ديمة ونوس: كتبت في «الخائفون» ذاكرتي الغائمة التي غيّرتني

2017-06-05 06:00:00

ديمة ونوس: كتبت في «الخائفون» ذاكرتي الغائمة التي غيّرتني
للمصوّر ريشار سمور 

في روايتها «الخائفون»، (دار الآداب 2017)، تروي الكاتبة والروائيّة السوريّة ديمة سعد الله ونوس، قصة شعب تشقق الصمت فيه فصار ثورة، قبل أن تنفجر الثورة تحت ضغط آلة القمع الرهيبة، وتتشظى بعض ملامحها، من دون أن تنسى أنّها ولدت كجواب طبيعيّ على إذلال شعب كامل طوال أكثر من أربعين سنة. 

درست ديمة الأدب الفرنسيّ في جامعة دمشق. وكتبت في الصحافة العربيّة مقالات في المجالين الثقافيّ والسياسيّ. وعملت لعدّة سنوات في مجال الترجمة الإخباريّة. وكان أن كتبت مقدّمة الطبعة الثانية لكتاب «النقد الذاتي بعد الهزيمة» للمفكّر السوريّ الراحل صادق جلال العظم، الذي صدر عن دار ممدوح عدوان للنشر عام 2007. 

صدر لديمة مجموعة قصصيّة بعنوان «تفاصيل» (دار المدى 2007 )، وفي السنة التالية أصدرت روايتها الأولى «الكرسيّ» (دار الآداب). وهي تعمل حالياً في قناة "المشرق" (أورينت) الخاصّة.

رسمتِ في «الخائفون» عوالم السوريّين بعد الثورة: عوالم كاملة من التوتر والخوف والألم والقلق والترقب.. حدثينا أكثر عن روايتك الثانية هذه؛ مضمونها وظروف كتابتها. 

ليست الرواية عن عوالم السوريّين بعد الثورة، بل قبلها. ذلك الخوف القاتم واللعين الذي تورّطوا به قبل قيام الثورة بأربعين سنة أو أكثر بقليل. أردت دائماً كتابة رواية عن الخوف. أو عن فكرة الخوف من الخوف.

ملامح كثيرة جمعت بين السوريّين، إلّا أنّ الخوف هو الصفة الأكثر وضوحاً، الأكثر التصاقاً بهم، لدرجة أنّها تحوّلت مع الوقت إلى أمر واقع يحفّز البعض على الحياة بينما يودي بآخرين إلى الموت. ليس الخوف شعوراً بسيطاً. ليس كالفرح ولا كالتشاؤم ولا حتى كالكآبة. الخوف يشلّ القدرة على التسلّل ولو خطوة واحدة خارجه. يبني جدراناً متينة، كتومة، يحرّض على التناسخ والبقاء في إطار الجماعة. نقلّد الجماعة، ونستميت في محاولة أن نشبهها، ونتشبّث بكل ما من شأنه يجعلنا نسخاً عن بعضنا البعض، في طريقة المشي وحركة اليدين والنظرة المنطفئة والضحكة المقفولة والمتردّدة، وتفاصيل أخرى. لأنّ مجرّد فكرة الخروج من الإطار العامّ للجماعة، يذكّرنا بأنّنا خائفون فنخاف من الخوف. لم يكتفِ الخوف بإصابة الكائن السوريّ بالشلل. زرع فيه الشك بالآخر. شكّ راح ينمو يوماً بعد يوم، وسنة بعد سنة، معربشاً على كل آخر نصادفه خارج الجماعة أو خارج المتعارف عليه. وصار الشكّ صفة تورّث وكأنّها جزء من الجينات والوجدان والوعي العامّ والخاصّ. حتى أنّ الشكّ والارتياب يطال من لا يخاف منّا! إذ لا بدّ أنّه متواطئ مع النظام أو عميل أو "مدعوم"! فهل يعقل ألّا يكون كائناً خائفاً مثلنا نحن البشر العاديون؟ ثم إنّ الخوف يتجاوز حدود الخطوط الحمراء المرسومة والمعروفة ويروح يلامس خطوطاً أخرى نخترعها احتياطاً خوفاً من أن نخاف. وتلك الحدود الجديدة التي نبتكرها تتحول مع الوقت إلى معايير مقدّسة. والخوف إذ يبدأ من النظام والأجهزة الأمنيّة والسجن والتعذيب والأحكام العرفية، ينتهي بالخوف من الطقس مثلاً، من البرد والشتاء، من المرض، من الموت، من الأماكن المغلقة أو تلك المرتفعة. وأنا لا أبالغ هنا. بالتأكيد هناك مخاوف يشترك بها سكان الأرض كلّهم أينما ولدوا، إلّا أنّ السوريّين، استطاع النظام أن يوسّع دوائر مخاوفهم لتنطلق مما هو منطقيّ وما هو متخيّل وما هو غير مبرّر. كتب الكثير عن السجون والتعذيب والخوف بمعناه الملموس والجسديّ والروحيّ، وهي كتب تستحق القراءة لأنّها توثّق لتاريخ بلد الخوف. إلّا أنّني أردت الكتابة عمّا يصنعه الخوف في أجسادنا وأرواحنا، عن ذلك الخراب الذي راح يجزّ بحيّز وعينا الجماعي والفردي، مدمّراً كل ما يشي بحياة طبيعية.

الرواية مكتوبة بضمير المتكلم الذي ينطق بلسانك، ولكنها مع ذلك متعددة الأصوات، في مراوحة بين المتخيّل والواقع، وعبر زمنين، زمن دمشق الحاضر القريب، وزمن حماة الماضي القريب أيضاً؟ لماذا اخترت هذه التقنية في السرد؟

ضمير المتكلّم في الرواية لم يكن لساني، بل لسان (سليمى) التي ولدت في مدينة حماة وهربت مع والديها وأخيها الوحيد (فؤاد) إلى دمشق بسبب خوف والدها الطبيب من أن تصيبه المجرزة بأذى. ضمير المتكلّم الآخر جاء بلسان (سلمى) التي لم نتعرّف إلى اسمها إلّا في نهاية الرواية تقريباً. ثمّة روايتان في «الخائفون»  تكمّلان إحداهما الأخرى ربما.

الأولى كتبتها (سليمى) الحموية والثانية كتبها حبيبها (نسيم) بلسان (سلمى) طرطوسية الأب، دمشقية الأم والمولد. وقد يضيع على القارئ إن كانت (سليمى) هي من كتبت "أوراق نسيم"، إلّا أنّ التفاوت في اللغة يعطي الانطباع بأنّ شخصاً أخر هو من كتب بلسان (سلمى) الهاربة من دمشق إلى بيروت والكاتبة التي فقدت القدرة على الكتابة مكتفية بالعمل في دار نشر بيروتية. الخوف هو الصفة المشتركة بين الشخصيات الثلاث تلك (نسيم وسليمى وسلمى). خوفهم الذي قادهم إلى عيادة المحلل النفسي (كميل).

رأى نقاد أنك في روايتك هذه تروين سيرتك، ولأنك لا تريدين أن تسمي الأب (سعد الله ونوس) باسمه، فإنك أبقيته مُغْفَلاً. وأنك لم تستطيعي أن تخفي ظل ذلك الأب الديمقراطي العلماني الدمث الذي تجاوز طائفته المسيطرة على البلاد، إلى أي حد اتكأتِ على جانب السيرة الذاتية وأرّختِ لجانب من ذاكرتك الشخصية؟

كل رواية تحمل جزءاً منّا، من ذاكرتنا وما عشناه وما نتخيّل أن نعيشه. الخروج من الذات ممتع جداً لأنّه يتيح التلصّص على خيالاتنا حول حيوات الآخرين. لم أكتب عن أبي ولا عن طفولتي بقدر ما كتبت عن ذاكرتي الغائمة حول بعض المشاهد المفصلية في حياتي. تلك التي غيّرتني، وجعلت مني ذلك الكائن الخائف والكئيب. ليست سيرة ذاتية، فمن أنا لأكتب سيرتي الذاتية! إلّا أنّها سيرة ذاتية للباطن، ونبش لذاكرة بعيدة ومشاعر تحتاج إلى بحث صادق وإلى أسئلة جدية وشفافة وتفكير عميق لنستطيع فهم أنفسنا. من أنا؟ من أين أتيت؟ مع من عشت ومن أثّر بي؟ كيف صرت هذا الكائن الذي تعادل قوّته هشاشته! الذي يخاف من الخوف..

تقولين في مقالة سابقة لك أنك "فقدت القدرة على الكتابة الأدبيّة بعد الثورة"؟ ما الذي قصدتيه؟

صحيح. فقدت القدرة على الكتابة لسنوات. ذلك الكمّ من المباشرة يقتل القدرة على التخييل. ما عاشه السوريّون خلال سنوات قليلة، كان موجعاً، مكثفاً، ثقيلاً ولا يمنح فرصة للاستيعاب. في كل مرة كنت أجلس فيها أمام شاشة الكومبيوتر، وأهمّ في الكتابة، أرى نفسي غارقة في التوثيق والمباشرة وتدوين كل ما يفتقر للخيال. ذلك الغرق لا يسهل الخروج منه خاصّة مع كل ما نشاهده بشكل لحظي، كل ما نقرأه على صفحات التواصل الاجتماعي التي سرقتنا من حياتنا. رحنا نستعيض عن طقوس القراءة والنقاش والكتابة والتأمّل، بتصفّح الفيسبوك وتويتر والحصول على كمّ غير منطقيّ من المعلومات والأخبار والمواقف والشعارات والضحالة في كثير من الأحيان. هذه الحياة الجديدة التي فرضت على معظمنا، لا تترك فسحة للاستغراق في نبش الذات. نصبح مشغولين بنبش الآخرين وشتمهم ومراقبة أقوالهم ومواقفهم وزلّاتهم وإحصاء أنفاسهم.

ماذا تعني لك لحظة الكتابة وماذا تريدين منها؟

الكتابة بالنسبة لي هي المهرب الوحيد من أيامنا المريضة هذه. لا أملك غيرها طريقاً للعبور من يوم مضجر وخانق إلى يوم آخر متخيّل وبعيد عن اللحظة الراهنة. الكتابة تمرين نفسي لخلق عالم موازٍ نعيش فيه مع أشخاص افتراضيين يتحوّلون صفحة بعد الأخرى إلى كائنات حميمة تشاركنا الذاكرة والهاجس والحلم والهرب.

كتبت مجموعة قصصيّة «تفاصيل» (دار المدى - 2007)، ومن ثم روايتين «الكرسيّ» (دار الآداب - 2008)، و«الخائفون» (دار الآداب - 2017)، هل كانت مجموعتك القصصيّة تلك بمثابة تمرين للوصول إلى كتابة رواية؟

كثيرون يعتقدون أنّ كتابة القصة ليست سوى تمريناً للوصول إلى الرواية. أرى العكس تماماً. كتابة القصّة أصعب بكثير من كتابة الرواية. القصة تحتاج إلى الكثير من التركيز والإيجاز، في حين أنّ الرواية تمنح الكاتب مساحة فضفاضة وزمناً مفتوحاً. إضافة إلى أنّ الرواية أكثر مرونة من ناحية تسلسل الأفكار والأحداث. قد يبدأ الكاتب بفكرة معيّنة، فتأخذه إلى أفكار أخرى وأحداث غير متوقّعة بينما تحتاج القصة إلى وعي مسبق حول مصير الشخصيات والأحداث.

لو نستعيد بعض الذكريات من تجربة بناء ذاتك الأدبيّة وما هو المنعطف الذي حوّلك من قارئة إلى كاتبة؟ ومن هم الكتّاب الذين شكلوا مرجعيتك ومن الملهم بالنسبة لك؟ وأي أثر تركه مُنجَز والدك الأدبيّ الراحل الكبير سعد الله ونوس؟

بدأت بالكتابة في عمر مبكّر. ربما لأنّني احتجت باكراً للهروب من حياة صعبة عشتها في طفولتي بسبب مرض بابا وغياب ماما المنشغلة بعلاجه وتغذيته لمواجهة السرطان. ولم أتجرّأ على النشر إلّا في وقت متأخّر نسبياً، بسبب الخوف. لأنّ مجتمعاتنا مهما بلغت درجة انفتاحها وثقافتها، تبقى أسيرة لأفكار إيديولوجيّة مرهقة. ما جعلني أخاف من النشر هو توقّعات الآخرين. إذ لا يمرّ يوم إلّا وأسمع عبارة: هل ستكملين مسيرة الوالد؟ وكأنّنا في مسيرة قومية أو نضالية أو حزبية.

كان الأمر بمثابة تحدّ متعب لي. إلى أن اخترت النشر مهما سيكلّفني الأمر من انتقادات ومقارنات. ليس هنالك من ملهم لي في الكتابة. تأثّرت بكل ما قرأت وبكل التجارب التي عشتها وبكل الأشخاص الذين قابلتهم. الملهم الوحيد بالنسبة إلي هو الإنسان. كل شخص ألتقي به ولو للحظات، يلهم ذاكرتي ويحفّزني على الكتابة. نحن لسنا أفراداً، إنّنا مزيج شخصيات وأحلام وأوهام وتجارب وقراءات ومشاهدات.

كان الكثير من الروائيّين صحافيّين في مستهل مسيرتهم. فهل أفادك العمل الصحافيّ في الكتابة الإبداعيّة؟

العمل الصحافيّ له تأثير إيجابي على العمل الإبداعيّ وآخر سلبي. العمل في الصحافة الثقافيّة أو السياسيّة، يحتاج إلى الاطلاع والقراءة والبحث والمشاهدة وبالتالي لا بدّ له أن يغني ذاكرة الكاتب ويخصب خياله. إلّا أنّ اللغة الصحافيّة وخاصّة تلك المهنية التي لا تحتمل التسلل إليها عبر الأدب، قد تدمّر جانباً لغوياً ما لدى الكاتب، وقد تقلّل من جلده على الاستغراق في التفاصيل والإبحار في جمالية اللغة. لذلك لم أستطع البدء بكتابة روايتي الأخيرة بشكل جدّي ويومي، إلى أن اتخذت قرار التوقّف عن كتابة المقالات. خاصّة وأنّنا بعد انطلاق الثورة السوريّة، بتنا نحتاج إلى معلومات لحظيّة لننجز مقالاً. ما من شأنه تعطيل الخيال والقدرة على الهروب مما هو مباشر من قتل ودمار ومشاهد موت نتلقّاها على الهواء مباشرة! ذلك الاطلاع اللحظيّ على الخراب والقتل والتعذيب، يدمّر فينا جوانب إنسانيّة، نحن بأمسّ الحاجة إليها أثناء كتابة الرواية أو القصة أو المسرحية أو الشعر.

بين استبداد الحاكم المتسلط الذي نحياه واستبداد المتشدّدين الدينيّين الذي يحاول إعادتنا إلى القرون الوسطى، كيف يمكن لك أن توفري لنصك مساحة الحريّة اللازمة لإنتاج نص ينتصر لثقافة الحياة والحريّة؟

لم يعد ثمّة استبداد قادر على تقييدنا، عسكريّاً كان أم دينيّاً. الثورة قامت وأسقطت النظام منذ اليوم الأول حتى وإن لم يسقط جسديّاً. إلّا أنّ حاجز الخوف والحذر اقتلعته حناجر المتظاهرين والثائرين الشجعان في الداخل السوريّ. زمن الخوف ولّى إلى غير رجعة، وسوريّو الداخل قادرون على القيام بألف ثورة وثورة ضد كل من يريد إقفال أفواههم والحدّ من حريّتهم. 

كيف تعاملت مع رقيبك الداخليّ أثناء كتابة هذه الرواية، خاصّة وأنك كنت متحرّرة من سقف الرقابة الأمنيّة بحكم تواجدك خارج سوريا؟ وهل من الترف الانشغالُ بالشرط الجمالي للنص في هذا الزمن المدمى؟

لا يمكن للأدب أن يسيل مع الدم المراق، ولا أن يتورّط بحفلات الجنون التي نعيشها. الأدب وإن كان تاريخاً موازياً في بلداننا، إلّا أنّه مطالب بالانفصال عن التوثيق واليوميات واللغة المباشرة وكل ما نعيشه مباشر إلى حدّ الغثيان. لا بدّ للأدب أن ينتصر على تلك المباشرة، وهذا لا يعني أن يكون منفصلاً عن الواقع بالتأكيد، فأنا أرى الأدب تاريخاً حقيقياً لمدننا ومجتمعاتنا وأنظمتنا القمعية التي خرّبت فينا حتى اللغة والمنطق والخيال. ما البال إن كنّا نتحدّث هنا عن اللغة العربيّة! لغة غنّية تفيض بالمشاعر والجمال والقسوة والفرح والحزن. مفرداتها مطواعة يسهل توظيفها لتعبّر بدقة نادرة عن حالة معينة، ولحظة بذاتها. لغة لم تختصر الابتسامة على سبيل المثال بكلمة واحدة، ولا البكاء ولا الحزن ولا المطر ولا الفرح ولا الضحك. ثمّة تدرّجات في مفرداتها تحملك من فعل التهيّؤ إلى شيء ما إلى فعل القيام به، إلى فعل الاستغراق فيه حتى حدوده القصوى. لغة لها بداية ونهاية. فكيف لكل هذا الغنى أن يكون ترفاً؟ اللغة حياة. ولو اطلعنا على مسيرة الرواية العربيّة، لوجدنا، خاصّة في الرواية اللبنانية المعاصرة والمصرية، تطوّراً لافتاً في ابتداع أفعال جديدة تخلط بين العاميّة والفصحى، وتوجز في التعبير وتبرع في جعل القارئ يلمس بالضبط ما تريد له أن يلمسه أو يراه أو يحسّه.

أخيراً، ما هو المشروع الأدبي الذي تعملين على تحقيقه بعد رواية «الخائفون»؟

لم أبدأ بعد بشكل جدّي. لا بدّ من مسافة مع «الخائفون» لأستعيد أنفاسي وأحقق مسافة تتيح لي الانفصال عن (سليمى وسلمى ونسيم وكميل). خاصّة وأنّنا نعيش زمناً صعباً واستثنائياً محفوفاً بالعنف والخراب مما يجعل الانفصال عمّا يحدث أصلاً أمراً في غاية التعقيد والصعوبة.

ننشر غداً فصلاً من الرواية..