عن أدب النكبة المستمرّة

2017-05-05 02:00:00

عن أدب النكبة المستمرّة
من فيلم "باب الشمس" ليسري نصرالله

شاع مصطلح أدب النكبة بعد العام 1948 ثم كاد يتلاشى إثر هزيمة حزيران 1967. حل محل المصطلح مصطلح جديد هو أدب حزيران، وسرعان ما شاع مصطلحان جديدان هما "أدب المقاومة" و "أدب الثورة" والتفت القراء والنقاد إلى الأدب الجديد حتى كادوا ينسون الأدب الذي كتب ما بين النكبة والهزيمة. كان الأدب الذي كتب ما بين النكبة والهزيمة أدب بكاء وحنين. بكى الكتّاب واقعهم وما صار إليه شعبهم وحنوا إلى الديار التي شردوا منها. وكان هناك ما يوجب هذا وذاك.

أقام الفلسطينيون اللاجئون في الخيام وافتقدوا مصدر رزقهم وغدوا عالة على الآخرين وصاروا بلا أرض يزرعونها ويأكلون من خيراتها. وقد دفعهم هذا إلى بكاء الديار التي كانت تحميهم من غائلة الفقر والبرد. انعكس هذا كله في الأدبيات الفلسطينية التي كتبها الشعراء والقصاصون والروائيون على قلة الأخيرين. 

تشابهت قصائد أكثر الشعراء موضوعاً ولغة حتى ليمكن القول إنه باستثناء صوتين شعريين، هما توفيق صايغ وفدوى طوقان، كان هناك صوت شعري واحد ومعجم شعري واحد. الغربة والضياع والحنين إلى يافا وحيفا وعكا والبيارة والشاطيء هي موضوعات خاض فيها أكثر من كتب. والتراب والخيمة والخيام واللاجيء والجبنة الصفراء ووكالة الغوث والبيارة والبرتقالة والعودة وسنعود وعائدون ومخيم هي مفردات أكثر الشعراء. 

ومع أن هذه المفردات لم تختف بعد 1967، إذ ظلت تحضر في كتابات أدباء المقاومة والثورة، مثل غسان كنفاني "عائد إلى حيفا" عام 1967، ومحمود درويش "عائد إلى يافا" عام 1971، إلا أنها قلّت وحضرت محلها مفردات جديدة هي ثورة وفدائي ومقاتل وفلسطيني (لا لاجيء). كما لو أن أدب النكبة ما عاد قائماً وكما لو أنها انتهت. هكذا تبدو الأمور في الظاهر، ولكن الباطن كان مختلفاً وكانت النكبة تحفر عميقاً في نفوس الفلسطينيين. يتذكر المرء هنا مقطعاً شعرياً كتبه محمود درويش في رثاء أبطال فردان الذين اغتيلوا في نيسان 1973: 

هذا هو العرس الذي لا ينتهي 

في ساحة لا تنتهي 

في ليلة لا تنتهي 

هذا هو العرس الفلسطيني: 

لا يصل الحبيب إلى الحبيب إلا شهيداً أو شريداً"

والحق أن النكبة لم تنته.

ما بين 1967 و1997 ساد نمط مختلف من الكتابة الفلسطينية وقليلة هي الأعمال التي قاربت النكبة. رشاد أبو شاور في "العشاق" ويحيى يخلف في "تفاح المجانين" وأصوات أخرى قليلة. منذ 1997 اختلف الأمر كلياً. عاد الفلسطينيون بعضهم إثر اتفاقات أوسلو إلى الضفة الغربية وقطاع غزة، وهدأت الجبهات قليلاً، وبدأ الكتاب يعبرون عن العودة التي رأوا فيها عودة ناقصة.

صدرت مجلة "الكرمل" والتفت محمود درويش إلى العودة فطلب من كتّاب كثر أن يكتبوا عن تجاربهم، وفي الذكرى الخمسين لنكبة 1948 واصل الطلب وهكذا عادت الأمور إلى البدايات الأولى: إلى النكبة وما آلت إليه مصائر الفلسطينيين. كما لو أن ما حدث في معاهدة السلام كان القشة التي غطي بها الواقع المر. لم يأت السلام بالسلام وستتفجر الذكريات. 

في العام 1998 أصدر الكاتب اللبناني إلياس خوري روايته "باب الشمس"، وأظن أنه أنفق أربع سنوات في كتابتها. أتى خوري في روايته على واقع الفلسطينيين في لبنان، وهو واقع ازداد قسوة ومرارة. ثمة غصة في القلب لدى من ظل في لبنان. لقد أدركوا أنهم ما زالوا في الطين وأن العودة التي دفعوا لأجلها ثمناً باهظاً غدت سراباً. 

بعد توقيع اتفاقات أوسلو قالت المرأة الفلسطينية اللاجئة التى استوحى منها غسان كنفاني بطلة روايته "أم سعد": الآن أشعر أن فلسطين ضاعت. كما لو النكبة كان لها بداية وبداية فقط. في "باب الشمس" يعبّر الياس خوري عن خيبة لاجئي لبنان وحسرتهم. رأوا مدنهم وقراهم من خلال فيديوات صورها قلة ممن تمكنوا بتصاريح من الزيارة العابرة وإلى جانب حسرة هؤلاء وخيبتهم ظل المخيم مخيماً وازداد سوءاً وبؤساً. خرجت الثورة الفلسطينية من لبنان وظل اللاجيء في لبنان لاجيئاً ومحاصراً. ظل يعيش النكبة. 

في روايتها "حليب التين" تكتب سامية عيسى عن مصير من بقي في لبنان ما لم يرق حتى للفلسطينيين: زوجة الشهيد تسافر إلى دبي وتمارس البغاء لترسل المال لحماتها حتى تطعم أبناء الشهيد ورجل الثورة يستغل والدة الشهيد. كما لو أننا في خمسينيات القرن العشرين، نقرأ قصص سميرة عزام وغسان كنفاني. كما لو أننا نقرأ "القميص المسروق" لكنفاني و"لأنه يحبهم" و "فلسطيني" لسميرة عزام. 

في "لأنه يحبهم"، عام 1960، يتحول الفلسطيني إلى مخبر ولص وانتهازي وتتحول زوجة الشهيد إلى بغي. ولم يختلف الأمر كثيراً في "حليب التين"، عام 2011 . هل تنبأ محمود درويش بهذا حين كتب في 1984 قصيدته "لا تصدق فراشاتنا"؟ هل باعت نساء الشهداء عظام الحبيب ليشترين الحليب لأطفالهن؟ 

لا يعود الفلسطيني إلى فلسطين وإنما يهاجر إلى الدول الاسكندنافية ليقيم فيها في غيتوات تكثر فيها الجريمة والعنف والحشيش و… وهكذا تكتب سامية عيسى عن رحلة التيه وعن العرس الفلسطيني الذي لا ينتهي "خلسة في كوبنهاجن".

الأدباء الفلسطينيون الذين عادوا إلى رام الله انصرف قسم منهم للكتابة عن النكبة، ويعد يحيى يخلف أبرز هؤلاء. لم يكتب يخلف الكثير عن رام الله. كما لو أنه لا يعرفها. لقد انصرف إلى خمسينيات القرن الماضي وبدأ يستعيدها في "ماء السماء" و "جنة ونار" وما كتبه يخص سنوات اللجوء الأولى حتى هزيمة حزيران وما تلاها.

في الكتابة عن النكبة يجدر الوقوف أمام إلياس خوري ثانية. أمام رأيه في النكبة، وأمام روايته "أولاد الغيتو.. اسمي آدم"، عام 2016. 

النكبة ما زالت مستمرة. يكتب إلياس، ويتابع: لم تُكتب النكبة. علينا قراءة المسكوت عنه. لقد أصيب الفلسطينيون في 1948 بالخرس وصمتوا ولم يرووا عن النكبة إلا أقل القليل. ولهذا كتب ما كتب في "باب الشمس" وفي "أولاد الغيتو" بل إنه قال رأياً مهماً هو: النكبة ما زالت مستمرة. 

في المدرسة، في نهاية ستينيات القرن، يوم كنت طالباً في الإعدادية، سألنا معلم التاريخ سؤالاً بدا لنا غريباً: هل سقطت الرصاصة التي أطلقها الحسين بن علي أم أنها ما زالت في السماء؟ وإن كانت ما زالت في السماء فمتى تسقط؟ 

كان الأستاذ ينتمي إلى حزب التحرير وكان موالياً للدولة العلية. كان يكره الهاشميين ويرى في الثورة العربية صناعة بريطانية. ولما لم يجب أي منا على سؤاله، فلم نكن نفهم في السياسة على الرغم من أن قسماً منا كان يرشق سيارات الجيش الإسرائيلي بالحجارة، فقد تبرع هو وقال لنا الإجابة. 

متى تنتهي النكبة وهل ما زالت حقا مستمرة؟ 

أعتقد أن النكبة لم تنته ولن تنتهي وأنها ما زالت مستمرة ولن تنتهي إلا بعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم ولن نكون مبالغين إذا ما أضفنا: وبعد 70 عاماً من العودة يمكن أن تنتهي، أي حين ينتهي الجيل الذي عانى من آثار العام 1948.