"إجر العصفورة" وحشائش الحصار

2017-04-25 01:00:00

"مشهد يومي" . للفلسطيني أسامة دياب . ٢٠١٥

لمن يقرأ من شهود حصار المدنيين في مخيم اليرموك، والذين يكررونه هم أنفسهم ليغلقوا المنفس الوحيد لهم من جهة يلدا والحجة داعش والنصرة، ربما نسوا أنهم كانوا الحجة في الحصار الأول!

استشهد في الحصار الأول أكثر من مئة وسبعين محاصراً بسبب الجوع، فكم ينوي المحاصِرون الجدد أن يقتلوا؟! وما الثمن الذي قبضوه أو سيقبضونه؟!

لن أناقش اليوم مسؤوليتهم عن كل ما حدث من مآسٍ في المخيم، فليس لدي شك في أنهم المسؤولون عملياً عن حصار الناس وتجويعهم.

سأناقش الأمر من زاوية إنسانية ثانية كما عاشها أكثر من ثلاثين ألفاً من أهل المخيم، وكنت مع عائلتي من بينهم.

أقول: في الحالات الاستثنائية كالحصار تصبح المقولات الاعتيادية التي نطلقها على البشر عادة ونحن متكئين غير ذات معنى.. تسقط سقوطاً مريعاً لأننا ببساطة أمام حالة لا إنسانية.. هي تجربة تحول الإنسان إلى كائن من نوع آخر يشبه البشر.. تحركه غريزة البقاء أو بالأحرى تطغى هذه الغريزة على كل الغرائز والعواطف.. قد يتحول إلى ذئب، وقد يتحول إلى حمل ضعيف.. عليه في جميع الحالات أن يحافظ على حياته وحياة أولاده.. 

غالباً، لا يمكن إدراك الآثار النفسية التي تتركها تجربة قاسية لا إنسانية، لأنها تكون عميقة جداً تحفر بعيداً عن مستوى الإدراك الفعلي إلى مستوى غير المدرك وغير المفهوم، وقد تستمر مدى الحياة، وتخلِّف ندوباً لا يمحوها دواء ولا زمن، فما بالكم بتجربة التجويع حتى الموت؟! ولا علاقة له هنا بالجوع الذي يسبق تناول الطعام، ولا أقصد الصيام الإرادي الذي يرضي الله ويُدخل الجنة.

المحاصر ليس سجيناً لأن السجن محدد الملامح بالنسبة له، وهو يدرك أنه سجين فيبني وجوده على أساس أنه سجين... عداك عن أن السجان مسؤول عنه وعن معيشته.. أما في حالة الحصار فأنت لا تدري ما أنت بالضبط... تترك أمل الاحتمالات، وهي سيئة غالباً، على الإطلاق.. تنتظر شيئاً واحداً هو اللاشيء.

 أنت ترى بأم عينك وتعيش بكل جوارحك ما يعيشه الجميع وتنتظر الموت في كل لحظة، موتهم أو موتك لا فرق.. حتى غدا هناك نوعان من الموت: نوع أقل مأساوية من الآخر. لم يعد الموت هو الذي يرعب بل طريقة الموت، موت ترتعد لتخيله وموت تشتهيه، ولعلكم تفاجؤون إذا قلت لكم إن النوع المشتهى هو النوع الذي تظنون أنه أقسى. الموت برصاصة قناص أو بقذيفة أفضل بكثير من الموت جوعا... لماذا؟! لأنه أسرع وأكثر رحمة أما الموت جوعاً فإنك تشعر به وتراه مع كل نفَس يخرج من الصدر.. هو يتكرر في كل لحظة ولا تستطيع أن تفعل شيئاً... 

ليست قضية السوريين أنها قضية شعب أراد حريته فقط، إنها قصة شعب دفع ثمناً يعادل ما دُفع في ثورات العالم مجتمعة دون أن يحصد شيئاً غير الموت، حتى جرَّب أنواعاً من الموت لم تكن تخطر في بال…

حتى إيقاف الثورة لم يكن ممكناً لأنه طريق ذو اتجاه واحد... 

من كان منكم جائعاً قبل أن يبدأ قراءة هذه الكلمات نسي أنه جائع غالباً؟ هذا هو الامر، وهذه هي الاستراتيجية التي لجأنا إليها للتحايل على شبح الجوع (ولو قليلاً).

جاءتني إلى المدرسة الدمشقية امرأة تبكي على طفليها، وهما تلميذان في المدرسة، كنت قد أرسلت إحدى الآنسات لتسأل عن سبب غيابهما، قالت وهي تبكي: إنهما يرفضان أن يأكلا الطعام، وقبل أن تذهب أذهانكم إلى تخيُّل ألذ أنواع الطعام، أذكركم أن طعامنا كان من الحشائش، ولن ينسى من عاش الحصار طعم "إجر العصفورة" الكريه.

ولماذا يرفضان؟

 قالت: بيتنا يطل على "وجيبة" البناء، وفي الطابق الأرضي كان يسكن ثلاثة شبان، وفي يوم شاهد ولداي أولئك الشباب وهم يذبحون قطة ثم يقومون بسلخها وشيِّها ثم أكلها… ومنذ ذلك اليوم فقدا شهيتهما لأي طعام، ولمن لا يعرف فرحلة الموت جوعاً تبدأ بفقدان الشهية. 

كان علي أن أفعل شيئاً، فقلت لها: اجلبيهما إلى المدرسة مع الأولاد سيتسلون على الأقل..

وهذه بالضبط هي الاستراتيجية التي اتبعتها مع أولادي ومع الأطفال في المدرسة.. لا تتركهم في البيت لأنهم سيطلبون الطعام.. اجعلهم مشغولين ما استطعت من الوقت.. ولا تترك طفلاً وحده... وليكن على الدوام مع الآخرين، معهم سيتسلى وينسى ولو مؤقتاً.. ثم أعطه وجبته الوحيدة (التي هي بعض الحشائش) في وقت محدد الساعة الثامنة مثلاً وإذا سألك عن الساعة قل: هي السابعة… غيِّر قوانين الوقت بحيث تختصر المسافة بين وجبة اليوم ووجبة الغد.. ولا تشفق عليهم لأن الشفقة لا طعم لها... إياك أن تشفق عليه إذا كنت تحبه.. 

بعد فترة سيظن أن الشيء الطبيعي هو كذلك.. وهنا بيت القصيد.

نعم، كان الشيء الطبيعي أن نغير قوانين الزمان والمكان لأننا لم نكن منتمين لهما،  في ذلك المخيم على طرف مدينة دمشق مازال هناك من ينتظرون أن ينتموا إلى فئة البشر.