عن جدل الحصار لسينما الداخل الفلسطيني

2017-04-18 06:00:00

عن جدل الحصار لسينما الداخل الفلسطيني
من فيلم «فيلا توما» لسهى عراف

في كل مرة تعتذر فيها مهرجانات عربية عن قبول أو عرض أو تمويل فيلم لمخرج من فلسطينيي الـ48، غالباً للأسباب نفسها، تعود أسئلة التمويل والتطبيع للواجهة بين مؤيد ومعارض، كما حدث قبل أشهر بعد قرار مهرجان بيروت السينمائيّ رفض عرض فيلم "أمور شخصيّة" 2016 للمخرجة الفلسطينيّة مها الحاجّ، للسبب ذاته، حصوله على تمويل إسرائيليّ. 

في مهرجان كان الدولي، حيث أشيد بالفيلم بعد عرضه مؤخراً، عرّفت المخرجة فيلمها بأنّه "إنتاج إسرائيليّ" لمخرجة فلسطينية، واعتبرت أنّ سؤال التمويل غير مهمّ، كما نقلت إحدى الصحف الإسرائيلية.

كتب رامي منصور في فسحة ثقافية مقالاً، معلقاً على ذلك بالقول: "قد يكون سؤال التمويل غير مهمّ بالنسبة للمخرجة التي نال فيلمها إشادة كبيرة، لكنّه مهمّ بالنسبة لنا، لأنّنا في حالة صراع مفتوح على هويّتنا وكياننا وروايتنا التاريخيّة، وهو مهمّ أيضًا للناشطين في الحقل الثقافيّ بالوطن العربيّ، الذين يهمّهم عدم الوقوع في جُرم التطبيع".

في المقابل كتب المخرج الفلسطيني عامر حليحل، وهو أحد الممثلين الرئيسيين في فيلم أمور شخصية، مرافعة شخصية أبدى خلالها تفهمه وفريق العمل لقرار مدير مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، يوسف شريف رزق الله، "الذي أبدى إعجابه بالفيلم، فنياً وسياسياً، وأثنى مطوّلاً على الطاقم، وأسفَ لأنه لن يستطيع عرضه في مهرجانه لخوفه من فخّ التطبيع مع إسرائيل. لكون الفيلم مموّل من صندوق السينما الإسرائيلي". ويشير حليحل إلى أنه قال وآخرون في حينها: "كنا نود أن يكون الفيلم بأموال غير إسرائيلية، لكن كل الصناديق العربية لم تنظر بطلب الفيلم لأن القائمين عليه من فلسطينيّي الداخل. وليشير أيضاً إلى مسألة غالباً ما تخضع للجدل بقوله: "حقنا في استرجاع أموال الضريبة التي ندفعها لجهاز الدولة الإسرائيلي كمواطنين".

لم ينته الجدل، وأنا شخصياً لم أتمكن حتى الأن من مشاهدة الفيلم، وربما لم أجد وسيلة لمشاهدته لأسباب المنع والحظر التي تواجه تلك الأفلام القادمة من داخل فلسطين المحتلة، تلك السينما التي تحمل خصوصية هويتها وظرفها. وقبل أن أطرح هذه التساؤلات على المخرجة سهى عراف التي مرت بظروف مشابهة، سألته لنفسي، كفلسطيني أعمل في صناعة الأفلام، أحمل جواز سفر صادر عن السلطة الفلسطينية، ولا أجد عائقاً إن امتلكتُ الشرط الفني المناسب لأن أتحصل على دعم من إحدى صناديق الدعم العربية أو أواجه مشكلة حظر لفيلمي بسبب جواز سفري: هل حصولي على تمويل إسرائيلي ضمن تلك الظروف يعادل حصول فلسطينيّي الداخل عليه؟

قبل عدة أعوام، رفضت إدارة أحد مهرجانات السينما العربية عرض فيلم "فيلا توما" الذي كتبت له السيناريو أخرجته سهى عراف، بحجة تمويله الإسرائيلي، على الرغم من حكايته الفلسطينية، المأخوذة من أحداث حقيقية، ومن أن ممثليه من فلسطينيي الداخل. عانت مخرجة الفيلم الذي لاقى الإشادة في المهرجانات الدولية، من مشكلة عرضه في مهرجانات السينما العربية. وبعد سنوات حاولت المخرجة الحصول على دعم إنتاج عربي من إحدى صناديق دعم الإنتاج التابعة لأحد المهرجانات العربية لإنتاج فيلمها الثاني، فقوبلت مرة أخرى بالرفض بحجة أن الدعم المقدم للعرب لا يشمل حملة الجنسية الإسرائيلية!

ما حدث مع المخرجة سهى عراف ومها الحاج، يحدث مع صناع السينما الفلسطينيين، في الداخل المحتل، من رفض وتهميش من قبل المؤسسات العربية التي ترفض عرض أفلامهم أو تمويلها. وقد أتفق شخصياً مع من يراها محاولةً لتهميشهم أو إجراءً عقابيًا لبقائهم في أراضيهم المحتلة. أو ربما "سوء فهم لوضعهم" كما تعتقد سهى عراف.

إننا أمام مسألة خطيرة تواجه صناعة السينما الفلسطينية التي ولدت في ثلاثينيات القرن الماضي في يافا، والتي تعاني فقراً في التمويل، وانعدامًا لسوق الصناعة، وعقابًا للفلسطينيين الذين حملوا جنسيةً فرضها عليهم الاحتلال الإسرائيلي، كما لو أنهم هم المشكلة وليس الاحتلال. كما تعيد تلك القضية طرح سؤال هوية الفيلم الفلسطيني، الذي غالبا ما ينتج بتمويل أجنبي، وينتجه أو يخرجه صناع أفلام في الشتات الفلسطيني حول العالم، يحملون وثائق سفر أو جنسيات دول لجوئهم!.

توجهت للمخرجة سهى عراف التي تُعد من كتّاب السيناريو المميزين فلسطينياً، بعدة أسئلة حول ما حدث معها، سواء في مشاركة فيلا توما أو محاولة حصولها على دعم عربي لفيلمها الجديد. أبلغتني بدايةً بأنها تلقت مؤخراً دعماً بسيطاً من صندوق لدعم الأفلام في الدوحة بعد رفض متكرر. وتعتقد أن ما يحدث بين فلسطينيي الداخل والعالم العربي هو سوء فهم وعدم وعي بالتركيبة الخاصة للفلسطينيين الذين بقوا في أراضيهم منذ النكبة وما بعدها وقاوموا التهجير، وهو أيضًا محاولة لغض النظر عما يعانيه هؤلاء في الواقع.

تستغرب سهى من المهرجانات العربية التي ترفض مشاركة أفلام فلسطينية تلقت دعماً إسرائيلياً لأسباب خاصة، في دول تحوي بعضها مكاتب تجارية إسرائيلية وترفع أعلام "دولة الاحتلال"، مضيفةً: "وحين يتعلق الأمر بنا نحن الفنانين الفلسطينيين من الداخل يتم تصنيفنا كإسرائيليين وبالتالي رفض دعمنا أو مشاركتنا، هنالك نفاق كبير، وخاصة في الخليج العربي، هنالك علاقات تتحدث عنها إسرائيل بصراحة مع تلك الدول، وهنالك سيارات من دول الخليج العربي تزور إسرائيل وهي تحمل أرقامًا عربية خليجية، وهذه العلاقات معروفة رغم أنها غير معلنة بشكل رسمي من الجانب العربي، لكن حين يتصل الموضوع بفناني الداخل الفلسطيني المحتل نصنَّف كإسرائيليين ونُقاطع. وبسبب حصارنا، سواء من إسرائيل نفسها أو من العالم العربي، بتنا نشعر أننا نعيش داخل فقاعة وداخل حواجز، سياسية وثقافية وأخلاقية".

وعن دوافع الحصول على التمويل الإسرائيلي توضح سهى "بالنسبة لي شخصياً، فإن الدافع للحصول على تمويل إسرائيلي، هو أن فيلم "فيلا توما" كان فيلمي الروائي الأول، ولم تقدّم الجهات العربية الدعم لنا بسبب جواز سفرنا، فبديلنا هو الحصول على الدعم الأوروبي، والذي يشترط الحصول على دعم لا يقل عن 20% من البلد الذي أحمل جنسيته، وبالتالي فإنني ملزمة لأحصل على دعم أوروبي، أن أحصل على الدعم الإسرائيلي أولاً، كوني للأسف أحمل الهوية الإسرائيلية، وعليه فإن الأوروبيين يعاملوننا كإسرائيليين.

ومثل حليحل، تذكّر عراف بأنها أيضاً من دافعي الضرائب لدولة الاحتلال، "هنالك مشكلة تضعنا في دائرة مغلقة، معضلة البيضة والدجاجة، أنا واحدة من مليون ونصف فلسطيني في الداخل نحمل الهوية الإسرائيلية التي فرضت علينا، وندفع الضرائب، وبالتالي فإن من حقي أن أسترد الضرائب التي أدفعها على شكل دعم فني لإنتاج فيلمي، وفي نفس الوقت يصعب علي كثيرًا رؤية لوغو لإسرائيل عليه، ويصعب علي أكثر أن أمثل إسرائيل في المهرجانات الدولية، وبالتالي ما الحل؟ الحل حسب رأيي هو وجود صندوق تمويل فلسطيني للدعم بدلاً من توزيع التهم علينا بالتطبيع. في حين أن دعاة المقاطعة لا يرون هذه الأمور بجدية يطالبوننا فقط بالمقاطعة بدون الإشارة للمشكلة وبدون التطرق للبدائل".

ناقشت هذه المسألة أيضاً مع الناقدة السينمائية علا الشيخ، والتي رأت أن تختصر المسألة بجملة "أنا مع التطبيع مع فلسطين"،  مشيرة أنه ليس مجرد شعار، إنما "لقربي الشخصي من مخرجي الداخل المحتل، أصبحت أكثر دراية بمعاناتهم التي تجعلهم دائما محط اتهام".

وإنها لتفهمها الظرف الخاص تتناسى "مسألة التمويل الاسرائيلي التي تأتي بعد جهد من قبل غالبيتهم للحصول على دعم من جهات عربية تتعامل معهم في كثير من الأحيان، عندما يتعلق الأمر بالتمويل، على أنهم حاملوا جواز سفر إسرائيلي، متناسين الواقع المؤلم الذي يحمله الفلسطيني حامل هذا الجواز، وتتطور المسألة إلى مقاطعة أفلامهم وعدم عرضها. لكل جهة الحرية في ذلك، لكن لا أستطيع أيضاً ألا أشاهد أفلامهم التي تكون فلسطينية جداً، والتي أتمنى أن يحظى القدر الأكبر من المشاهدين في المنطقة العربية والعالم بمتابعتها".

أتفق شخصياً مع علا الشيخ، وأتفهم وأدعم مبررات سهى عراف وزملائها في الحصول على التمويل الذي يعد عائد ضرائبهم وحقهم، ضمن ظرفهم الخاص بمصادرة هويتهم ومحاولة إلغائهم، ولكون السينما أحد أصواتهم التي يعبرون بها عن أنفسهم وقضيتهم وإشكاليات حياتهم اليومية المعقدة، وأرى أن يخضعوا لمحاكمة سينمائية من ناحية المضمون والشرط الفني، لا من ناحية جواز السفر المفروض عليهم.

تقول علا: "الحالة بالنسبة لي عاطفية تجاه فلسطينيي الداخل، لذلك أطلق عليه التطبيع مع فلسطين وليس مع إسرائيل". وأنا شخصياً أعتبر أن المسألة أكثر من عاطفية، إنها مسألة حقوقية إنسانية، متعلقة بصنّاع أفلام حققوا شرطهم الفني في ما كتبوه وأخرجوه من أفلام استحقت حصولها على دعم إنتاجي، لتصل العالم وتوصل قضاياهم عبرها، ولطالما أن الواقع الناتج عن تجاهل أو سوء فهم لخصوصيتهم، يفرض عليهم الحصول على بدائل كالتمويل الإسرائيلي والأوروبي، فهذا حق لهم، لأنهم ليسوا الطارئ على الحالة العربية أو المشكلة، بل الاحتلال. فلنقاطع الاحتلال وليس الفلسطينيين!