عن بشار إبراهيم وصباحات الموت المرّة

2017-04-04 01:00:00

عن بشار إبراهيم وصباحات الموت المرّة

رأيتُ منشوراً جديداً على جدار صفحة بشار إبراهيم في موقع الفيسبوك، قفزت، ووقع قلبي، فهذا الجدار الأزرق هو علامة الحياة الوحيدة في شتات فلسطيني أبدي لا يجمعنا فيه مع أصدقائنا سوى هذه الوسائل.

بشار الذي توفي قبل عدة أيام، وحين عرفنا خبر وفاته كان قبلها "أون لاين" بحوالي الساعة والنصف كما بينت الخاصية الزمنية في المحادثات.

إن هذا الموت الإلكتروني يبدو أصعب من الحقيقي، فهذا الحضور "الماسنجري" هو الحضور الوحيد بيننا، فتشعر كأنك تستطيع أن تمد يدك لتعود ساعة ونصف من الزمن فتسلم عليه، وتربت على كتفه، وتقول له "إنت حبيبنا الطيب يا بشار.. مثلاً"، ومثلاً هي متلازمة منشوراته على الفيسبوك، التي كانت ترسم على وجوهنا الابتسامة.

بعد أن مرت ثواني، استوعبت أن ابنته ليلى من كتب المنشور الذي قالت فيه: "كثير من الكلمات كانت تلاحق مقدمة أفكاري، فلم أعلم كيف سأبدأ سطري الأول، ولم أعتد الكتابة عن عزيز غائب، وكيف عساي أصفه، وهو من عجزت العقول عن تصديق فكرة غيابه. أبي، قرأت وسمعت وتخيلت لحظات وداعك كيف ستكون، لكني لم أتأهب لتخبط المشاعر، فشوقي يزداد وقوتي تضعف. أبكي متألمة، أحدثك بعبارات شكوى وعتاب، ودموعي تحمل الكثير من الشوق ولوعة الفراق…".

كلمات ندية، عطوبة، خجولة، تركتني من جديد أمام فقد هذا الصديق العزيز الذي تعرفت إليه أول مرة عبر قلمه المميز عام 2011، وبادرت إلى مراسلته وإضافته، ومن ثم عام 2012، بادر هو وعاتبني على مقابلة نشرتها تتحدث عن اختفاء مصير أرشيف السينما الفلسطيني الذي كان بشار يحتفظ بنسخة رقمية عن غالبية أفلامه، وهي نسخ نادرة، لا تجدها حتى عند مخرجي الأفلام ذاتها.

وكان سبب العتاب أن المقابلة التي أجريتها مع المخرج الفلسطيني غالب شعث تضع  سيناريو مختلفاً تماماً لاختفاء أرشيف السينما الفلسطينية، وقد راسلني بشار يومها كاتباً "الإسرائيليون نهبوا خلال اجتياح بيروت، كل شيء فلسطيني، بدءاً من مركز الأبحاث، إلى مؤسسة الدراسات، إلى الأرشيف السينمائي. ثمة من يقول إن هناك مستوعبات في مباني وزارة الدفاع الإسرائيلية تحتوي كل هذا، وهناك باحثون إسرائيليون يحاولون الوصول إلى هذه المواد لدراستها. كما كانت ثمة محاولات جدية من قبل السلطة الفلسطينية لاستعادتها من الإسرائيليين".

الآن، حين أقرأ الرسائل أتفهم تماماً مكمن غضبه وغيرته على الحقيقة، واقتناعه أن التاريخ حدث واحد ولا يمكن أن يكون اثنين، وهذا ما يبدو كان صعباً عليّ تقبله بهذه البساطة وقتها، بحجة أن ضيف الحوار واثق من معلوماته.

ويُعتبر بشار حافظاً لذاكرة السينما الفلسطينية التي دمرها وبعثرها الاحتلال الإسرائيلي، وعمل على توثيق المراحل السينمائية زمنياً بحسب سنوات الإنتاج، وكان بدأ مشواره الأدبي مع كتابة القصة القصيرة قبل أن ينتقل إلى النقد السينمائي منتصف التسعينيات، ليعود إلى كتابة القصة القصيرة، إذ انتهى مؤخراً من مجموعة قصصية ستنشر عن دار المتوسط، وفي يوم وفاته كان من المفترض أن يبدي رأيه بغلاف الكتاب، إلا أن الزمن لم يمهله ذلك.

أعود وأراجع الرسائل بيننا فأجد أن آخر رسالة كانت في فبراير من العام الماضي يخبرني فيها عن عمليته التي أجريت له في الأحبال الصوتية، انقبض قلبي حين رأيت الرسائل، كيف لم أعد لسؤاله مرة أخرى عن أحواله، وكيف تأخذنا الحياة ولا نعود نسأل عن الطيبين.

ولاحظت أنني لست الوحيدة فأغلبية الأصدقاء، كان هناك بينهم وبينه سؤالاً لا يزال معلقاً وموعداً قادماً، ومكالمة لم تحصل، ورسالة بقيت في البال.

إن هذا الغياب المفاجئ للأحباب يترك لدينا شعوراً كبيراً بالذنب أننا لم نتواصل أبكر من المعتاد، وتزداد حيرتنا إزاء اختيارنا أن نبتعد عن التسامح والمبادرة، والمحبة التي لا تنتظر مقابل.

ومع كل هذا الحزن المباغت إلا أنني لم أعد محتارة أمام أسئلة الاختفاء العبثية، لقد رأيت الموت قادماً في كل لحظة خلال ثلاثة حروب، ورأيت الناس يموتون وهم يتعانقون ويأكلون ويشاهدون التلفاز، رأيت الصواريخ تنزل بينهم وهم يستمتعون بفنجان قهوة عند باب الدار أو يحتفون بـ"فسيخ ورنجة" عيد الفطر، أو يضحكون على نكتة قديمة، ليصمت كل شيء ويتحول إلى ذكرى عند من بقي حياً.

إن أخبار الموت في صباحات الغربة، لا تعني سوى مزيد من شعور الاغتراب، كأنك تعرف منذ زمن أن هذا الفقد سيحدث لك، فالغربة تحمل بين طياتها كل توقع بالأسوأ.

يتوارد الآن إلى خاطري كل الموتى الذين غابوا وأحبابهم بالغربة؛ ابن عمي إبراهيم استشهد، وشقيقه الكبير بالغربة، ولم تترك والدة الشهيد الباكية سماعة الهاتف، تُحدّث ابنها المغترب، فيواسيان بعضهما، علَّ الصوت يعوّض الفقد، لكن كل يوم يمر كان كأن إبراهيم استشهد بالأمس، وكأن إمكانية وداعه لا تزال تنتظر قبل أن تأخذه الأقدار المتعجلة.

كما لا أنسى غرق صديقنا الفنان محمود فرج في البحر الأحمر، وكانت والدته بالإسكندرية، وكنتُ بغزة أنتظر ولادة ابنتي التي حاك لها محمود الرسومات خصيصاً، تلقيت والدته الخبر عبر الهاتف من ابنها الكبير، وأنا تلقيته عبر الهاتف أيضا من شقيقي الذي كان يدرس في مصر، وتخيلوا حين تتلقون خبر موت الابن والصديق غرقاً خلال إجازة صيف عادية، كيف يصبح هذا الموت تاريخاً تقيس على معيار ألمه كل شيء.

إن الهاتف يبدو مرعباً أحياناً، والآن هذا الفيسبوك يبدو أسرع وأكثر قسوة وأقل تصديقاً.

بمنتصف التسعينات لم يكن هناك فيسبوك، كما لم يكن هناك هواتف محمولة بل الهواتف الأرضية التي تلقينا عبرها خبر وفاة جدي الشيخ عبدالله، وكنا بالإمارات، حاول والدي نقل الخبر تدريجياً لوالدتي التي كانت تحاول الاعتياد على الغربة وقسوتها مقارنة بمخيم رفح الحميم، لكن التدريج لم يفلح معها ولن يفلح مع أحد، إن موت الأحبة صدمة وغصة بالقلب لا تخففها التحضيرات أو التوقعات، وأذكر أنها لم تستطع النهوض من السرير حزناً على جدي، وكان والدي يعتني بنا لفترة طويلة من الزمن. إن الحزن يمنعك عن الحياة لكن لا بد لكل شيء أن يرجع كما كان.

سمعت كثيراً عبارة "نعمة النسيان" لكني لم أفهمها إلا حديثاً، إنها قوة الحياة باستمرارها دون الأحباب، كأن الموت عذر لا تراجع عنه ولا شك فيه، فتمر الأيام ويطوي القلب ملامحهم وذكرياتهم، لتطل وجوههم أحياناً من بين غبش العُمر.

في الحرب يأتي الموت مشاعياً فنكون أكثر تسليماً به، كأنه قدر لا بد منه، يعزينا أن هناك مع الذاهبين كُثر، لذلك لا غرابة إذا ما روى أحد الناجين بأنه حين خرج من إبادة الاحتلال لمنطقته مر على ابنته أو ابنه ملقى على قارعة الطريق لكنه لم يتوقف، كأنه يعرف أن لا رجعة للموتى، فالذي يمكن أن يوقنه بعد عدة أشهر من الموت العادي، تختزله الحرب لتشعر به بعد لحظات من موت أحبابك.

إن الحزن على وفاة الأحباب في الأيام العادية أكبر منه في الحروب، حين رأيت الآباء والأمهات يحملون أطفالهم القتلى في عدوان 2014، كان التشييع حالة عامة لكل شيء، فهؤلاء الموتى مجرد أجساد حطمتها القذائف لكن الأرواح صعدت جميعها معاً فراشات وعصافير، لذلك لا تهم أي ثلاجة تحويها؛ ثلاجة آيس كريم أم خضروات.

ذلك الصباح المبكر في الثالث من أغسطس، حمل خبر استشهاد عمي وعائلته، كان يوماً لم تمشِ الأيام بعده أبداً، إنه أكثر من مر، وأكثر من فجيعة، لذلك لن يصلح معه الحزن الاعتيادي والنواح الذي يشبه أي نواح. إن للموت في الحرب حزنه الخاص، وصمته المقدس، وزفرة التسليم.

كل هذا الموت حولي لم يشعرني بالخوف أثناء تغطيتي لثلاثة حروب، كأن شيئاً لن يصيبني في مدينتي، اليوم في الغربة أنا على العكس تماماً، أخاف وأتحسس هذه الصباحات التي أستيقظ فيها على أخبار الفجيعة، وأستغرب أن العالم أثناء نومي كان يضج بالحياة والموت معاً، معتقدة أنه سيكون يوماً آخر من روتيني المعتاد لكني أكتشف أن آخرين انتهى روتينهم إلى الأبد.

كان الخبر الأول بوفاة صديقتي شيراز يوسف ورأيت الخبر في تعزيةٍ هكذا دون مقدمات على الجدار الفيسبوكي الأزرق، والآن أراه أيضاً هكذا دون مقدمات مع الناقد بشار إبراهيم. وكل ما أتمناه لنا جميعنا هو ألا نفجع عبر هواتفنا وصفحاتنا الإلكترونية بمن نحب، وأن لا نترك الأيام تمر دون أن نقول كل ما في قلوبنا، فالفراق قادم لا محالة.