، وكانت فكرة الموت باكراً ترعبني، فأنا أريد أن أحيا وأحيا، أريد أن أرتشف الحياة حتى ثمالتها، فأرعبني أن الموت قريب حدّ قصف الحياة في كل لحظة، زرع الذعر في صدري منظر الأطفال وهم يتناثرون أشلاء محترقة أو نازفة، أشم رائحة شوائهم تفوح من شاشة التلفزيون. كيف أحب الحياة والموت ينتظر أطفالي فيما لو فكرت بإنجابهم؟ هربت، هربت وما زلت أهرب لكن المنفى البعيد النائي عن ذاكرة الموت لا أبلغه، الموت يلاحقني. حتى القدر تواطأ معه، لماذا انتظر القدر حتى أصل إلى هذه البلاد ثم كشّر عن أنيابه الصفراء؟ صفعني بكفه الحاد وأفهمني أن موتي قريب، وأنني مهما هربت منه سوف يلاقيني، زرع في دماغي خبثه وأخذ يغذيه ويكبّره حتى يستمتع بموتي المدوّي، هل هو خبث يكبر ويتنمّر في رأسي؟ أخشى ذلك، أخاف من مواجهة الأطباء، ذاك الطبيب أكّد لي بأن ما أعاني بسببه ليس ورماً خبيثاً، لكن علاجي سيطول، لا بدّ أنه يتهرّب من مواجهتي بالحقيقة، هو لا يريد أن يخبرني بأن موتي وشيك. لكنني سأكون أمكر من الموت، سأفوّت عليه فرصة إذلالي، سأختار ساعة مصيري وليس موتي، أنا لن أموت نكاية بالموت، بل سأحيا بطريقة أخرى وأسخر منه، سأحيا برأس غونتر، وسيحيا غونتر بجسدي، سنربح الحياة وسنلهي الموت بما لسنا بحاجة إليه فليلعب لعبته ويتسلى بما تعطّل في كيانينا، أنا لست بحاجة إلى هذا الرأس المصاب بورمين، ورم يأكله، وآخر ماكر لم تكشفه الأشعة ولا كل وسائل التشخيص الأخرى، ورم الخيبة، ورم الندم، ورم الذهول، ورم الهزيمة، ورم الأحلام المجهضة، ورم الطموح الأخرس. ورم يتكثّف في رأسي منذ أن انسدلت الستارة عن شياطين لم أكن أعرف أنها موجودة في الحياة فإذا هي مختبئة وجاهزة بطاقاتها المكنونة لتنفلت في لحظة كنت ادخرت لها الكثير من الفرح، لحظة الحرية.. أين أنت أيتها الحرية؟ تخليتِ عن فقراء بلادي، تركتهم وهربتِ ولا زالوا ينزفون الدم بحثاً عنكٍ؟ هل سيمنحني غونتر ما فشلت في الحصول عليه؟ هل ستنفع حياتي القادمة حرية يعيشها غونتر بتلقائية التنفس ونبضان القلب؟ الحرية التي دفع أثمانها أجداده وآباؤه فصارت حالة تُعاش وليست حلماً بحاجة إلى التفكير به والتخطيط له؟ هل ستنفعني حرية غونتر أنا وافي السوري القادم من تلك الأرض البعيدة التي لا زال كل حلم أو مشروع مهما كبر لا يمكن أن يتحقق بالإرادة إنما بالدعاء إلى الله والصلوات والعبادة والرجاء؟ 

قطع رأسي سيكون رحيماً، لن أتألم، لن أتذكر، لن تشخص عيناي، ولن يتدفق الدم من عنقي، والأهم من ذلك كله أنني سأحيا. لا أستطيع الجزم بأن بعضي سيحنّ إلى بعضي، فأنا لا أعرف الكثير عن ذاكرتي بالرغم من قدرتها الرهيبة على الاحتفاظ والتخزين والتدفق بطلب أو بدون طلب. لا أعرف أين تقع هذه الذاكرة بالضبط. يُقال إنها في الرأس، في الدماغ، في قشرته تحديداً، لكن ما أهميتها من دون جسدي؟ كيف كانت تتشكل بينما أنا أكبر وأشكّل منظومة معارفي ورموز وعيي؟ كيف لها أن تمدني في لحظة بخبرة تشكلت خلال الزمن لولا فضل جسدي عليها؟ كيف أتقي النار، من دون أن أفكر، لولا أن جسدي تعرف على حريقها؟ هل كانت ستعمل مثلما هي لو أنني خُلقت وبي نقص في بعض وظائف أعضائي؟ كيف كانت الذاكرة ستتشكل لو كنت لا أشعر بالسخونة أو البرودة؟ أو لا أميز لون النار؟ وربما لا أشم رائحة الاحتراق؟ كيف أشعر بالجوع فيما لو كانت معدتي لا تبالي؟ كيف يخفق قلبي ويجتاح جسدي ذلك الشعور المربك الجميل عندما أتذكر نوّارة لولا لمسة يدها المطبوعة على جسدي، ومذاق شفتيها الشهي في فمي، ومنظر جسدها الضاج بالحياة والرغبة المرسوم على شبكية عيني؟ كيف يحصل كل هذا من دون جسدي؟ لست واثقاً مما تعلمته قبل الآن وتلقيته على أنه الصح، فأنا أؤمن بالعلم ومنجزاته مثلما أؤمن بالعقل وقدرته على استثمار طاقاته وذكائه، لكن التجربة التي أتخيّلها في بالي خربطت كل مفاهيمي، لم أعد قادراً على الوثوق الكامل بمفهوم قبلته فيما مضى، فمقولة أن أجسامنا تعبر عن أذهاننا صرت أشك في صحتها اليوم، الصلة بين الانفعال والتفكير والتجربة الحسية ليست بالضرورة أوامر باتجاه وحيد، يعني أن الرأس يعمل والجسد يلبي. طيب جسدي الذي يتصل برأس آخر هل سيلبي عندما يتذكر هذا الرأس ذاك الجسد الذي عشقته والتحمت به وشممت عرقه ولمست نبضه وحرارته وارتشفت رحيق رضابه؟ كيف سيتذكّره وهو لم يستقبل قبل ذلك نبضات الرغبة التي يرتجف جسدي بها؟ إنها ذاكرة جسدي قبل أن يعتليه رأس غريب، كيف سيولّف هذا الرأس إدراكه لمتع كانت بالنسبة لي تحملني على أجنحة شهوة مجنونة؟ وهذا الجسد الذي توّجت نوّارة بالتحامها به إبداعه في فن الوجود، هل سيفتح بواباته على وعي ذلك الرأس أم سيغلقها؟ 

سؤال أعياني أكثر من غيره، سؤال السيادة. ليست السيادة بمعناها السياسي أو الاجتماعي، بل السيادة في حال كحالي، رأس وجسد من منشأين مختلفين، لمن السيادة ستكون؟ هل هي سيادة الرأس المزروع على الجسد الجديد؟ أم الجسد الجديد الذي يحمل الرأس المزروع؟ ربما الصورة غير دقيقة، أو عرض الحالة من الأساس يفتقر إلى الدقة، فلماذا مسبقاً نعتبر الرأس هو المزروع وليس الجسد؟ أنا جسدي سيُزرع على رأس آخر، وذاك الآخر سيُزرع رأسه على جسدي، من منا الآخر؟ هو آخري وأنا آخره، فهل سنتآخر هو وأنا في حالة فريدة سيكون من الصعب شرحها؟ ربما هي حالة كثيفة من التآخر. فتنتني هذه الكلمة عندما قرأتها كعنوان مقالة لمجلة الآخر التي لا أعرف إن كانت توقفت عن الصدور، فنحن في سورية مشغولون عن العالم منذ ما يقارب الخمس سنوات، والعالم مشغول عنا فينا. تآخروا، .... فهل سنتآخر أنا وهو؟ هو وأنا؟ الآخر الذي هو نحن؟ في الحقيقة لا أعرف بماذا أسمّي ذلك الآخر الذي سينجم عنا نحن الاثنين، فبحسب قانون لافوازييه الذي درسناه في الإعدادي، قانون مصونية المادة، نحن نصف الآخرَيْن، نصفي ونصفه. لا، ليس نصفي ونصفه، هذا الذي سينجم عنّا هو نصفنا بالضبط، فهو سيدفن جسده وأنا سيدفن رأسي، وسيجتمع جسدي مع رأسه، أما رأسي مع جسده فلن يجتمعا في قبر واحد. هنا سندخل في إشكالية جديدة، كيف سيدفن رأسي؟ وكيف سيدفن جسده؟ أنا سأحل هذه القضية بوصية سأتركها بتوقيعي، سأكتبها غداً مثلما سأرتب كل أمر من الأمور التي خطرت في بالي قبل أن يتفاقم وضعي وأبدأ الدخول في غيبوبة طويلة، لا زلت أملك الأهلية. لا أريد أن يُدفن رأسي وفق طقوس دينية، أليس من حقي أن أتصرف بجزء من جسدي كما أريد؟ إنها إرادتي وحريتي التي ثرت من أجلهما ليس منذ اليوم الأول الذي تظاهر فيه الشعب السوري مطالباً بالحرية، إنما ثورتي ابتدأت منذ اللحظة التي بدأت أدرك فيها ذاتي واختبرت القيود التي تأسرني وتعيق إبداعي لحياتي.

ليست العقاقير التي يعطونني إياها هي التي ستمدني بالشجاعة، لا. ربما توفر لي قدراً من السكينة وتخفف اضطرابي، لكن إرادتي، وقراري الذي سأتخذه بملء إرادتي وبقناعة كاملة هما ما يوفران لي فرصة التفكير بحد أقل من الاضطراب. ليس من السهل أبداً أن يمتلك الإنسان السيطرة على انفعالاته في انتظار اللحظة التي سيتحول فيها وجوده بالكامل إلى وجود مغاير، وكيف؟ بقطع رأسه. أنا سيقطع رأسي، ربما في اللغة الطبية يسمون العملية باسم آخر، التسميات تضفي الشرعية على بعض الأحداث وتغير من دلالات الرموز. ما الفرق بين قطع رأسي على طاولة عمليات في غرفة مجهزة بأرقى التجهيزات الطبية وأذكاها، تحت التخدير وبأدوات جراحية وأيدي أطباء مهمتهم وغايتهم صون وحماية الجنس البشري وتخفيف الألم عن الإنسان، وبين أن يفصل بساطور مقاتل ملتحٍ تعرض هو الآخر لغسل دماغه وحقنه بالعنف والثأرية تحت اسم المقدس وراية الدين والإسلام؟ أظن أن الفرق يمكن التفكير به كثيراً، مع أن الفارق لا يعدو أن يكون أكثر من فارق بين كلمتين: جريمة، ورحمة. 

ترى هل "غونتر" الذي سأتشارك وإياه في صناعة آخرنا يفكر مثلما أنا أفكر؟ هل هناك فرق في معنى الموت بين أن يدفن المرء جسده أو يدفن رأسه؟ كنت أتمنى لو أنني ضالع باللغة الألمانية أكثر، أو لو كان غونتر عارفاً باللغة العربية أكثر فربما كانت ستتوفر لدينا إمكانية البوح أكثر. مؤكد أن لديه هواجسه مثلي، لكن هل لديه أوهامه ومخاوفه مثلي تماماً؟