الأرض تدور بدءاً من المخيم

2017-04-13 08:00:00

الأرض تدور بدءاً من المخيم
للفلسطيني أسامة دياب

ليس من عادة الشمس أن تتوقف عن الشروق لأي سبب.. وأحياناً ليس من حقها. وليس من عادة العصافير أن تكف عن الغناء... وأحياناً نلومها إن لم تفعل. والأرض تدور... وليس من حقها أبداً أن تتوقف عن الدوران..

في المخيم كنا متأكدين أن كل شيء يدور حوله، كل الكون يبدأ من المخيم... وينتهي في حاراته.

فجأة توقفت عن دورانها في مخيم اليرموك... لماذا؟ وكيف أمكنها ذلك؟! من أمرها؟! وأية قوة شيطانية استطاعت أن تفرض إرادتها عليها؟!!

عشرة من الأطفال وُضِعوا على مدرجات لعبة دموية، وعليهم أن يلعبوها.. ليسوا عشرة، هم آلاف من الأطفال شاء القدر أن يولدوا في سوريا...

حين كنا صغاراً كنا نكره المدرسة، نكره الوظائف البيتية، نكره الاستيقاظ باكراً، وارتداء الصدرية ثم الذهاب إلى المدرسة، كنا نحلم ونحن في الطريق إليها أن تأتي طائرة وتلقي عليها ما تحمله من مواد متفجرة، فلا يبقى لها أثر..

تلك الطائرة التي زارت سماء المخيم يوم السادس عشر من كانون الأول سنة ألفين واثنتا عشرة حققت حلمنا الطفولي، لنكتشف بعد قليل أنها هدمت أحلام آلاف الأطفال في المخيم وحرمتهم من هذا الحلم الجميل، حرمتهم من أن يكون لمدرستهم عنوان محدد، وأن يحملوا كتبهم ومقاعدهم وأحلامهم ليجدوا مكاناً أكثر أمناً بحسب خريطة المعارك، وزوايا نظر القناصين المتربصين لكل ما يتحرك في المخيم، ليختبئوا في مدارس بديلة تحت الأرض، لأن الطائرة لن تتوقف عن ملاحقة أحلامهم واصطيادها، وأحياناً اصطيادهم هم أنفسهم.. إنها الحرب التي لا تميز بين من يحمل كتاباً ومن يحمل بندقية، لا تميز بين رجل وامرأة، بين كبير وطفل، إنها المساواة الحقيقية التي عجزت عنها كل ثورات التاريخ، فالموت حق متاح للجميع، شريطة ألا يكون لهم ذنب.. يكفي أن تكون في المخيم لتمنح هذا الحق..

كان ذنبهم أنهم انتموا إلى هذا المكان، مخيم اليرموك، أية لعنة هذه؟! كان يمكن بحكم الصدفة أن ينتموا إلى أي مكان آخر ينعم به الطفل بالرعاية والحماية والأمان، ويضمن لهم مستقبلهم ببساطة، يستطيعون أن يلعبوا ويشاغبوا بأمان ولهم حقوق أيضاً.

كان يمكن ألا يخافوا وفي النهاية ألا يموت منهم أحد!!! نعم كل هذا كان ممكناً. 

علي محمد، أنس محمد، تسنيم فتيان، آدم خليل، سلمى خليل، شهد يوسف، محمد يوسف، حلا النابلسي، ماهر السهلي، أغيد حاج عمر.

حتى أبسط حقوقهم فقدوها. هم لا يعرفون شيئاً من تلك الحقوق، فهم من بلاد لا تحترم حتى حق الشمس بالشروق، ولا حق العصافير بالغناء..

دون ن يقصدوا حملوا قضيةً هرب العالم بكل جبروته من وجهها.

أردنا إبعادهم عن شبح الحرب والصراع القاتل.. كنا في سباق مع هذه الأشباح، وغالباً الأشباح هي التي تسبق.. هكذا اعتدنا على الأقل.

ومع ذلك كان لابد من المحاولة التي تلتها محاولات إلى ما لا نهاية، كان هناك وقت كاف لإبعادهم من طريق الجهل.. ولكن ليس من طريق الموت، فالوقت لا يمكن أن يسمح بإبعادهم عن قذيفة عمياء قاتلة.

قُتِل أنس حين كان عائداً إلى البيت مع والده خالد، وقتل أغيد وهو يطعم الحمامات على سطح داره، وقتلت حلا وهي تكتب وظيفتها... دفنوا ثلاثتهم مع أحلامهم، ثلاث قذائف لم تُبقِ منهم سوى الذكرى ووجع لن يزول من أفئدة أمهاتهم، هناك في قلب المخيم.. 

البحر تجربة بسيطة ففيه خياران لا أكثر، شهد ومحمد يجتازانه برفقة أبيهما وأمهما ويشاء القدر ألا يبتلعهما البحر، ولعله كان أرحم من كل البشر.. يصلان إلى ألمانيا وإن لم يجدا فيها ما سعى والديهما إليه فإنهما وجدا الأمان على الأقل وهذا كاف مبدئياً.. فهنا لا خطر من الموت جوعاً، وقد ينسيا صوت القذائف ولون الدم...

هناك يلتقيان من جديد بأيهم أحمد موسيقار المخيم، الذي سبقهما بحراً إلى أوربا، ولكن رحلته حظيت باهتمام إعلامي لم يكن يحلم به، أيهم لن يعتمد عليهما هنا ولن يطلبهما للغناء معه، لأن شيئاً تغير، صار أقرب إلى المحترف منه إلى الوجه الذي كان يمثله في المخيم، هناك في ألمانيا حصل على جائزة بيتهوفن للموسيقا وهو يستحقها، ولكن لم تعد تكفيه جائزة فرح الأطفال، لم تعد المدرسة الدمشقية التي بدأ فيها حفلاته الأولى مدرباً للأطفال مغرية، طموحه أصبح أن يعزف في أكبر المسارح في ألمانيا وربما في العالم أجمع.. ولعلنا نجافي العدل إذا أنكرنا عليه هذا الحق.

كان الحظ كريماً مع آدم وسلمى، فالحكومة الفرنسية توافق على طلب أبيهما للجوء إليها.. وهناك يجدان مدرسة لا تشبه مدارسهم التي هدمت وحرموا منها.. إنها أفضل بكل المقاييس لكن لا ذكريات لهما فيها، عليهم أن يتعلموا لغة جديدة، ويصادقوا أطفالاً آخرين، ألعابهم مختلفة، وكذلك لا يحملون هموهم ذاتها، وربما يحلمون أحلاماً مختلفة أيضاً.. فمن يحلم بمخيم غيرهم؟!

هما لا يعرفان أن الأمر ليس بهذه البساطة، ولا يعرفان أن ما ينتظرهما ليس كما يظنان، لا يعرفان أن مجرد لون بشرتهما سيكون له أثر كبير في مستقبلهما، وأن كونهما مسلمين فإن نظرة جزء كبير أم صغير من المجتمع الجديد ستكون مختلفة: بعض الريبة، وبعض النبذ، وربما الكثير من العنصرية.

يسعى آدم إلى الانتقال من المدرسة التي بدأ دراسته فيها عندما نزل في فرنسا، لأنه يريد أن يبدأ من مدرسة لا أحدَ يعرف فيها أنه جاء حديثاً، فهو لا يريدهم أن يتعاملوا معه على أنه غريب، ربما يشعر أن في هذا شفقة وهو لا يريدها، ولا يريد ان تنحصر علاقته باللاجئين مثله، يريد أن يتعرف الفرنسيون عليه ويتعرف عليهم..

حتى الهواء له طعم آخر، قد يكون ألذ، ولكنه مختلف على كل حال.

مختلف عن ذلك الهواء الذي ما زال علي وماهر وتسنيم يتنفسونه، ومن يدري متى سيتنفسون هواء مختلفاً؟! قد لا يحبونه ولكنه ألذ..