أمبرتو إيكو.. يدين الصحافة في «العدد صفر»

2017-05-25 06:00:00

أمبرتو إيكو.. يدين الصحافة في «العدد صفر»
أمبرتو إيكو يتصفح «العدد صفر»

يقدم الفيلسوف والسيميائي الإيطالي أمبرتو إيكو (1932-2016) في روايته «العدد صفر» (دار الكتاب الجديد - ٢٠١٧ - صدرت بالإيطالية عام ٢٠١٥) درسًا في فنون التزييف وصناعة الأكاذيب في الصحافة. يجعل الكاتب من موضوع روايته، ذريعة يكشف من خلالها الطرق التي يقاد بها الرأي العام كي يصير خطاب الجموع العفوي خطابًا يصبّ في صالح شبكات الفساد الكبرى. تُقرأ الرواية على عدة مستويات إذ تشكل يوميات الراوي رواية بوليسية، مليئة بالتشويق والألغاز. لكن هذا الشكل، يخفي نصًا يرمي إلى أكثر من الإثارة، إذ ينقل الكاتب واقع إيطاليا منذ اغتيال موسوليني حتى بداية التسعينات. إن كانت الرواية رواية تحرٍ فهي تكتنف نصًا معرفيًا يفكك آليات صناعة الأكاذيب. عدا عن كونها إدانة صارخة للإعلام في قالب حكائي قائم بذاته، لا بمدلولاته وما يرمي إليه وحسب. 

يقص أمبرتو إيكو في روايته التي نقلها إلى العربية أحمد الصّمعي، حكاية جريدة لن ترى النور، وإنّما يريدها ممولها نوعًا من الابتزاز الرخيص لخصومه، ويجعل من الجريدة التي تحمل اسم الغد وسيلة ليدخل الصالونات السياسية والمالية في إيطاليا. يعتمد الممول على سيماي وهو صحفي من "جنس القذارة" يجمع إليه ستة محررين قادتهم مصائرهم الفاشلة إلى عمل يوهمهم سيماي بأنّه سيصنع مستقبلهم. وتشكل اجتماعات هيئة التحرير، دروسًا نظريّة في الصحافة، لا في صياغة جريدتهم فقط؛ والتي تعنى بالتلميحات والتوقعات، واستخدام أساليب التلاعب في شكل الخبر، مثل إسناد الرأي الذي ينبغي أن يكون منفصلًا عن الحدث، لشاهد العيان. أو وضع رأي منطقي يخدم خطاب الجريدة أمام رأي قدري يقوله خصومها. إنّ الصحافة التي يصورها إيكو هي التي تعلّم الناس كيف ينبغي لهم التفكير، إذ تخلق توجهات الناس ولا تتبعها. في النتيجة، فإنّ الجريدة هي التي تصنع الأخبار وليس العكس. وفق هذا الرؤية للعمل الصحفي، تتوزع مهام المحررين الستة وهنا يتميز كلّ من مدير التحرير الدكتور كولونّا وهو محرر لكتب لم تنشر، يوكل إليه سيماي إضافة لمراجعة مقالات زملائه، مهمة تأليف كتاب يتحدث عن تجربة العمل في الجريدة. وإلى جانب كولونّا يبزر الصحفي المتخصص في كشف الفضائح برغادوتشيو والذي يقع على عاتقه سرد رواية ضمن رواية إيكو، بالإضافة إلى مايا، وهي الشحرور الذي يُصيّرهُ الحبُّ ذئبًا! 

يعمل برغادوتشيو على تحقيق يتعلق بموسوليني عبر تجميع أدلة عدلية ضمن حلقات مترابطة. تشكل ما يسميه "قنبلة" وكان قد أخبر كولونّا بأنّه "سينفجر" إن لم يخبره عن التحقيق الذي يعمل عليه. يزعم برغادوتشيو أنّ المقاومة قد قتلت شبيه موسوليني في حين كان الأخير منفيًا في الأرجنتين أو في الفاتيكان. وشرح عبر هذا التصور المتخيل، مآل العمل السياسي في إيطاليا، وكيف سيطر شبح موسوليني على الأحداث الإيطالية منذ 1945 حتى لحظة موته الحقيقية التي تسببت في فشل انقلاب سنة 1970 وقد أدى فشل الانقلاب المزمع إلى إطلاق أحلك حقبة في تاريخ إيطاليا تتوج بوصول برلسكوني كما يستنتج القارئ، إذ تنازعت البلد المافيا الإيطالية والاستخبارات الأمريكية. وبات صعود اليسار أمرًا غير محتمل، لا ترتبط رواية برغادوتشيو بالماضي القريب بقدر ارتباطها بالراهن الإيطالي. إذ تتلخص المسألة برمتها في الخدعة التي ما لبثت تنطلي على الناس عبر إعلام يمثل رموز الفساد. يغني برغادوتشيو تحقيقه بتفاصيل عن أيام الديكتاتور الأخيرة وعن عشيقتهِ. لم يكن ينقص الإيحاء بجدية التحقيق الذي يقلب التاريخ الإيطالي الحديث رأسًا على عقب سوى اغتيال الصحفي. ما يضع القارئ أمام لحظة إدراك بإنّ ذلك الكابوس الذي توزع في الصفحات قد يكون أمرًا حقيقيًا تم تغييبه بالأكاذيب!

بين المكائد والمؤامرات التي لطالما كان الانشغال بتعريتها هو سمة أدب إيكو، يبرز الحب نوعًا من النجاة. جعل إيكو من مرح مايا وحس المزاح الذي يتمتع بهِ كولونّا سبيلًا لالتقائهما، على الرغم من تأكيد كولونّا "أن لا شيء أروع من الالتقاء الجميل لفاشلين" فقد ظهر حبهما انتصارًا ذاتيًا. بانتظارهما تحول إيطاليا إلى بلد من العالم الثالث حيث لا توجد أسرار، ولا يتم تغليف الجريمة بالقانون إنّما تتم السرقة في وضح النهار وفساد الشرطة يتم بمقتضى القانون لا بالتحايل عليه. كما لو أنّ إيكو في النهاية يطمح لبلد بسيط لا حاجة للصحافة المُشوِهة فيه!