الرواية صادرة عن دار "هاشيت أنطوان" – دمغة "نوفل". ننشر الفصل بمناسبة صدور الطبعة الثالثة.

الفصل الثاني من "مديح لنساء العائلة" لمحمود شقير

2016-09-08 00:38:45

الفصل الثاني من

كنت في بدايات تفتّح وعيي على الحياة حين وقعت الكارثة. كنت في الثامنة، ومع ذلك لم تكفّ أمّي عن تكرار القول وهي متباهية بي: أنت هالحين رجل. فكأنّها تستعجل الوقت ولا تطيق الانتظار. وكنت مطلاًّ على الحياة اليوميّة لأمّي، قريبًا منها على نحو حميم. كان أبي دائم الانشغال بشؤون العائلة والعشيرة، يغيب عن البيت طوال النهار تقريبًا، أو يظلّ منشغلاً مع الرجال الذين يأتون إلى مضافته. كنت أتردّد على المضافة بين الحين والآخر ثم أغادرها، وأعود إلى أمّي فأشعر إلى جانبها بالأمان، إلا عندما تكون متطيّرة معتكرة المزاج، أو تكون منهمكة في تبادل الهمس مع إحدى الجارات. آنذاك، كانت تقصيني عنها، فأبتعد من دون ضجيج.
أنزلت أمّي الرايات السبع التي رفعتها على سطح البيت لأنّني شفيت من السعال الديكي. أنزلتها مضطرّة لأنّ مزاجها لم يكن يحتمل أقلّ هفوة. ولم أدرك يومها كلّ شيء يدور حولي، إلا أنّني عرفت أنّ ثمة قتلاً وإراقة دماء وتشريدًا للفلسطينيّين. واستمعت إلى قصص يرويها أناس أعرفهم وآخرون أراهم للمرّة الأولى ثم يغيبون. كانت الأمور مختلطة والحياة لم تعد تسير سيرها المعتاد.

وكنت كلّما أتيحت لي فرصة أصغي لما يقوله الناس في مضافة أبي. يأتون للاستماع إلى الأخبار من مذياعه الوحيد الذي لم يكن لدى عشيرة العبد اللات سواه، وللإحاطة بما حدث ويحدث في البلاد على ألسنة شهود عيان يحلّون ضيوفًا على أبي. أسمع عن الفظائع التي ارتكبتها العصابات الصهيونيّة ضدّ الناس، عن مجزرة دير ياسين التي بُقرت فيها بطون النساء الحوامل، عن مجزرة الدوايمة التي قتل فيها، من بين الذين قتلوا، مئة وسبعون طفلاً، واغتصبت فيها النساء. عن تهجيرهم القسري من بيوتهم. وأسمع دويّ القنابل على القدس، فأخاف.

وكانت نجمة، زوجة عمّي عبد الودود، تعمل في بيت موظّف في أحد البنوك. يقع البيت في حيّ الطالبيّة. هناك، في الطالبيّة وكذلك في القطمون، كانت تقيم النخبة الميسورة من الموظّفين والتجّار والمثقّفين المقدسيّين. زوجة عمّي كانت تخرج من بيتها في حي المغاربة في القدس القديمة كلّ صباح قاصدة حيّ الطالبيّة، لتنظيف بيت الموظّف ولإعداد الطعام له ولزوجته التي تعمل معلّمة، ولأولادهما الذين يعودون من المدرسة بعد الظهر. نجمة كانت قانعة بحياتها في خدمة حنّا وعفيفة، وكانت على قناعة بأنّ تصرّفها كان صحيحًا حين غادرت راس النبع وسكنت في المدينة. إلا أنّ العائلة كان لها رأي آخر، خصوصًا عندما خلعت نجمة ثوبها الطويل ولبست الفستان. كان أخي محمّد الصغير يتحدّث عنها باشمئزاز ويقول: الملعونة بنت حرام. وتردّ أمّي عليه: نجمة بنت حلال، وهي أنثى كاملة التكوين. بعض نساء العائلة كنّ يحسدنها على جمالها الذي لم ينل منه إلا قليلاً عسفُ الزمان.

لَمّا اقترب الخطر من حيّ الطالبيّة. قالت نجمة إنّها ارتعبت من دويّ القذائف وأصوات طلقات الرصاص، وتوقّعت أنّ مجدها البسيط الذي صنعته بجدّها واجتهادها على وشك أن ينهار. وهي مشفقة على نفسها وعلى حنّا وعفيفة اللذين سوف يتشرّدان إنْ هما اضطرّا إلى مغادرة بيتهما الذي عاشا فيه طوال سنوات.

غادرت الحيّ عائلات كثيرة بسبب الهجمات المتكرّرة على الأحياء المجاورة، وبدا أنّ الهجوم القادم سيكون على حي الطالبيّة. ترك الناس بيوتهم وأثاث البيوت وكلّ ما يملكون وغادروا، تركوا الصور العائليّة على حيطان البيوت، والبدلات والفساتين والمعاطف والقمصان في الخزائن، والكتب على الرفوف، والورد ونباتات الزينة الأخرى في أواني الفخّار. تركوا غرف النوم وهي مسدلة الستائر وغادروا، ولم يحملوا معهم سوى أمتعة قليلة وفيض الذكريات (ستذكر مريم، زوجة أخي محمّد الكبير أنّ بيت المربّي خليل السكاكيني الكائن في حي القطمون تمّ الاستيلاء عليه، وفيه من أمّهات الكتب ما فيه).

عرضت نجمة على حنّا وعفيفة أن يسكنا مع أولادهما في بيتها في حيّ المغاربة إلى أن تنجلي هذه الغمّة، رغم اعتقادها بأنّها لن تنجلي إلا عن خسارة فادحة. مع ذلك، حاولت التخفيف من وقع المأساة عليهما، قالت: إن شاء الله الأوضاع تهدأ ، والناس يعودون إلى ممارسة حياتهم مثل المعتاد.

ابتسما بحزن وهما يستمعان إلى كلامها، ويواصلان في الوقت نفسه اختيار بعض أمتعتهما لكي يحملاها معهما.

بعد سقوط الجزء الغربي من القدس، غادر حنّا وعفيفة وأولادهما بيتهم في حيّ الطالبيّة. وعادت نجمة إلى حيّ المغاربة الذي لم يسلم من تساقط القذائف على بيوته الواهنة. ظلّت متشبّثة ببيتها ومعها زوجها عبد الودود. وكان القتال على أشدّه في القدس.

نوال، ابنة نجمة وعمّي عبد الودود، تعمل معلّمة في مدرسة بالمدينة، ولديها ثلاثة أبناء من زوجها الذي يعمل طبيب أسنان. وهي نادرًا ما تزور راس النبع. تقول: لماذا أزورها والناس فيها ما زالوا يحملون عقليّة البرّيّة التي جاءوا منها، وليس لهم إلا القيل والقال؟ 

كانت تنفر من نساء العشيرة، وكنّ ينفرن منها، ويتّهمنها بالتعالي عليهن، وحين يضمّهنّ مجلس في الصباح أو في المساء يجدن في استغابتها مادّة دسمة للحديث، يشرّحنها من شعر رأسها إلى أخمص قدميها، ويتّهمنها بأنّ الخطيب عبد القادر الذي تعلّمت على يديه القراءة والكتابة كان على علاقة بها. تدّعي إحداهنّ أنّه كان يداعب بيديه رمّان صدرها. تهزّ أمّي طوقها وتذكر اسم الله سبع مرّات، وتطالب نساء العشيرة بعفّة اللسان وبالكفّ عن رمي المحصّنات بمرّ الكلام. فلا يرعوين ولا يتوقّفن عن الغمز واللمز، بل يواصلن ذلك إلى أن تتوسّط الشمس كبد السماء، أو يبزغ قمر خجول من وراء الأفق.

احتمل أبي تعريض نوال بالعشيرة وبأهل راس النبع، ولم يكفّ عن التفاخر أمام أصحابه من تجّار القدس، بأنّ ابنة أخيه متزوّجة من طبيب.

كان قد طلب يدها لأخي أدهم قبل زواجها من الطبيب، إلا أنّها لم تقبل به زوجًا، فأصيب أدهم بصدمة تركت أثرًا بيّنًا عليه، ورسمت له مسارًا لا يخلو من مفاجآت. احتمل أبي الغصّة وأبقاها في صدره، مثلما احتمل غيرها من الغصّات. وكنت أرى في ذلك عبئًا يضاف إلى أعبائي، أنا المكلّف بجمع شتات العائلة، رغم أنّ هذا الذي حدث مرّت عليه سنوات، إلا أنّ آثاره ما زالت باقية حتّى الآن تحفر في جسد العائلة ولا تفارقه بأيّ حال.

ولم تكترث نوال له. نسيته في الحال، وواصلت العيش خارج السور في الجزء الشرقي من القدس. واصل عمّي عبد الودود ونجمة العيش في حيّ المغاربة قرب السور. أحبّ عمّي وزوجته هذا الحيّ للروابط الحميمة التي نشأت بين الجيران، ولأنّ فيه الدليل على احتضان القدس للتعدّدية وتجاور الأجناس. جاءه المغاربة من شمال إفريقيا ليحاربوا مع صلاح الدين الأيوبي ضدّ الفرنجة، ولتحرير القدس من غزوهم، وجاءوه حجّاجًا إلى المسجد الأقصى وسكنوه، ثم صاروا مقدسيّين. كان لعبد الودود أصدقاء مغاربة في الحي، وكانت نجمة مرتاحة للإقامة فيه. ولحسن الحظّ لم يتعرّض بيتها للأذى ولم تصبه القذائف التي كانت تنصبّ على الحيّ من جهة الغرب.

رغم ذلك، أصيبت نجمة بخيبة أمل، وشعرت بأنّ ما جرى أكبر من قدرتها على الاستيعاب، شتمت هؤلاء الأغراب الذين اقتحموا حياتها وسبّبوا لها قلقًا على مصيرها وعلى مصير البلاد. ولطالما تحسّرت على حيّ الطالبيّة، وعلى الحياة المريحة هناك. تذكّرت حنّا وعفيفة والأولاد، وتساءلت عن مكان إقامتهم الجديد. قالت: أكيد صاروا شرقيّ النهر.

حاولت غير مرّة قطع الطريق التي اعتادتها في الذهاب كلّ صباح إلى حي الطالبيّة. إلا أنّها كانت تصطدم بالأسلاك الشائكة وبمنطقة الحدود التي تفصل شرق القدس عن غربها، فتعود من حيث أتت. أخبرت عمّي عبد الودود بما كانت تفعله، حذّرها وقال:

– ديري بالك يا نجمة، يقتلونك.

ثمّ عرفت أنّ حنّا وعفيفة عادا من عمّان بعد الهدنة وانتهاء القتال، وضياع الجزء الأكبر من فلسطين. وأنّهما استأجرا بيتًا في حيّ الشيخ جرّاح. عرفت ذلك صدفة حين كانت ذاهبة إلى الحمّام. هناك التقت مع عفيفة، وعانقتها بمحبّة واشتياق. وعادت للعمل في بيتها كما كان الحال من قبل، مع غصّة لا تفارقها، لكنّها تخفيها ولا تسمح لها بالظهور.

ظلّت الغصّة ملازمة لأبي طوال سنوات. طلبتُ منه أن يرأف بحاله، لأنّ شجون العائلة أكثر من أن نحصيها. كان هذا بعد رفض نوال الزواج بأدهم بسنوات. ظلّ أبي مهمومًا، وفتح أدهم قلبه لي وحدّثني عن كلّ شيء، فأثنيت على ثقته بي، إلا أنّني بقيت مشغول البال على أبي، وقلت له: انتبه إلى صحّتك يا والدي. ولم يعجبه أن أصبح ناصحًا له بعد أن كان ناصحًا لي. قالت أمّي: الأفضل أن تترك والدك يتصرّف مثلما يريد.

– أنا أرغب في إراحته.

– أعرف قصدك يا بني، وأعرف طبع والدك، هو لا يحبّ أن يوجّه أحد إليه النصائح كأنّه طفل صغير.

– أنا لم أتعامل معه على أنّه طفل، رغم أنّه مع التقدّم في السن أصبحت له في بعض الأحيان تصرّفات طفل.

– اسكت يا ولدي، بلاش أبوك يسمعك.

وأنا قلت له: يا أبي لا تؤاخذني إن أخطأت، وهو قال لي: أنا لا أزعل منك يا ولدي يا محمّد.

شكرته وجلسنا نتسامر في مضافته، وأمّي غادرتنا وهي تردّد جملتها المألوفة: أنا ذاهبة إلى الفراش لأريح هالعظْمات.

في ظلّ هذه التقلّبات، تزوّجت عمّتي معزوزة بعد أن طال انتظارها، ولم يأتها خطّاب في أعقاب انتهاء فترة حدادها على حبيبها حرّان بن حفيظة. تنفّست أمّي الصعداء لأنّها كانت تعطف على معزوزة وتتمنّى أن يأتيها ابن حلال. جاءها ابن الحلال مع فوج الجنود الأردنيّين الذين دافعوا عن القدس القديمة عام 1948. أصيب الجندي صايل بجرح في الكتف. تمّ إسعافه في مستشفى ميداني، ولم يبرأ جرحه إلا بعد وقت. تعرّف إليه أثناء القتال أخي يوسف. جاء به إلى بيتنا في راس النبع ليقضي فترة نقاهة، تعرّف خلالها إلى عمّتي معزوزة. أحبّها وأحبّته، وهي أكبر منه باثنتي عشرة سنة. كانت في الثانية والأربعين. إلا أنّه شغف بها. روت مثيلة، زوجة أبي، أنّ معزوزة كانت تقدّم له طعام الفطور بنفسها. قالت إنّها سمعت هديلها منطلقًا من داخل الغرفة، الهديل الذي كان يفصح عن شهوتها وظلّ ملازمًا لها، ثم رأتها بالقرب من صايل وهي تغسل جرحه بالماء والصابون، وتضمّده بشاش أبيض نظيف.

خطبها صايل من والدي منّان. وقال إنّه لن يفرّط فيها، وستعيش معه مثل ملكة. قال مخاطبًا أبي: أحطّ معزوزة في عيني يا عمّي. تمّ العرس من دون زغاريد وغناء، لأنّ فلسطين كانت تسقط في أيدي الأعداء. تزوّجها صايل وأقام في راس النبع بضعة أسابيع. قالت مثيلة، ونقلت عنها الكلام نساء العائلة الأخريات: رائحة الزوج أعادت لمعزوزة الروح، وقالت: بدنها تفتّح، وخدّاها تورّدا، وبدت أصغر من عمرها.

غادر صايل راس النبع ومعه عمّتي معزوزة إلى مأدبا التي أقامت فيها سنوات، على مقربة من ضرّتها، زوجة صايل الأولى. وكم كنّا نفرح ونحن نزورها في بيتها هناك، ونسمعها وهي تتكلّم باللهجة التي تتميّز بها نساء مأدبا الأردنيّات!

ولم يكن أخي محمّد الكبير تعرّض لعسف الحكومات بعد. كنت أرى فيه شخصًا مثيرًا للفضول. أتحمّس له ولأفكاره حينًا وأتوخّى الحذر منه حينًا آخر. ظلّ يعمل في حديقة القبر المقدّس ومعه مريم التي أصبحت زوجته. وكانت المدينة بمسلميها ومسيحيّيها تنهض من عثرتها وتستعيد قدرتها على التحدّي والبقاء.

عاش أخي مع زوجته في بيت استأجراه خارج سور المدينة. قيل إنّه سافر معها إلى اليونان، وهناك تزوّجا في الكنيسة الأرثوذكسية بعيدًا من الطقوس المتّبعة هنا في القدس، وقيل إنّهما أبرما عقد زواجهما في كنيسة البشارة للروم الأرثوذكس الكائنة في مدينة الناصرة. وثمة من قال إنّ أحد قادة الحزب الشيوعي أبرم لهما بخطّ يده عقدًا موقّعًا منه ومن اثنين من الشهود، وبذلك تمّ الزواج. لم يطلب أحد، في حدود ما أعلم، توضيحًا من أخي عن تفاصيل ما حدث، وهو لم يقدّم توضيحًا لأحد، كان يقول باختصار: المهمّ أنّنا، أنا ومريم، توافقنا على الزواج.

ولم يغضب أبي من زواجه بمريم، بل إنّه دعا لها بالخير والبركة لأنّها قبلت به زوجًا لها، وهو الذي كان متهتّكًا لا يستقرّ على حال.

وكانت أمّي تعطف عليه، وتتعجّب من شاربيه الكثّين اللذين أطلقهما بعد رحلة قام بها هو ومريم إلى روسيا. عرفت أمّي أنّ زعيم تلك البلاد اسمه ستالين، وله شاربان كثّان، صار المتحمّسون للاتحاد السوفياتي يطلقون شواربهم تشبّهًا بشاربيه.

ولم يكن شاربا أخي هما المشكلة، مثلما لم يكن أخي وزوجته هما المشكلة. وما دمت مكلّفًا بجمع شتات العائلة، فلا بدّ من الاعتراف بالهمّ الذي اعترى أبي وأعمامي وبقيّة أبناء العائلة والعشيرة جرّاء ما فعلته فلحة. عادت فلحة، وهي أختي من أبي، بعد غياب. شاهدتها حين جاءت إلى راس النبع مع أخي فليحان. لم تعرفني لأنّي لم أكن ولدت عندما هربت من بيتنا في البرّيّة مع حبيبها نعمان. قال فليحان: أنا أغفر لها الزلّة، وأضع اللوم على أبي في ذلك الزمان. وقال: جاءه بائع الحلاوة ليخطبها ويتزوّجها على سنّة الله وسنّة رسوله، لكنّه لم يستجب لطلبه.

أخبرتني أمّي وضحا أنّها قالت لأبي آنذاك: يا منّان، ما دامت فلحة تقبل أن تكون زوجة له، فلماذا ترفضه؟ قال لي: يا وضحا، أنت لا تعرفين في هذه الأمور، والأحسن لك أن تسكتي. قالت إنّها سكتت. وقالت إنّها لم تعد مقتنعة بأنّ شخصًا من الإنس هو الذي جاء لطلب يد فلحة للزواج، بل هو جنّي ظلّ يأتيها على هيئة إنسان ثم أغواها بالذهاب معه إلى مكان ما.

قال أخي فليحان: أمّي مثيلة كانت راغبة في تزويج فلحة ببائع الحلاوة، لكنّها ذهبت إلى الحج والمشكلة ظلّت بلا حل، والحلّ جاء من أختي. لمّا تنكّر أبي لرغبتها هربت مع حبيبها. وقال: فلحة أوقعت أبي في مشكلة مع أنّه هو الذي خلق المشكلة، وأنا جئت بها إلى راس النبع لأنّني أرغب في تجديد ما انقطع بيننا وبينها. أقامت في بيتنا بضع ساعات، ثم عادت مع أخي فليحان إلى المخيّم الذي تقيم فيه مع زوجها نعمان. وكان على أمّي أن تعيد النظر في ما اعتقدته في وقت سابق.

وقال فليحان مستذكرًا ما جرى: كنت أشوف امرأة وجهها لا يخفى عليّ. أقول هذي تشبه أختي فلحة. لكن أختي ماتت من زمان. ذبحها عمّ والدي بعد أن عثر عليها في إحدى القرى. وصرت أراقبها. بعدين كنت أنساها. كانت دائمًا ترمي نظرها نحو الأرض. وفي إحدى الليالي، حلمت أنّي قابلتها. سألتها: أنت أختي فلحة؟ قالت: نعم. قلت: أنا أعرف أنّ عبد الجبار ذبحك بالشبرية.

وقبل أن تردّ علي، استفقت من النوم، وقلت: عليّ أن أسأل تلك المرأة من تكون؟

أخذتُ الأغنام إلى المرعى وانتظرت حتّى جاءت نساء المخيّم وبناته. دقّقت النظر في أوّل فوج ولم تكن معهن. دقّقت النظر في الفوج الثاني وشفتها. اقتربت منها، ولَمّا شافتني نظرت في وجهي وأنا نظرت في وجهها، هي عرفتني وأنا عرفتها. صحت بصوت ملهوف: فلحة! صاحت بصوت ملتاع: فليحان! باستني على خدّي وبستها على الجبين. قالت لي: كنت أشوفك ترعى الأغنام، ولا أنتبه لك ولا أنظر في وجهك. لكن لَمّا اقتربت منّي، عرفتك.

وأنا لَمّا كنت أشوفها تغطّي رأسها بمنديل وتلبس الثوب وتحته سروال طويل، ما كان يخطر ببالي أن تكون هذي هي أختي فلحة.

قالت: كنت أقيم مع زوجي نعمان في قريته: الوسميّة. وقالت: أنا ونعمان وأهله وأهل الوسميّة هاجرنا منها مجبرين بسبب الطخّ والذبح والعدوان.

***

قال أخي فليحان:

صارت تميل إليّ بالتدريج، قالت إنّها مخطوبة لابن عمّها وبعد أشهر يكون الزفاف. قلت لها إنّني أحبها، وأحبّ سراويلها الداخليّة الطويلة، ثم حرّضتها على تركه. قالت إنّها لا تحبّه ولا تكرهه. قلت لها إنّني على استعداد للزواج بها، وما عليها إلا أن تعلن رفضها له. قالت إنّها تقارن بيني وبينه فتجدني أقرب إلى قلبها منه. أعلنت أنّها تقبل بي زوجًا لها. يومها كنّا وحدنا في الخلاء. طوّقتها بذراعيّ، أبدت مقاومة واهنة، ولم أرتدع، مدّدتها على العشب، نزعت سروالها عن جسدها، وقشعت ثوبها إلى أعلى وبان البياض، وغبت عن الدنيا وغامت عيناي، ثم فتحتهما، وكم كان العشب من حولنا أخضر! 

بعدها، خافت واعتقدت أنّني لن أفي بوعدي، ولن أتزوّجها، إلا أنّني بقيت وفيًّا لها. وكان عليها أن تخطو الخطوة الأولى. قالت: ما عدت أذوق طعم النوم.

اتّفقت معها على رفض خطيبها علنًا. قالت: لمّا أعلنت رفضي غضب مني أبي وأمّي وأخوتي، وغضب خطيبي.

تشاورت معها حول الخطوة التالية، فاتّفقنا على أن تغادر البيت لتحلّ دخيلة في بيت الشيخ زعل، زعيم عشيرة المزاعلة. أطاعتني وغادرت المخيّم خلسة. قالت: بقيت أسابيع في بيت الشيخ. أرسل ثلاثة من أبناء عشيرته إلى أهلي، يخبرهم بأنّني معزّزة مكرّمة في بيته، محاطة بالأمن والأمان.

وقالت، كأنّها تحمّلني مسؤولية ما وقع لها، وتستعيد ما خبرناه معًا: أنكرني أبي، بعدين انصاع للأمر الواقع، لكنّه لم يوافق على عودتي إلى المخيّم. تركني أخطب وأتزوّج وأنا بعيدة من بيت أهلي، مع موافقته على أن تحضر أمّي وأختي خطبتي وزواجي.

فسخ ابن عمّها الخطوبة. وخطبها أبي لي من الشيخ زعل، وتزوّجتها بعد الخطوبة بأسابيع.

غنّت النساء في ليالي العرس، ورقصن كما لو أنهنّ ينفضن عن أجسادهنّ غبار أيّام طويلة من الترهّل والرتابة، ومن الحزن والمعاناة. ولم يتردّد كثير من رجال عشيرتنا، حتّى الكبار في السنّ منهم، عن الانضمام إلى السامر، فيما تحمّس الشباب للدبكة على أنغام الشبّابة حينًا وأنغام الناي حينًا آخر.

وكنت مسرورًا لأنّني سأتزوّج رسميّة التي تتفوّق على زوجتي الأولى في الجمال. استرضيت شيخة بكلام عذب وبملابس جديدة. وظللت أدبك في ليالي عرسي وأعزف على الشبّابة وأغنّي ببهجة واندفاع.

في ليلة الزفاف، اختليت بعروسي وقلت لنفسي: سأرى جسدها وأتمعّن بالحلال في تفاصيله الفتيّة. سأتعرّف إلى آثار الجرح الذي أحدثتُه برضاها، أو على الأصحّ بقليل من التمنّع، وفي لحظة انفعال جعلَتها غير قادرة على التحكّم بجسدها، مع أنّها لامت نفسها في ما بعد، وشعرت بالندم كما قالت لي.

اقتربت منها، نظرت نحوي ولم تقل شيئًا. حاولت احتضانها، فلم تستجب لي. قالت إنّها متعبة، وعليّ أن أمنحها استراحة مدّة ليلة أو ليلتين. ولم تترك لي فرصة للردّ عليها أو لاستئناف الكلام لعلّها تستجيب لرغبتي. لاحظتُ أنّني أمام امرأة مختلفة. أخرجتْ من صندوق ملابسها سكّينًا، حزّت ذراعها بخفّة وسال منها الدم، تلقّته بمنديل أبيض أخرجته من تحت كمّها، وظلّت تنزف حتّى انتشرت بقعة الدم على المنديل. طلبت منّي أن أخرج به إلى النساء المنتظرات.

اندلعت الزغاريد، وبكت رسميّة ثمّ جفّفت دموعها، قبل أن تدخل عليها أمّها، وأمّي، ونسوة أخريات، للتهنئة بهذا الفعل الحلال، الذي تمّ من غير إبطاء.

حاولت الاقتراب من فراشها في الليلتين الثانية والثالثة فلم أظفر إلا بالصدّ والحرمان. قلت: يجوز أنّ العادة الشهرية جاءتها، وهي تخجل من مصارحتي بذلك. وقلت: يجوز أنّها تشعر بالإثم بسبب ما وقع بيني وبينها، وبسبب أنّني عرّضتها لقطيعة مع أهلها، وهي الآن تعاني من حالة نفسيّة قاسية. قلت لها: أتفهّم ما تعانينه من ألم، ولن يلبث هذا كلّه أن يزول وتعود الأمور بينك وبين أهلك كما كانت من قبل.

لم يصفح عنها أبوها ولا أخوتها ولا أبناء عائلتها. قالت إنّها بكت طوال الليلة الأخيرة لها في بيت الشيخ زعل وهي تدرك أنّها لن تنتقل إلى بيت الزوجيّة من بيت أبيها، وإنّما من بيت رجل أخذ ضمانات من أهلها بألا يتعرّضوا لها بأيّ أذى. قالت: كرهت نفسي لأنّني جلبت لأهلي هذا الهمّ الجديد، كأنّ الهموم اللي تلبّستهم من يوم أن هُجِّروا من البلاد لا تكفي!

وقالت إنّها عندما تتذكّر ما وقع بيني وبينها عند سفح الجبل يغشى السواد عينيها، وتنتابها مشاعر شرّيرة لا تدري كيف تشكّلت في داخلها، وكيف يمكنها التخلّص منها لتعود حياتها إلى مسارها الصحيح!

بقيتُ أتودّد إليها، ألاطفها وأُسمعها أحلى كلام، وهي لا تتجاوب معي ولا تستجيب لي. ورغم أنّني معروف بخشونة طباعي، إلا أنّني صبرت واحتملت صدّها لي، إلى أن بدأت تخرج من الحالة التي سيطرت عليها.

راحت تتهيّأ للاغتسال في الليلة السابعة. رأيتها في الضوء الشحيح وأنا مضطجع في الفراش. وضعَت اللقن المعدني الدائري في ركن الغرفة، وبالقرب من اللقن صفيحة مملوءة بالماء الساخن، ليفة، قطعة صابون وطاسة لغَرْفِ الماء.

خلعت ملابسها وبدا جسدها في الركن المعتم قليلاً، وهي واقفة وسط اللقن، مثل عمود من نور. انحنت وغرفت بالطاسة ماء وبلّلت شعرها ثم غسلت الشعر بالصابون. فكّرتُ بالنهوض من فراشي لأصبّ على جسدها الماء، لكنّني خشيت أن تصدّني، فآثرت أن أترك المشهد إلى أن يكتمل على النحو الذي تبتغيه. انسدل شعرها على كتفيها وعلى صدرها، صدّت الشعر وأزاحته جانبًا لكي تغسل الصدر والكتفين. غسلت البطن والظهر والردفين والوركين والساقين، وجعلت رغوة الصابون تتكاثف عند منحدرات الجسد.

تشطّفت بالماء وزال أثر الصابون. وانعقد الشعر فوق الرأس. هممت مرّة أخرى بالنهوض من الفراش لكي أنشّف جسدها بمنشفة زرقاء كانت على مقربة منّي، ثمّ آثرت الانتظار كي لا أفسد اكتمال المشهد الذي يغريني ببعض التوقّعات.

قالت:ناولني المنشفة. وثبت من فراشي وقبضت على المنشفة، ورحت أنشّف جسدها برفق وانبهار. طوّقتني بذراعيها وأنا منهمك في تنشيف الجسد. حملتها بين ذراعيّ نحو الفراش. سألتني: تحبّني؟ سألتها وأنا ألهث من شدّة الانفعال: عندكِ شكّ؟

لم تجبني، وعندما قبّلت أنفي وجبيني عرفتُ الجواب.

وكنت طلبتُ منها لَمّا ذهبت مع أمّها إلى السوق لشراء ملابس للعرس، أن تتوقّف عن ارتداء السراويل الداخليّة الطويلة، وأن تستعيض عنها بسراويل قصيرة، هي الموضة السائدة في راس النبع. تردّدت وقالت إنّها معتادة على هذا النوع من السراويل. قالت إنّها حاولت من قبل أن ترتدي سروالاً قصيرًا، فأحسّت كما لو أنّها عارية لا يستر جسدها شيء. وقالت إنّ أمّها قد تعترض على ذلك، وتعتبر هذا الأمر تفلّتًا وسوء خلق.

اقترحت عليها أن تشتري دزينة من السراويل القصيرة، لترتديها تحت السراويل الطويلة. ابتسمت ووجدت الأمر مسلّيًا. قالت إنّها ستفعل ذلك. سلّمتها ما يكفي من النقود. ذهبت هي وأمّها وأختها إلى السوق، وأمضين نهارًا كاملاً في القدس وهنّ يتسوّقن.

مرّت أشهر على زواجنا قبل أن تقتنع رسميّة بالتخلّص نهائيًّا من سراويلها الداخليّة الطويلة. كانت كلّما مشت بين بيوت العشيرة في راس النبع، أو كلما مرّت من أمام حانوت يحتشد عند مدخله الرجال شعرت بالخجل، كما لو أنّ أحدهم يسألها: كيف تخرجين من بيتك من دون سروال؟ اشتكت لي من حالها هذا. قلت لها: مع الوقت تتعوّدين، مثلك مثل بقيّة نساء العشيرة.

قالت وهي تلقي باللوم على نفسها: يقطعني، أي هو أنا بدّي أعمل من هالموضوع قصّة أبو زيد الهلالي؟

ضحكتُ وقلت لها: نعم، قولي هذا من زمان.

ضحكتْ وحاولت أن تمازحني، لتثبت لي أنّها تخلّصت من الخجل. رفعت ثوبها إلى أعلى حتّى بان بياض الساقين.

وضحا زوجة أبي لم يعجبها ما فعلته، لم يعجبها أن أستولي على خطيبة شخص آخر،كما لو أنّني أستضعفه أو أستهين به. كانت تعيّرني في بعض الأحيان بأنّني أخلط الحليب بالماء، فلا أكترث لها. لكنّني كنت أشعر بالأسف وأنا أرى كيف ألحقتُ الأذى، من دون أن أقصد، بأناس طيّبين فقدوا أرضهم وبيوتهم وشرّدوا منها. وازداد أسفي وأنا ألاحظ كيف أنّ الرغبة في الستر وعدم اللجوء إلى تصرّفات قد تضاعف الأحزان، ألهمت والد رسميّة أن يتصرّف باتّزان. 

قالت رسميّة: أنا لن أسبّب لك أيّ إزعاج يا فليحان.

تأكدتُ من ذلك بعد زواجي بها، وقلت لها: وجهك عليّ خير وبركة يا رسميّة. فقد انفتح لي باب الرزق، وتوثّقت علاقتي بالشيخ زعل بعد أن حلّت رسميّة دخيلة في بيته. كنت ألتقيه هو ورجاله الذين يجيئون لبيع الخراف والجديان في سوق الحلال الواقع قرب سور القدس. 

تعارفنا أوّل مرّة في السوق، وبعد أن بعنا ما لدينا من أغنام، دعوتهم للجلوس في مقهى منى الواقع في أوّل طريق الواد. ذهبنا إلى هناك وشربنا القهوة. كانوا أربعة رجال. قال كبيرهم، وهو شيخ العشيرة، إنّه يعرفني من قبل، ويعرف أنّني ابن عشيرة لها مكانتها بين العشائر، وهو يسمع كلّ خير عن أبي منّان شيخ عشيرة العبد اللات، شكرته على كلامه وواصلت الإصغاء إليه. قال إنّه راغب في التعرّف إليّ وإلى أبناء عشيرتي، وهو يدعوني إلى تناول طعام الغداء في بيته، رحّب بي وبمن أصطحبهم معي من أقاربي.

بعد أن اعتذر أبي عن عدم تلبية الدعوة لاعتبارات خاصّة به، توجّهت إلى مضارب المزاعلة الكائنة على الطريق بين القدس وأريحا، ومعي ثلاثة من أقرب المقرّبين إليّ. جلسنا في بيت مشرّع الأردان تهبّ علينا نسائم عذبة، وكان الشيخ زعل يرحّب بنا كلّ دقيقتين أو ثلاث، ثمّ يأمر أحد الشباب بتقديم القهوة المرّة إلينا. وكنّا نلاحظ كيف أنّ أبناء عشيرة الشيخ مستعدّون لتلقّف أيّة إشارة منه ليحوّلوها إلى فعل من أفعال الكرم.

سررت لحسن الضيافة التي لقيناها من الشيخ وأبناء عشيرته، وقمت بتوجيه الدعوة له ولمن يرغب في اصطحابهم معه من أقاربه، لتناول طعام الغداء في بيتنا في راس النبع. لبّى الشيخ الدعوة وجاء ومعه خمسة من أبناء عشيرته. استقبلناهم أنا ووالدي منّان وعدد من أبناء عشيرة العبد اللات، وقمنا بذبح الذبائح وبتقديم المناسف للضيوف.

بعد أسبوعين من زواجي برسميّة، التقينا في مقهى منى، وأدركت أنّ لدى الشيخ كلامًا. قال لي إنّ لديه هو وبعض أفراد عشيرته تجارة يكسبون منها أموالاً، ويرغبون في تعاوني معهم إنْ كنت راغبًا في جني المال. قلت بمجرّد سماعي هذا الكلام: أنا معكم على طول. قال الشيخ: وعندك استعداد لتحمّل المخاطر؟ قلت: أنا أخوك اللي ما يخذلك. قال: الشغلة يمكن يكون فيها قتل، يمكن يكون فيها حبس، الحكومات لا ترحم في هذا الشأن. قلت: أنا أخوك اللي ما يهاب الموت. ووجّهت له السؤال: ما تركن علي؟ قال وهو يمسّد شاربيه: والله أركن.

تصافحنا وتعاهدنا على الوفاء. وطلب منّي اصطفاء مجموعة من رجال عشيرتي لحماية البضاعة من غارات العشائر الأخرى عندما تمرّ القافلة من أراضيها، ولتأمين وصولها إلى الحدود الجنوبيّة. أبلغته استعدادي التامّ للقيام بالمهمّة، وجعلته يزداد حماسة لَمّا أخبرته أنّ بإمكاني تأمين شحنات من البضاعة إلى دولة العدوّ التي نشأت حديثًا وصار لها حدود مع راس النبع، فأبدى الشيخ زعل رضاه عن هذا الفتح الجديد لباب آخر من أبواب الرزق.

اغتنيت من تجارة الحشيش، واشتريت لرسميّة ولشيخة ولأمّي مثيلة أساور وخواتم وقلائد من ذهب، واشتريت لأبي عباءات مقصّبة. ولَمّا انتبه إلى مصدر ثروتي نفر منها، لكنّه لم يتّخذ منّي موقفًا حازمًا. اكتفى بالامتناع عن تقبّل أيّة ملابس أو نقود منّي خوفًا من غضب الله. ولم يردعني موقفه عمّا كنت أفعله، وبقيت مصرًّا على جني المال.

صارت لي سطوة في العشيرة، وأصبح لي معارف كثيرون في القدس وفي مدن أخرى، علاوة على صداقات مميّزة مع مسؤولين في عمّان، أغدقت عليهم الهدايا وأقمت لهم الولائم. ولم يتحقّق المال بسهولة. خضت أنا ورجالي معارك عدّة في الليالي الحالكات مع قطّاع الطرق والطامعين من رجال القبائل، الذين كانوا يعترضون سبيلنا، ونحن نمضي لتسليم البضاعة إلى وكلائنا في الصحراء.

كنّا نقدّم أموالاً لبعض شيوخ القبائل فلا يعترضون سبيلنا، وكنّا نصطدم بآخرين لم يكتفوا بأقلّ من الاستيلاء على ما لدينا من بضاعة، فنشرع بنادقنا ونطلق عليهم النار ويطلقون علينا النار، نصاب بخسائر ويصابون بخسائر، ثمّ تعود الأمور إلى وضعها الطبيعي.

وفي بعض الأحيان، كنّا نرسل كميّة من البضاعة إلى دولة العدو. على مسافة من خطّ الحدود، تقع نقطة حراسة يرابط فيها الجنود. ذات مرّة، رآني أحدهم وأنا أرعى الأغنام في المنطقة الحرام. أغراني العشب الوفير بالتوغّل فيها من دون حساب للعواقب، فتركت أغنامي تدخلها لترعى. ناداني بالعربيّة المطعّمة بلهجة عراقيّة وطلب منّي أن أقترب. اقتربت. طلب منّي أن أبيعه خروفًا. دفع لي الثمن بالدولارات. وصرت أبيعه بين الحين والآخر خرافًا، واتّفقنا على إشارة معيّنة عندما يحين موعد نوبته في الحراسة.

صرت أبيعه السكّر والشاي والأرزّ والسجاير والأقمشة. وفي ما بعد صرت أبيعه قطعًا من الحشيش. ولم يستمرّ هذا الحال طويلاً، إذ وقعت في خطأ غير محسوب وأنا أظنّ أنّ اليهوديّ القادم من العراق موجود في نقطة الحراسة، فاكتشفت أنّني أخطأت التوقيت، أطلق أحد الجنود عليّ النار، وكدت أفقد حياتي، فلم أعد إلى الاقتراب من منطقة الحدود.

غير أنّ تجارتنا استمرّت عبر الصحراء، وصارت الأموال تتكدّس في جيوبي، أنفق منها ما أشاء مثلما أشاء، وأقيم الولائم التي تتحدّث عنها عشائر راس النبع وغيرها من العشائر، وكذلك أهل القدس والقرى المحيطة بها.

ذات مرّة، سنة 1953، دعوت الجنرال جلوب باشا الملقّب "أبو حنيك"، لتناول طعام الغداء في بيتي في راس النبع. وقف أبناء العشيرة معي وقفة مشرّفة. ذبحوا الذبائح، وأشعلوا النيران، وقامت نسوة العشيرة بمرْس اللبن الجميد الذي لا تطيب لحوم الضأن إلا به. امتلأت القدور باللبن وباللحم المقطّع قطعًا متوسّطة الحجم، وارتفعت أعلام المملكة على سطح بيتي وعلى سور البيت. شعر أبي بالاعتزاز بي، رغم معرفته بمصدر أموالي. وقد فوجئ بأنّني على هذا القدر من الأهمّيّة بحيث أدعو قائد الجيش الأردني لتناول طعام الغداء في بيتي. 

كنت أتمشّى بخيلاء في الساحة التي اصطفّ فيها عشرات الرجال من وجهاء العشائر ومن أبناء عشيرتي انتظارًا لوصول القائد ومرافقيه. بعد انتظار طويل، جاء في موكب من السيّارات العسكريّة. هبط من إحداها وهو محاط بالحرّاس المدجّجين بالسلاح. زغردت نساء العشيرة وغنّين ترحيبًا بالضيف الكبير. وكنت أوّل المبادرين إلى السلام عليه. أخذته بالأحضان وقبّلت وجنتيه، ولم أنفر من حنكه المخسوف الذي شوّهته رصاصة في زمن مضى. سلّم عليه أبي منّان، ولم يلثم خدّيه لسبب ما.

سلّم القائد على عدد آخر من وجهاء العشائر مبديًا تواضعًا حار الناس في تفسيره. خلع نعليه وجلس  على الفراش وشرب القهوة المرّة مرّة وثانية وثالثة ثم هزّ الفنجان دلالة على الاكتفاء. تناول طعام المنسف مثلما نتناوله نحن أبناء العشائر، أي باليد مباشرة، وعلى شكل كرات مجبولة بالرز وقطع خبز الشراك. قال أبي محاولاً تفسير هذا التواضع، وهذا التمثّل الدقيق لعاداتنا: هذي سياسة الانكليز، يظهرون مرونة لا مثيل لها. وقال عمّي عبّاس مصادقًا على كلام أبي: أكيد، يتظاهر بأنّه واحد منّا، وبأنّه مثلنا في كلّ شيء، ثم نكتشف أنّه يحفر لنا حفرة لا يعلم مداها إلا الله. وأضاف: لو كنت يا بن أخي استشرتني لما نصحتك بدعوة هذا الرجل إلى بيتك.

امتعضت من كلام عمّي عبّاس. عمّي الذي أغلق حانوته في المدينة قبل موعد الغداء، وجاء احترامًا لي، يتوهّم أنّنا ما زلنا نعيش في البرّيّة مع أنّه أصبح من سكّان المدينة. كان عليه أن يكون الأكثر تفهّمًا لما أقوم به من أفعال. لكنّ لعمّي عبّاس، تمامًا مثل أبي منّان، اعتباراته الخاصّة. يحضر الدعوة إلى الغداء ويسلّم على جلوب باشا، ثمّ يتباهى في اليوم التالي أمام جيرانه التجّار، بأنّ «ابو حنيك» كان في ضيافة عشيرة العبد اللات. يفتح التجّار أشداقهم انبهارًا بالمفاجأة، يقطع عمّي الطريق على كلّ من يفكّر منهم بالقول: هذا يعمل لخدمة بلده بريطانيا التي استعمرتنا، ويقول ما قاله لي بعد الوليمة. تخيّلت هذا المشهد ثم قلت له وأنا بادي الانفعال: يا عمّي، وفّر على نفسك النصيحة، وأريدك أن تعرف أنّ الزمان ما عاد مثلما كان.

أعرف أنّ عمّي أخذ على خاطره وزعل مني، وأنّ كلامي لم يعجبه، وأنّه سكت على مضض. وأعرف أنّ أبي امتعض من كلامي على اعتبار أنّني لم أقصد عمّي عبّاس وحده. عثمان زوج عمّتي هيفاء، الذي نمَت تجارته وازدادت ثروته، شدّ على يدي مصافحًا واعتبر أنّني أقوم بمبادرات سيكون لها تأثيرها على مستقبل العشيرة.

وبغضّ النظر عن بعض المنغّصات، كان يوم «أبو حنيك» واحدًا من أيّام التاريخ غير المدوّن للعشيرة، وستذكره العشيرة في ليالي السمر، كلّما خطر ببال أحد من أبنائها تذكّر ما قمت به من أفعال ومبادرات.

وكنت تصالحت مع والد رسميّة بعد سنة من زواجي بها. وعرفت أنّه أبعد ما يكون عن اللؤم وضيق الأفق الذي يسم بعض القرويّين. لكنّه، عندما وقع ما وقع خاف على ابنته من المتزمّتين في عائلته. وتوقّع أنّه لن يكون قادرًا على حمايتها والدفاع عنها، لذلك آثر أن يبقيها في بيت الشيخ زعل، وكان مضطرًّا إلى الامتناع عن حضور عرسها كي لا يتعرّض لغضب الغاضبين.

لَمّا دخل عبد الفتاح بيتي احتضن رسميّة وقبّلها على الخدّين والجبين، وهي احتضنته وقبّلته. احتضنها أخوتها، وانفتحت صفحة جديدة في العلاقة بيننا. ولم أكن أعرف أنّ ابن عمّ رسميّة لم يصفح عنّي، وهو لم يأت إلى بيتي مع المدعوّين، ولم أقم بدعوته. أوْلمت لوالد زوجتي ولأبنائه ولزوجته وبناته، واستقبلهم أبي وأبناء عائلتي بالترحاب والتقدير.

عرفت أثناء ذلك أنّ والد زوجتي محبٌّ لسرد الحكايات. استمعنا منه عن معاناة الناس عام ثمانية وأربعين، وعن المذابح التي ارتكبتها العصابات الصهيونيّة لإجبارهم على ترك مدنهم وقراهم والهجرة من البلاد.

وعرفت أنّه مهتمٌّ بالزراعة وأنّه خبير بتقليم الأشجار وتركيب أنواع منها على أنواع أخرى. وكان له فضل كبير على راس النبع وهو يواظب على المجيء إليها كلّما أسعفه الوقت، يقلّم الأشجار المثمرة ويزرع أنواعًا جديدة منها لم نكن نعرفها، ويركّب فسائل أشجار مثمرة على أشجار برّيّة غير مثمرة، وأثناء عمله هذا لا يكفّ عن تذكّر أرضه التي طرد منها، وأشجاره التي كانت قريبة من قلبه، هناك.

وكم كانت رسميّة مبتهجة بعد مجيء والدها إلى بيتنا في راس النبع! قالت إنّها شعرت بأنّ حملاً ثقيلاً انزاح عن كتفيها، وبأنّ الأمور عادت إلى وضعها الصحيح. تلك الليلة، بقينا أنا ورسميّة نتبادل الحديث ونحن مضطجعان في السرير، ذراعي تحت رأسها ويدها على صدري. كانت تشعر كما لو أنّ تلك الليلة هي ليلة عرسنا الأولى. بدت غير قادرة على النوم من شدّة الفرح.

نمنا قبل الفجر بقليل، وبقيت نائمًا حتّى الضحى، وهي ظلّت نائمة حتّى الظهيرة. انهمكتُ في تأمّل وجهها الصبوح وشعرها المتناثر على المخدّة، ولم أشأ أن أوقظها. كانت تنام ملء جفنيها، وكنت مسرورًا لمجرّد أنها تنام هذا النوم العميق الذي افتقدته في ليالٍ مرّت وانقضت.

عندما فتحتْ عينيها فوجئت بي وأنا أنظر إليها مثل متعبّد خاشع. ابتسمتْ، ورحتُ أقبّل خديها وشفتيها وأنفها وعينيها وشعرها. وهي طوّقت رقبتي بذراعيها.

صرت أبتهج وأنا أراها تتنقّل داخل الدار وفي الساحة بثقة، أقبّلها وأمضي إلى شؤوني، وأنا مرتاح.

وكنت ألتقي الشيخ زعل ونتقاسم الأموال التي يحضرها رجالنا بعد توصيل البضاعة إلى أطراف الصحراء. وفي مرّات عدّة، خاطرت بنفسي وشاركت في حراسة البضاعة وفي توصيلها إلى المكان المطلوب، ثمّ اقترح عليّ رجالي أن أوفّر على نفسي عواقب المخاطرة. صرت أتابع العمل من مسافة ما، وأصدر تعليماتي للرجال بعد أن ألمّ بكل ما صادفوه في طريقهم، وما تعرّضوا له من عثرات. وفي الأثناء، ازداد ولاء رجالي لي، وصاروا ينادونني: الشيخ فليحان، جرّاء إعجابهم بي. وقد أعجبني اللقب. كرّسته بارتداء العباءات المقصّبة فوق قنابيز مفصّلة من أفخر الأقمشة، وعلى رأسي كوفيّة بيضاء أو صفراء وعقال. واقتنيت فرسًا أصيلة ومسدّسًا وسيفًا وربابة، وكنت في بعض الأحيان، عندما تقتضي الضرورات، أرتدي البدلة والقميص وربطة العنق، وأمشّط شعري بعد التخلّي مؤقّتًا عن الكوفيّة والعقال، وأركب سيّارتي فأبدو رجلاً عصريًّا بكلّ ما تعنيه الكلمة من معنى.

غير أنّني لم أكن أشعر بأيّ اطمئنان. كان قلبي دائم الانشغال على البضاعة وعلى الرجال. كنت أخشى أن تُنهب البضاعة رغم كلّ إجراءات الحماية، فأتعرّض للخسارة ولاحتمال الإفلاس. وكنت أخشى على الرجال من احتمالات القتل، وهم من خيرة أبناء العشيرة، فإنْ قُتل أحدهم سوف أكون المسؤول أمام أهله عن مقتله.

وأصبحت وضحا زوجة أبي تتطيّر منّي على نحو أشدّ مِمّا مضى. أعرف أنّها لا تحبّني ولا تحبّ أمّي مثيلة، مع أنّ نساء العائلة يكثرن من مدحها، وأنا أعتقد أنّهنّ مخدوعات بها. وضحا هذي مثل حيّة التبن، تقرص وتندسّ وتحسن الاختباء.

***

قالت أمّي:

ويا حسرة راسي قدّيش عانيت من مثيلة ومن ابنها فليحان! وقدّيش تعذّبت لما رحلنا من البرّيّة! هذا العذاب كان يغطي على عذابي من فليحان وأمّه. كنت في بعض الليالي أقلق ولا أنام إلا بعد ساعتين من التقلّب في الفراش. أغلق باب الدار. أستلقي إلى جانب منّان. وفي الخارج صوت ما هو مليح. منّان يقول لي: هذا صوت الريح. وأنا أقول له: هذا صوت الأجداد اللي قتلوا في المعارك يا منّان، وهم يستيقظون في الليل من أجل طلب الثأر. يقول لي: نامي وتوكّلي على الله يا وضحا. وأنا أقول: النعم والجود بالله. أغالب الخوف وأنام.

وفي الصباح، أفتح شبابيك الدار وأنا أستعيذ بالله من الشيطان الرجيم وأذكر اسم الله سبع مرّات. أحمل سطل الماء وأرشّ العتبة والساحة. ثمّ أحمل لقن العجين وأتّجه نحو السقيفة، وفيها الموقد والصاج اللي أخبز عليه خبز الشراك. أدخل السقيفة بالرجل اليمين وأنا أذكر اسم الله، لقناعتي بأنّ هذا المكان مسكون.

أشعل النار تحت الصاج، تدبّ النار في الحطب، وأدرك أنّ سكّان المكان ينفخون عليها لكي يطفئوها، وأنا أهفّ عليها بطرف ثوبي لكي تزداد اشتعالاً. أنا أعرف أنّ النار أنثى، وأنا لا أحبّها ولا أكرهها، لكنّني أظلّ في خشية منها لأنّها لا أمان لها، مع أنّها تعطينا الدفء وقضاء أمور لا يمكن تجاهلها. وأنا أخشى الساكنين في هذا المكان قريبًا من النار، أخشى من لمسة جنّي متمرّد، تفقدني عقلي، إلا أنّني أواصل تغذية النار بالحطب. أقتطع أوّل كتلة من العجين وأرقّقها بيديّ حتى تصبح مستديرة مثل وجه القمر، وأضعها على الصاج، وأظلّ على هذه الحالة حتّى أخبز العجين كلّه، وتكون عيني على الخبز كي لا يلتهمه الساكنون في المكان. وأنا على يقين من أنهّم لا يكفّون عن التشاور في ما بينهم حول أفضل الطرق لمنعي من المجيء إلى مكانهم. لكنّني مضطرّة إلى المجيء كلّ صباح.

وأنا متأكّدة، والعلم عند الله، من أنّهم تسبّبوا في موت بنتي عزيزة! كانت هالبنت ما أحلاها! شعرها طويل وعيناها كلّ عين مثل فتحة الفنجان. وكان عليها طول مثل طول والدها منّان، ولدتها بعد محمّد الأصغر بأربع سنين. ولَمّا صار عمرها عشر سنين، شكت لي من راسها. قالت: راسي يا أمّي فيه وجع.

صرت أبخّرها، واقول شو اللي جرى لعزيزة؟ قلت يمكن أصابتها عين، يمكن شافتها إحدى الحسودات وهي راجعة من المدرسة. سألتها: يا بنتي شافتك أيّ امرأة وانت ماشية في الطريق؟ قالت إنّها ما شافت أيّ امرأة. أنذرت إنّي أذبح خروفين لوجه الله تعالى، وأغزّ سبع رايات بيضاء على سطح الدار، إنْ شفيت عزيزة. ذكرت لي مهيرة اسم فتّاح مقيم في عناتا، اللي جنب القدس، ذهبت إلى الفتّاح، كتب لعزيزة حجاب.

بعدين، فطنت للمرايا اللي في الدار. وعرفت أنّ عزيزة نظرت في المرآة اللي في غرفة نومي أنا ومنّان. أنا أعرف أنّ المرآة أنثى ولهذا السبب لا تسلم من شرّ الجن. كان الوقت بعد الغروب، وعزيزة دخلت الغرفة لتحضر لي سجّادة الصلاة. دخلت يا ويلي عليها وقالت لي إنّها نظرت في المرآة، وأكيد اللي ساكنين في المرآة (اسم الله حولنا وحوالينا) لمسوها وضربوا راسها. وقلت: الله يساعدني ويكون في عوني. وقلت: مثيلة رايحة تشمت فيّ، وابنها فليحان أكيد شمتان.

***

بقيت غير قادر على تجسير العلاقة بين أخي فليحان وأمّي وضحا. حاولت مرارًا، ولم أنجح. إلا أنّني لن أكفّ عن المحاولة.

ولم تكن أيّامنا كلّها على الوتيرة نفسها. مرّت أيّام مريرة، وأخرى كان لنا فيها أمل وتطلّعات. حين بلغت السادسة عشرة، كانت أمّي ترمقني بإعجاب وتثني على طول قامتي الموروث من قامة أبي منّان. كانت تقول: أنت جمل العيلة وحامي حماها. وكنت على قناعة بأنّ هذا الكلام كثير على فتى في مقتبل العمر. لكنّ للأمّ، كما يبدو، عذرها لو نطقت بكلام قد يكون من المبكّر النطق به، وإرساله جهارًا بكلّ هذا الاستسهال.

آنذاك، حلّ موعد انتخابات 1956 في عموم البلاد. احتدم الجدل السياسي في البيوت وفي المقاهي وفي النوادي وفي كلّ مكان. فكّر أخي فليحان بأن يرشّح نفسه للبرلمان، ثم انصاع لنصيحة أبي بصرف النظر عمّا يفكّر فيه، بسبب احتدام المنافسة التي تجعل حظوظه في النجاح لا تذكر بأيّ حال.

التحق والدي بالحزب الوطني الاشتراكي. قال إنه التقى زعيم الحزب في عمّان، وأعجب بما في كلامه من رصانة واتّزان. وقال إنّ علاقة صداقة تربطه بمرشّح الحزب في القدس، وهو محامٍ معروف، وقد سبق له أن لبّى لأبي عددًا من مطالبه حين قصده في مكتبه.

جمع أبي أبناء العشيرة في مضافته، وراح يحثّهم على الإدلاء بأصواتهم في الانتخابات لصالح صديقه المحامي. فوجئ بأنّ عشيرة العبد اللات التي كانت رهن إشارته، لم تعد هي العشيرة نفسها. بعض أبنائها قالوا: نحن مع البعثيّين. وراحوا يروّجون لشعارهم الذي كانوا يشهرونه في وجه الشيوعيّين: «لا شرقيّة ولا غربيّة». آخرون قالوا: نحن مع مرشّح الحزب الشيوعي، المنافس على المقعد المسيحي، الطبيب الأردني القادم من الكرك لخدمة المرضى في القدس. أخي محمّد الكبير قال: أنا مع الدكتور لأن