حول قضية أبو حميدو وقضايا "التعامل" الإعلامي والثقافي مع العدو (آخر ما كتب غسان كنفاني)

2017-07-08 11:00:00

حول قضية أبو حميدو وقضايا

على أنه يجب التأكيد على أننا حين نرفض إلغاء حقنا (وواجبنا) في الاطلاع على إنجازات العدو وفكره، فإننا مرة أخرى ـ لا ندعو إلى التسيب باسم الحرية المزيفة، أو فتح أبواب الغزو الإعلامي للعدو على مصراعيه، أو شد أزره بحربه النفسية ضد جماهيرنا، وترك الحقن اليومية لفرض ثقافة الاستسلام والاستخذاء تنغرس في أدمغة شعبنا دون حساب.. كلا، إن علينا أن نعي حالة الحرب التي نعيشها، والأساليب التي يستخدمها العدو على جميع المستويات، والتصرف وفق القوانين التي تعطينا حق الدفاع عن أنفسنا وعن جماهيرنا، واستخدام الوسائل الكفيلة ليس فقط ببناء مصفاة فعالة في هذا المجال، بل ردع كل المحاولات الخبيثة التي لا تتعب من استخدام الحديث عن "الحريات" لفتح الباب أمام حملات العدو.

كتب غسان كنفاني هذه المقالة قبيل اغتياله بأيام، وقد نشرت بمجلة "شؤون فلسطينية"، العدد (12)، بتاريخ شهر آب/أغسطس 1972، وهي آخر ما كتبه قبل اغتياله في الثامن من تموز/ يوليو 1972، عن 36 عاماً.

نعيد نشرها في الذكرى الخامسة والأربعين لرحيله ..

في الفترة القريبة الماضية تفجرت أحداث جزئية شغلت الكثير من الناس حول قضايا تتعلق بالمقاومة بالذات، ولم تكن هذه الأحداث في حد ذاتها مهمة، ولكنها كانت مناسبة لإلقاء نظرة إلى جذورها، ومع ذلك فإن مثل هذه النظرة لم تُتح إلى الآن، ليس فقط لانغماس الكثير من المتناقشين في التفاصيل السطحية لهذه الأحداث، ولكن أيضاً بسبب التسارع المستمر للتطورات المحيطة بحركة المقاومة، بحيث يندر أن تتاح الفرصة للقيام بامتحان عميق لحدث من الأحداث، من جميع جوانبه، قبل أن يطغى حدث جديد يشد الانتباه إليه، ويغطي على ما عداه، وهكذا.

لعل أبرز أحداث الفترة التي نتحدث عنها، والتي تندرج في قائمة المواصفات التي أشرنا إليها، هي مسألة "أبو حميدو" والضجة التي أثارتها الاتهامات التي وجهت إليه حول ما قيل عن قيامه باغتصاب فتاتين، هما شقيقتان، من بلدة حاصبيا مما دفع شقيقهما إلى إطلاق الرصاص عليهما وقتلهما، وردود فعل سكان البلدة الذين هبوا لغسل العار الذي لحق بهم، ثم قرار محكمة الثورة القاضي بإنزال حكم الإعدام بالفدائي "أبو حميدو" وذلك "كي يكون عبرة لغيره"، على أن يجري تنفيذ هذا الحكم في ساحة البلدة، وبقية القضية معروفة: فقد رفض سكان البلدة إعدام أبو حميدو، وطالبوا بانسحاب الفدائيين من البلدة وجوارها ـ وقد انسحب الفدائيون فعلاً، وقصفتهم الطائرات الإسرائيلية ظهر اليوم التالي قبل أن يتمكنوا من مواقعهم الجديدة، وتمويهها، ولكن الطائرات الإسرائيلية قصفت، أيضا، شوارع البلدة ذاتها دون تمييز. وقيل فيما بعد أن "أبو حميدو" أصيب بجراح أثناء تعرض المنطقة للقصف، ولعله كان واحداً من نزلاء السجن الذي تعمدت الطائرات الإسرائيلية ضربه.
​وفي الوقت الذي كان حادث أبو حميدو، وذيوله، تشغل الجزء الأكبر من المناقشات المحتدمة في تلك الفترة، كانت قضية أخرى تتفاعل على مستوى أقل حدة، وهي قضية يمكن تلخيصها بـ: حدود وضوابط العلاقات الإعلامية والثقافية عموماً، مع العدو الإسرائيلي، ففي تلك الفترة أخذ طالبان على عاتقهما أمر الاشتراك في برنامج تلفزيوني بريطاني، من قبرص، قاما أثناءه بمناقشة مباشرة مع طالبين إسرائيليين حول قضية فلسطين. وفي الفترة نفسها أخذت قضية "فنلي"، في كلية بيروت للبنات، (وهو الأستاذ الذي تغاضى عن وجود مقطع في كتاب دراسي مقرر، يبرر الاغتصاب الصهيوني) تتفاعل، وتنتقل إلى صفحات الصحف اليومية وتصل إلى حد المطالبة بطرد الأستاذ المذكور. أما قضية وجود مرجع طبي إسرائيلي في مكتبة الجامعة الأمريكية، فقد أخذت حيزاً أقل من الاهتمام، ومع ذلك فقد أدت إلى طرح المسألة الأساسية في هذا النطاق.

ولا تشكل هذه القضايا الثلاث شيئاً جديداً تماماً، فقد حدثت أمور تماثلها مرات عديدة خلال السنوات الماضية، والواقع أنه لا يمكن اكتشاف منطق معين للأسباب التي تؤدي إلى ظهورها فجأة، واحتدام النقاش حولها، مرة بعد أخرى ـ وقد يحدث ذلك في فترة يكون فيها العدد الأسبوعي من "الاكسبرس" الفرنسي (مثلاً) موجوداً في كل مكان من بيروت، ويخصص عدة صفحات لشتم عنصري وديني للعرب، دون أن يقوم أحد ليس بمنع "الاكسبرس" أو مناقشة موقفها، ولكن حتى بعتاب مراسلها في بيروت!

على أن المهم في هذه القضايا، والإشكال المختلفة التي تظهر فيها بين الفينة والأخرى، هو أنه طوال الفترة الماضية لم يكن بالوسع التوصل إلى مقاييس وقوانين فيما يتعلق بحدود وضوابط الصلة الإعلامية والثقافية عموماً، مع العدو ـ وهكذا ظلت الأمور خاضعة في معظم الأحيان لتقديرات شخصية، وظلت الأحكام بشأنها هي الأخرى أحكاماً فردية في معظم الأحيان لتقديرات شخصية، وظلت الأحكام بشأنها هي الأخرى أحكاماً فردية، ومزاجية في أحيان كثيرة.

لنحاول، فيما يلي، إلقاء نظرة على هاتين القضيتين: قضية أبو حميدو، وقضية النشاطات الإعلامية والثقافية للعدو، وعلاقتنا بها، على جميع المستويات.

قضية أبو حميدو 

لا يمكن فهم هذه القضية دون تفكيكها إلى عناصرها الأصلية، وإلا ظلت بالنسبة لنا كتلة من الغموض، ومن الانفعالات التي لا تفسر، وبالتالي لا يمكن حلها. وإني أرى أنه كي يكون بوسعنا الإحاطة بهذه المسألة (وبالدرجة الأولى: بدلالاتها وجذورها) علينا تقسيمها إلى ثلاثة أجزاء رئيسية: موقف الثورة، أي ثورة، من الانتهاكات التي يرتكبها عناصرها ـ الاغتصاب وجرائم العرض ـ وعلاقة المقاومة بالأهالي.

أ ـ موقف الثورة من الانتهاكات التي يرتكبها أعضاؤها:

لا يجادل أحد في أن الثورات عادة تطلب من عناصرها درجة عالية من الانضباط المسلكي، خصوصاً إزاء تقاليد الجماهير في فترات الاحتكاك معها في عهود الكفاح المسلح. ويصل هذا الانضباط إلى حد جعل الكثير من المفكرين ومؤرخي الثورات يعتقدون أن أحد الأخطار الكبيرة التي تواجه الجيوش الثورية هي تحولها، نتيجة للضبط الحديدي لمسلكيتها، إلى قوة محافظة في المستقبل. ويقول لنا جون ريد، مثلاً، أن التعليمات التي حملها الجيش الأحمر معه حين اكتسح المقاطعات الإسلامية في الصين إبان الثورة كانت تطالب بمسلكية معينة وقاسية لا تكاد تصدق، إلى حد كانت معه تعليمات الرئيس ماو للجنود الصينيين تصل إلى الطلب بأن لا يتلفظوا قط، أمام المسلمين، بكامة "كلب" أو "خنزير" أو "خمر".

وليس استثنائياً على الإطلاق أن يقوم الجيش الثوري بإعدام عنصر من عناصره إذا ما اغتصب فتاة، وقد حدث ذلك مرات لا يحصيها عدد، بل أن الجيوش الثورية، في فترات احتدام حرب الشعب الوطنية، تصدر أحكاماً بالإعدام على عناصر من صفوفها لأسباب تبدو أحياناً، إذا ما نظر اليها من الخارج، أقل شأناً من الاغتصاب.

ومن هنا فإن الحكم بإعدام فدائي اغتصب قروية هو من حيث المبدأ إجراء لا يمكن وصفه بأنه غريب أو استثنائي، ولكن إصدار حكم من هذا النوع يجب أن يرتبط، من بين أمور عديدة، بأمرين أساسيين: أولهما التحقيق بالأمر وفق أصول علمية، ذلك لأن جريمة الاغتصاب هي واحدة من أعقد الحالات الجرمية، خصوصاً إذا ما نظر إليها من زاوية ثورية، وليس من زاوية الانسياق في نسخ التقاليد بصورة آلية. (وسنرى تفاصيل ذلك حين نصل إلى بند الاغتصاب وجرائم العرض). وثانيهما: ضرورة قياس حادث من هذا النوع وفق القوانين التي جرى تربية عناصر الجيش الثوري على أساسها: درجة الانضباط، درجة التسيس، والشروط المسلكية التي يعتمدها هذا الجيش، وإلى آخر ما هنالك من قوانين، ودون وجود مثل هذه القوانين الثورية أصلاً في صلب التربية السياسية والعسكرية للقوات المسلحة، فإنه من غير المنطقي تطبيق تلك القوانين فقط عند حالات العقاب.

إذا عدنا الآن ونظرنا إلى حادثة "أبو حميدو" من خلال هذين الشرطين، وجدنا أن ما حدث يكاد يكون مهزلة، وسنرى فيما بعد لماذا كان كذلك.

فمن الواضح أن "أبو حميدو" لم يغتصب الفتاتين، ولا واحدة ـ وأن حالة التحرش التي حدثت، على سذاجتها، لم تكن حالة مبسطة (بمعنى أن أبو حميدو ليس هو الذي سببها جملة وتفصيلاً) ـ وأن الموضوع كله أخذ على أكثر أشكاله سذاجة وبساطة، وجرى التحقق منه من خلال ردة فعل الشقيق الذي اغتال شقيقتيه دون مبرر، واعتبر سلوك الشقيق وكأنه برهان على خطأ شقيقتيه وجريمة أبو حميدو وهو اعتبار غير جائز بالطبيعة، خصوصاً حين تأخذ به ثورة تحكم على أحد عناصرها بالموت.

ولكن الأمر الآخر أقل أهمية، وهو الأمر الذي يلخصه السؤال التالي: هل نشأ "أبو حميدو"، داخل قوات الثورة، على درجة من التربية السياسية والنضالية، والانضباط التنظيمي الحديدي، موازية في منطقها وصرامتها لهذه الدرجة من العقاب التي نزلت به حين أخل بالسلوك المطلوب؟

لقد ذكرنا في السطور السابقة أن الجيوش الثورية، في فترات حرب الشعب الوطنية، وعلى الأخص حين يكون الصراع المسلح محتدماً ضد العدو وسط الجماهير، تضع شروطاً قاسية على مسلكية عناصرها، وغالباً ما تسمح لنفسها بدرجة ليست قليلة من الانحناء أمام التقاليد السائدة حين لا تكون هذه التقاليد في السطر الأول من جدول التناقض الراهن ـ ولكن هذه الجيوش لا تفرض تلك الشروط من خلال منطق التخويف بالعقاب، ولا تفرضها من خلال سطوة الإرهاب، ولكنها تبنيها تدريجياً من خلال الوعي، بحيث يصبح التزام المناضل الثوري بهذه القوانين المسلكية جزءاً من واجباته النضالية، لا إلزام  فيها ولا جزاء، مستندة إلى الوعي الثوري، وقائمة على الانضباط التنظيمي، ومستمدة من القناعات الذاتية العميقة.

عندها يصبح تحطيم هذه القوانين جريمة كبيرة، تستحق تلك الدرجة من العقاب ـ وهذا بالذات ما يفسر منطق الثورة حين تجعل عقاب جريمة الاغتصاب الإعدام، في حين أن القوانين المدنية العادية لا ترى في هذا العمل ما يستوجب عقاباً لا يصل في أقصى الحالات إلى أكثر من خمس سنوات من السجن.. ذلك لأن الثورة تعتبر جريمة الاغتصاب جريمة سياسية أيضاً.

من هنا، فإنه حتى لو ارتكب "أبو حميدو" جريمة اغتصاب فتاة من بنات الشعب، فإن الشروط الثورية تقتضي النظر إلى هذه الجريمة ـ إذا أردنا اعتبارها جريمة سياسية أيضاً ـ من خلال الوعي، وإذا نظرنا إليها من خلال وعي أبو حميدو، صار لزاماً علينا أن نضع نصب أعيننا امتحان أسلوب التربية السياسية في التنظيم الذي ينتمي إليه، فإذا كانت التربية السياسية في ذلك التنظيم متقدمة، وقائمة على التوعية والانضباط والمسلكية الثورية والعلاقة الحتمية مع الجماهير، فإن العقاب الذي ينزل بمرتكب الجرم، عندها، يكون غيره فيما لو كان التنظيم المشار اليه متسيباً، وفاقداً لعناصر التثقيف السياسي والانضباطية المسلكية، وغير مكترث بالجماهير أو مهتم بها.

إن نشاط أية "محكمة ثورية" ـ على وجه العموم ـ لدى ثورة النظام الداخلي لتنظيم ما أو حزب أو جبهة، ومن اللوائح التنظيمية الملحقة به ـ ومن المفهوم أن الأنظمة الداخلية لحزب أو لحركة أو لجبهة هي انعكاس للإيدولوجيا التي تسترشد بها، وهذا يدلنا، بصورة مختصرة، على الحيثيات الكامنة وراء منطق العقاب في الثورة ـ هذا العقاب الذي يستند إلى نظرة للإنسان وللعالم تختلف عن تلك التي تنتهجها الأنظمة والدول الخاضعة لسيادة البرجوازية، أو الاقطاع، أو الواقعة تحت الاحتلال. فالثورة لا تستطيع إلا أن ترتبط مسألة العقاب بالوعي ـ ومن البديهي أن الوعي، بالنسبة لعضو في تنظيم معين، مرتبط ارتباطاً شديداً بالمسألة التنظيمية، ويجب النظر إلى منطق العقاب من خلال ذلك كله.

ب ـ الاغتصاب وجرائم العرض:

كما هو واضح فإن جريمة الاغتصاب، في مجتمع مثل مجتمعنا، هي جريمة معقدة، تكاد تكون لكل واحدة منها شروط تختلف عن الأخرى. أنه من التكرار التذكير بأن مجتمعنا متخلف، يضع حواجز قاسية بين الجنسين، ولا يستطيع أن يقدم حلاً منطقياً لمشكلة الكبت (خصوصاً بعد انتهاء عادة الزواج المبكر)، وفي الوقت نفسه يتسامح إزاء نشر الصور العارية، والأفلام الإباحية، وترويج منطق "التحرر" الجنسي وأخلاقياته على جميع المستويات، والتحريض على اعتباره منطق المثل الأعلى المنشود ـ إن مجتمعاً من هذا النوع لا يمكن أن تكون الجرائم الجنسية فيه، بما في ذلك الاغتصاب، أحداثاً بسيطة أو أحداثاً يمكن الحكم عليها ببساطة. ويتوجب علينا أن ندرك أن هذه "الجرائم"، على مختلف مستوياتها، هي أفعال مركبة ومعقدة وتخضع كل واحدة منها إلى شروط فريدة، لا نستطيع إلا أن ندرسها إذا أردنا أن تكون أحكامنا عليها دقيقة وغير جائرة.

والمشكلة هي أنه مع ازدياد تعقيد واقع الجريمة الجنسية، وحوافزها ونتائجها، فإن جرائم العرض ـ كرد تقليدي على جرائم الجنس ـ مازالت تحتفظ بمنطقها القديم إياه، وتوفر لها القوانين الرجعية، وكذلك منطق الأنظمة البورجوازية المتخلفة، جواً من الحماية الكافية لضمان استمرارها: فهذه الأنظمة، بالرغم من دورها المباشر وغير المباشر، في خلق مسرح الجريمة الجنسية، فإنها تهرع إلى مساندة مجرمي العرض، قتلة أخواتهم وزوجاتهم وبناتهم وأمهاتهم وبنات عمومتهم، بفرض عقاب شكلي ـ في حين أنها تقف عاجزة عن تقديم أي حل لحماية تلك الأخوات والزوجات والأمهات وتوفير استمرار الحياة.

إن حادثة "أبو حميدو" هي نموذج لهذا المنطق غير المتزن الذي خضع له الجو العام طيلة أيام الأزمة:

* فقيام شقيق الفتاتين بقتلهما هو عمل لا مبرر له، حتى في السياق التقليدي لمنطق جرائم العرض، ومع ذلك توفرت له الحماية على جميع مستويات المجتمع والدولة.

* وانصباب النقمة على "أبو حميدو"، حتى دون إثبات ودون تحقيق، ورغم الصيحات الخافتة للأطباء الشرعيين، جاء بمثابة الإمعان في حماية قاتل شقيقتيه، وهدر دم برئ.

* وانسياق الثورة الفلسطينية في هذا التيار جاء كثالثة (؟؟؟؟) إذا أن الثورة، أمام مشكلة من هذا النوع، وأمام الواقع المعقد للجرائم الجنسية وجرائم العرض كانت مطالبة بوقفة جادة وعميقة، حتى وأن كفلتها هذه الوقفة، مؤقتاً، هزة صعبة.

فليس الاغتصاب، كما قلنا، كلمة تقال، بل هي عمل يخضع لظروف محدودة ولشروط معقدة: فما فهمه الشقيق بأنه جريمة اغتصاب لم يكن كذلك، وما فهمه المجتمع ـ قياساً على جريمة الشقيق ـ بأنه "اغتصاب جماعي"، لم يكن كذلك ـ وقد جاء قرار الاعدام الذي أبرمته الثورة وكأنه يوافق على ذلك الفهم المغلوط للحادث بدلا من انتهاز الفرصة لطرح مثل هذا الموضوع الخطير طرحاً موضوعياً، ومواجهة الخطأ بجرأة، ودعوة القوى الوطنية والتقدمية في لبنان لقول كلمتها.

الصفحة الأولى من المقالة


ج ـ علاقة المقاومة بالأهالي:

في المقاطع السابقة من المقال نقاط تبدو للوهلة الأولى وكأنها على غير علاقة مباشرة بموضوعنا، نقاطا من نوع: دور الوعي السياسي عبر العملية التنظيمية في فرض منطق العقاب ـ والمأزق الجنسي وجرائم العرض في بلادنا ـ ودور القوى الرجعية في تهيئة مسرح الجريمة الجنسية وبعد ذلك المسارعة إلى حماية القاتل ـ ومهمة التنظيم الثوري في صدم المجتمع المنساق في تيار الضلال والخطأ ـ ودور الثورة في النظر إلى مسألة العلاقات بين الرجل والمرأة نظرة علمية في مستوى التطورات التي نعيشها وعدم الخضوع للإرهاب اللفظي الذي تمثله كلمات مثل اغتصاب، وانتهاك، وشرف، وعرض، حين تكون مفرغة من معانيها الإنسانية ـ الانحناء أحياناً أمام بعض التقاليد ولكن ليس الانسياق في تيارها ـ وبعد ذلك دور القوى الوطنية والتقدمية في لبنان إزاء حادثة حاصبيا بالذات. على أن هذه النقاط هي في الحقيقة في صلب موضوعنا، وتشكل أساسه. وإذا أردنا حقاً فهم حادثة حاصبيا وقصة أبو حميدو، فإنها، بالدرجة الأولى، حصيلة هذه النقاط مجتمعة.. ولو في كل نقطة من هذه النقاط هو الذي جعل من هذا "الحادث العادي"، حادثاً سياسياً كبيراً.

ومع ذلك، فإن عشرات من مثل هذه الأحداث تقع كل يوم في كل بقعة من بقاع وطننا العربي، والذين يواكبون حياة المقاومة والمقاومين، يعرفون ـ وهذا ليس سراً ـ إن ما توهم كثيرون أنه وقع في حاصبيا قد وقع فعلاً، وليس وهماً، في أمكنة عديدة من البلاد العربية، وأن التنظيمات كانت تنظر في كل قضية من هذا النوع النظرة التي تتفق مع أنظمتها وعلاقاتها الداخلية، وتتخذ الإجراءات المناسبة، وفي معظم الحالات كانت الأمور تنحل قبل وصولها إلى درجة التأزم.

سنكون في منتهى السذاجة لو اعتقدنا للحظة واحدة، أن الآلاف من الشبان الذين يشكلون الجسد الحي لحركة المقاومة، والذي ينتسب معظمهم إلى حركات وقوى كان لها نظرة سلبية إلى مبادئ التثقيف السياسي والتربية التنظيمية، هم جيش طاهر من القديسين الأتقياء الورعين، وأنه ينبغي علينا عدم توقع أي خلل أو خطأ في مسلكياتهم ـ ولكن الصحيح هو أن هذه المجموعة من الأخطاء والانتهاكات، في السنوات الماضية، ومن خلال القياس النسبي، كانت قليلة للغاية، وأقل ما يمكن توقعه.

ومع ذلك فإنه ـ بالإجمال ـ لم تكن التنظيمات تتلكأ قط في اتخاذ إجراءات صارمة جداً أحياناً ضد مرتكبي تلك الأخطاء أو الانتهاكات، ولا شك أن هذه الإجراءات كانت أحياناً تخضع لتقديرات مبالغ في قسوتها، وأنه في العادة كانت تشكو من عدم استنادها الى لوائح تنظيمية واضحة، إلا أن ذلك لم يكن يمنع من احتفاظ المقاومة بدرجة معينة من الانضباط، ومن المنطق التفاهمي، وفي علاقتها مع الناس على مختلف المستويات. فلماذا انفجر الموقف في حاصبيا على هذه الصورة؟

إن هذا السؤال يجب أن يعيدنا إلى جذور المسألة، وهي جذور تقع بلا شك أبعد من أبو حميدو، وأبعد من قرار محكمة الثورة. وعلينا، تواً، أن نضع المسألة باختصار وبوضوح: لقد أشار حادث حاصبيا إلى خلل خطير في علاقة المقاومة بجماهير الجنوب، وعبّر عن انفجار لمأزق متقادم، وأوضح أن سلسلة المعالجات الخاطئة للعلاقات مع الجماهير في جنوب لبنان قد دفعت بالتناقض الثانوي إلى سطح الأحداث...

وهكذا فإن إيقاف نظرتنا لحادث حاصبيا عند أبو حميدو، هو بمثابة التزلج على قشرة المشكلة!

والذهاب إلى جذر المشكلة هو الذي يفسر لماذا أخذ حاصبيا كل هذا الحجم الذي لا مبرر له، في حين أن أحداثاً مشابهة قد وقعت في أمكنة مختلفة، ولاقت حلولها نتيجة لمبادرات من المقاومة حيناً، أو من ممثلي الأهالي حيناً آخر.

وقد تراكمت الأمور لفترة طويلة كي تصل إلى ما وصلت إليه في حاصبيا، ولعلنا نستطيع أن نلاحظ أن ذلك التراكم لم يكن تجميعاً مبسطاً لأحداث يومية عادية، ولكنه تركيب معقد لنتائج كانت تصب من خلال الممارسات التالية:

أ ـ ضعف العلاقة بين المقاومة الفلسطينية وبين الحركة الوطنية والديمقراطية في لبنان، هذا الضعف الذي كان يلجأ أحياناً لإخفاء نفسه وراء مختلف صيغ "المساندات" الميكانيكية، وأحياناً أخرى وراء إنشاء علاقات مختارة ووجاهات، ولكن من حيث الجوهر ظلت المقاومة تعتبر نفسها وجوداً طارئاً وزائداً في الجنوب، وليس جزءاً لا يتجزأ من تحرك وطني ديمقراطي شامل، مرتبطة به ارتباطاً يومياً، ومنظماً من خلال القوى الوطنية والتقدمية.

ب ـ عسكريتاريا المقاومة، التي أصرت على طرح نفسها فقط من خلال وجود وممارسات عسكرية، مما أدى إلى ترويج فهم خاطئ لمفهوم "القاعدة العسكرية" ومفهوم "تنمية القدرات القتالية" في  الجنوب، وتحويل هذه المفاهيم وغيرها إلى ممارسات تتناول حياة الجماهير من الخارج، ولا تدخل في صلبها وتصبح جزءاً من وعيها أو من تحركها اليومي.

ج ـ نتيجة لهذا الطابع العسكريتاري لوجود المقاومة في الجنوب، فإن كسل العمليات القتالية وضآلة حجمها وعددها وفعاليتها في الفترة الأخيرة، قد أفقد ذلك الوجود ـ في أعين قطاع كبير من الجماهير الجنوبية ـ قسماً كبيراً من مبرراته، وتضاعفت كمية السلبية في النظر إليه، وتضاءلت إلى الصفر كمية "التسامح" أو "التفهم" أو "العقلانية" في معالجة الأخطاء الناجمة عن ذلك الوجود الذي فقد الكثير من مبرراته.

د ـ يضاف إلى ذلك كله أن عدونا (وهو بدوره حالة مركبة من أطراف مختلفة ومتفاوتة الحجم) يعيش على مبادرات متحركة تعرف كيف تتسرب من خلال هذه الظروف، وتعرف كيف توجه رياح حربها النفسية، وغاراتها المعنوية، وضغوطها العسكرية والسياسية ـ وقد نجح هذا العدو إلى حد بعيد في إرهاب جماهير الجنوب وبناء حاجز من الخوف بينها وبين المقاومة، وهو حاجز سببه الخشية من "عقاب" إسرائيلي توجهه أجهزة مخابرات قديرة ومتسللة جيداً في الجنوب (قبل وبعد حادث حاصبيا، مثلاً، قامت منظمتان بإعدام جاسوسين كان الإسرائيليون قد نجحوا في تجنيدهما من داخل هاتين المنظمتين، وقد أعدم أحد هذين الجاسوسين في ساحة قرية صديقين ـ وأثناء أزمة حاصبيا كان كثير من السكان الغاضبين مقتنعاً تماما بصحة إشاعة مفادها أن 25 فدائياً على الأقل قد تناوبوا اغتصاب الشقيقتين ـ ولم تكن هذه الشائعة بعيدة عن نشاط مخابرات العدو).

ومهما يكن فإنه يتوجب علينا عدم المبالغة (كما يحدث عادة) بأهمية هذا البند الأخير، بحيث يعطي الأولوية ـ لأنه من الواضح أن قدرات العدو هذه لم يكن من الميسور لها أن تحقق النجاح الذي حققته لو كانت الثغرات في علاقة المقاومة بالجماهير اللبنانية، وفي تصورات المقاومة لطبيعة وجودها ومهامها في الجنوب، أقل مما هي فعلاً.

إن النتائج التي أخذت تتراكم تدريجيا، كإفرازات يومية لهذه الخطوط، أو لهذه القنوات الأربع، قد تحولت إلى طاقة نوعية وجدت أول الفرص السانحة لتعبر عن نفسها في حادثة أبو حميدو، ولو لم يخطر على بال ذلك الشاب، عصر ذلك اليوم، أن يتحرش بفتاتين شاهدهما تتمشيان قرب المعسكر، لكان انفجار حاصبيا، أو غيرها من القوى الجنوبية، قد حدث أيضاً، وربما بعد يوم أو أكثر، عبر حادثة من هذا النوع أو من نوع آخر.

إن هذا الحادث، منظوراً إليه من هذه الزوايا المجتمعة، يشكل في جانبه الإيجابي إشارة إلى ضرورة الوقوف بجرأة، وإعادة النظر بالتجربة، وتصويبها ـ وذلك من خلال توحيد موقف المقاومة حول خطة وهدف العمل في جنوب لبنان، وبالتالي شكل ومدى العلاقة مع الجماهير الجنوبية، والدور المركزي للقوى الوطنية والديمقراطية في لبنان إزاء هذه المهام.

إنه من السخف تحميل الخطأ لـ "أبو حميدو"، واعتبار المسألة منتهية هنا، وكذلك فإنه من السخف توجيه اللوم لأهالي حاصبيا، واعتبار المأزق مجرد افتعال لحالة غضب لا مبرر حقيقي لها، وعلى نفس المستوى فإنه من الضروري القول بأنه لا دماء الشقيقتين البريئتين، ولا دماء أبو حميدو، ولا الأحكام الأخلاقية في العالم تستطيع أن تحل مشكلة من هذا النوع.

وقد يكون من المستحيل تجنب القيام بإجراء آني، أو تكتيكي، عندما نواجه بمشكلة واقعية من هذا النوع ـ هذا صحيح، لكن الخطأ الفظيع هو أن يكون ذلك الإجراء الآني أو التكتيكي إجراء انفعالياً، مقطوع الصلة بالفهم الصحيح للمشكلة، وبالتالي فهو لا يكون إلا مقدمة للوقوع، بعد فترة وجيزة، في فخ مشكلة مماثلة.

قضية العلاقات الإعلامية:

تختلف طبيعة وأبعاد هذه القضية اختلافاً كلياً عن طبيعة وأبعاد المشكلة الأولى التي صارت تعرف باسم "مشكلة أبو حميدو".

وكما قلنا فإن الموقف العربي من قضايا العلاقات الإعلامية والتعليمية، والشؤون الثقافية الأخرى، مع العدو، أو مع مؤسسات تابعة له، ما يزال إلى الآن خاضعاً لاجتهادات شخصية وتقييمات ذاتية. ورغم أن هذا النوع من العلاقات أكثر تعقيداً وتشابكاً من العلاقات التي تدخل في اختصاص قوانين ولوائح مكتب مقاطعة إسرائيل، إلا أننا نلاحظ، بصورة إجمالية، أن الموقف العام الذي تعتنقه الغالبية الساحقة من العرب الذين يطلب منهم "التحاور" الإعلامي مع إسرائيل، هو الرفض. ومع ذلك فإن مكاتب المقاطعة نفسها تقع في إشكال معقدة حين يطلب منها أن تصدر حكماً على ممثل سينمائي، أو على موسيقي، أو على كاتب ـ وغالباً ما تتعرض أحكامها في هذا النطاق إلى اختراق من هذه الدولة العربية أو تلك، في فترة ما أو فترة أخرى، رغم أن قوانين وقرارات مكاتب المقاطعة هي ـ على وجه الإجمال ـ مطاعة من قبل الدول الأعضاء في الجامعة.

إن هذه الملاحظات ضرورية للإشارة إلى أنه من الصعب للغاية، أو بالأحرى مستحيل ـ الزعم بأنه بالإمكان صياغة وصفة، أو قرار، ينطبق على كل الحالات، ومن الضروري اتباعه في كل زمان وفي كل مكان وعلى جميع المستويات. على أنه يتعين علينا أن نسارع إلى القول أن تحفظنا هذا لا يعني قط أن تظل الأمور سائبة، وأن تظل المقاييس فردية ومزاجية ـ بل على العكس تماماً: فلأنه من الصعب وضع صيغة لقرار يناسب كل الحالات فلابد إذن من ايجاد جهة مخولة بتقدير الموقف في كل حالة من هذه الحالات، وتصدر القرار الذي تراه مناسباً.

ونحن ندرك أن مثل هذه الجهة ـ ومن البديهي أن تكون قيادة الإعلام الموحد في منظمة التحرير ـ سترتكب أخطاء في تقدير الموقف هذه المرة أو تلك، إلا أن هذه الأخطاء تظل في نطاق معقول، وهي أفضل من حالة التسيب التي يمكن أن تنشأ في حال ترك الحبل على الغارب.

إن هذا الإجراء ينبع ببساطة من كوننا في حالة حرب في إسرائيل، وأن هذه الحرب المحتدمة يسقط فيها شهداء كل يوم تقريباً، وأن أكثر من نصف شعبنا منفي، ونصفه الآخر تحت قمع الاحتلال المباشر، والآلاف يرزحون بالسجون. ولو لم تكن درجة التناقض مع العدو بهذا المستوى من الحالة الصدامية المحتدمة، المتمثلة بالكفاح المسلح، لكانت الدعوة لإنشاء مثل هذه الجهة المركزية لا مبرر لها.

ولكن، وزيادة في محاولة الاقتراب من صورة أشمل، لنأخذ أحداثاً مختلفة، كل على حدة:

أ ـ التحاور بين طلاب إسرائيليين وطلاب فلسطينيين في تلفزيون لندن:

إن الطالبين الجامعيين الفلسطينيين (طالبة وطالب) اللذين ذهبا إلى قبرص لمنازلة طالبين إسرائيليين حول المسألة الفلسطينية قد حققا في رأي كثير من المشاهدين انتصاراً ساحقاً في المجادلة على الطالبين الإسرائيليين اللذين مثلا حالة من السطحية العاجزة. ولكن الذين شاهدوا البرنامج لاحظوا أيضاً أن الإطار الذي قدمت فيه المجادلة كان إطاراً يحمل على تأييد إسرائيل.

إن معظم الحالات التي جرت فيها مواجهات من هذا النوع في برامج إذاعية وتلفزيونية مختلفة في أوروبا وأمريكا كانت تنتهي لمصلحة الطرف العربي. وهذه النتيجة ليست غريبة، وكل من يعرف شيئاً عن وجهات النظر الإسرائيلية، والفنون الإعلامية يعرف عادة كم هي هشة في حالات النقاش.

ومع ذلك فإن السبب الذي يحملنا على الدعوة لرفض هذا النوع من الترف لم يكن قط الخوف من نتيجة المبارزة الكلامية، أو الخشية من "صلابة" الفهلويات الإسرائيلية القابلة للكسر بسهولة، عند مواجهة فيها الحد الأدنى من الموضوعية.

إن السبب الأول هو أننا في حالة حرب مع هذا العدو، ومقاطعتنا له ليست نابعة من موقف وجداني، ولكنها نابعة من طبيعة المواجهة التي نعيشها ضده، وهذه المقاطعة هي في حد ذاتها وجهة نظر، وموقف.

إننا ندرك بأن كسب الرأي العام العالمي ـ في هذه المرحلة على الأقل ـ لا يقدم فيها ولا يؤخر مثل هذه المبارزات الكلامية ـ وعلى العكس تماماً، فإن أجهزة الإعلام البرجوازية تستخدم مثل تلك المبارزات للإمعان في لعبتها التي تحقق لها في نهاية التحليل سطوة أشد على عقول جمهورها.

إن "بي بي سي" لندن، التي ذهب بها "تسامحها" إلى حد فتح الفرصة أمام طالبين عربيين كي ينتصرا في مبارزة كلامية على طالبين إسرائيليين، قبل حادث الهجوم على مطار اللد بـ 24 ساعة فقط، تعمدت طوال الأسبوعين اللاحقين رفض تمرير عبارة واحدة لمصلحة الفلسطينيين في كل نشراتها الإخبارية، إلى حد اضطرت معه إلى تزوير واجتزاء تصريحات وبيانات فلسطينية كي تجندها في خدمة حملتها العنصرية.

ولدينا كل الحق للاعتقاد بأن تلك المبارزة الكلامية قد خدمت بصورة لا مثيل لها هذا المنهج المنحاز، ومن المؤكد أن مثل هذا العمل ليس نتيجة لمؤامرة شيطانية أو تخطيط سري، ولكنه نتاج منطقي للبنية السياسية والإيديولوجية التي تحرك أجهزة إعلام هذا الطراز.

إننا بصورة إجمالية، ورغم كل تجاربنا، لم نستوعب بعد مدى انحياز وسائل الإعلام البورجوازية للحركة الصهيونية التي تراها كجزء حيوي من منطقها وتطلعاتها ـ وحسن ظن الكثير منا بكمية وجدوى المظاهر الديمقراطية الحرة في وسائل الإعلام هذه، وطابع "البرلمانية" و"الحوار" الذي تمنحه لنفسها هو في الواقع نتيجة لمدى تغلغل سطوة هذه الوسائل الإعلامية في عقول بعضنا.

إنني أجرؤ على القول، من خبرة مادية وواقعية، إن هدر مئات الساعات مع آلاف من الصحفيين والإذاعيين الأجانب، خلال السنوات الماضية قد أدى إلى نتائج تكاد لا تذكر ـ والشيء الوحيد الفعال هو حجم العمل المسلح والعمل السياسي في أرض المعركة ذاتها، وليست هذه الملاحظة بعيدة عن موضوعنا، إذ أن مقابلة كل صحافي وكل إذاعي هي في الواقع حلقة من الجدل العنيف، هي ـ لو شئنا ـ شكل من أشكال المبارزات الكلامية. فالأحرى أن يقوم هؤلاء الإعلاميون بفتح مسرحهم أمام تمثيلية بين طلبة عرب وطلبة إسرائيليين. فذلك مشهد ليس فقط عديم النفع، ولكنه ضار بالنسبة لنا.

إن مقاطعة العدو، ورفض حوار الإقناع معه من خلال المبارزات الكلامية، هو في حد ذاته موقف. هو وجهة نظر. هو شكل من أشكال الصدام.

ومع ذلك، فإن الشكل الإعلامي (أي الحوار الكلامي مع العدو) هو شكل واحد فقط من بين عدد كبير من الأشكال الإعلامية التي يمكن لنا أن نستخدمها في الغرب، شرط أن يظل هذا الاستخدام مشدوداً إلى الحقيقة الجوهرية التالية: إن تغيير ميزان القوى الإعلامي في الغرب لا يحدث إلا في ميدان القتال.

إذا استوعبنا هذه الحقيقة استيعاباً عميقاً وجيداً، صار بوسعنا معرفة ما هو أصح إزاء الأشكال الإعلامية المختلفة التي يتعين علينا انتهاجها: إن أي شبكة تلفزيونية ليست مستعدة لإعطاء أي فلسطيني، في حال سكون الثورة، دقيقة واحدة ليعبر فيها عن رأيه ـ ولكن هذه الشبكات ترغم إرغاما على فتح شبكاتها أمام صوت المقاومة حين يصبح الحجم القتالي والسياسي لهذه المقاومة من الكبر بحيث يدخل، أو يمس، الإطار اليومي لحياة الناس في الغرب. وعندها لا نعود بحاجة إلى تقديم مشهد مسل من مشاهد المبارزات الكلامية، مع عدونا المنصرف إلى قتل شعبنا واستبعاده، أمام أمريكي أو سويدي أو ألماني يتعشى "الهوت ـ دوغ" أمام شاشة التلفزيون، ولا يختلف الأمر عنده إن ذهب العرب إلى صحراء أو ذهبوا إلى جهنم، مهما كانت قدرة المجادل العربي على الحذلقة!

إن عملنا الإعلامي في الغرب يجب أن يستند على الأصدقاء، على الحركة الثورية في البورجوازيات الغربية، ولا يمكن أن يتكون رأي عام عالمي يقف إلى جانبنا دون جهد هذه القوى اليسارية، وتبنيها للقضية، وبوسع هؤلاء الأصدقاء أن يقرروا عند ذاك، على ضوء الواقع الذي يعيشونه في مكان معين وزمان معين، الأشكال الأفضل للمعركة الإعلامية.

إن الإعلام معركة ـ هكذا يقول لينين ـ وبالنسبة لنا فإن معركتنا الإعلامية لا تحقق انتصاراً إذ ما جرى خوضها من خلال المبارزة الكلامية مع العدو أمام رأي عام في مجمله منحاز، وعلى شبكات إذاعية وتلفزيونية تقف جوهرياً ضد قضايانا.

إن الجلوس مع العدو ـ حتى في استديو تلفزيوني ـ هو خطأ أساسي في المعركة، وكذلك فإنه من الخطأ اعتبار هذه المسألة مسألة شكلية.

إننا في حالة حرب، وهي بالنسبة للفلسطينيين على الأقل مسألة حياة أو موت، ولا بد من التزام جمهرة الشعب الفلسطيني بالشروط التي تستوجبها حالة حرب من هذا الطراز.

ب ـ قضية البروفيسور فنلي وقضية المرجع الطبي:

لعل الأستاذ المذكور قد ظلم في هذه الحملة، إذ قيل منذ فترة طويلة أنه صديق للعرب، وأن المقطع "الصهيوني" الذي ورد في كتاب كان قد اختاره كمقرر لصف من صفوف كلية بيروت للبنات، لم يكن مقصوداً. ومهما يكن الأمر، وإذا كان انطباعي صحيحاً، فإنني شعرت طوال تطورات هذه القضية أن المسألة المفتعلة ـ ليس لأن الأستاذ الأمريكي المذكور صديق للعرب أو ليس صديقاً لهم، ولكن لأن المقطع الذي أثار كل تلك الضجة هو مقطع سخيف، وأن تدريسه يجري في صفوف عليا.

إنني لا أرى سبباً يمنع الصفوف العليا من الاطلاع على تفكير العدو، بل لا أرى سبباً يمنع من أن يكون هذا الاطلاع إجبارياً. لو كان هذا المقطع، أو أي مرجع صهيوني، قد جرى تدريسه خلسة في صف ابتدائي، كشكل من أشكال غزو العقول البريئة العزلاء لأطفال غير قادرين على خوض جدل ضد ذلك الغزو، فإن الأمر يصبح جريمة وطنية إذن.

ولكنني لا أستطيع أن أفهم كيف نتردد حتى الآن في الاطلاع، وفي السماح بالاطلاع، على مصادر وأشكال فكر العدو.

هل كان البروفسور فنلي "يهرّب" مادة ممنوعة إلى عقول عزلاء؟ إنني لا أعتقد ذلك، ولم أقتنع بحجج الذين حاولوا الإيحاء بهذا. كل ما هنالك أن مقطعاً كتبه مؤرخ متعصب، نصف أعمى، يشكو من سذاجة فكرية مفرطة، قد جعل يمر من أمام أعين طلبة من المفترض أن يكونوا متقدمين.

والشيء نفسه ـ تقريباً ـ يقال عن المرجع الطبي الموجود في مكتبة الجامعة الأمريكية (والواقع أن مكتبة الجامعة الأمريكية مليئة بالكتب التي تعكس فكراً صهيونياً وإسرائيلياً على صعيد الأدب والاجتماع والاقتصاد).

على أن ذلك كله على شيء مهم، يمكن التوصل إليه من خلال طرح التساؤل التالي: لماذا نخاف من مثل هذه الأمور؟ وهل من المفترض أن نلغي حقنا (وواجبنا) في الاطلاع على الإنجازات الفكرية والعلمية لأفراد العدو، والاستفادة منها أيضا؟

إن ما يكمن وراء هذا التساؤل هو قناعتنا بأن مناهج التربية والتعليم في بلادنا ليست في مستوى القدرة على على معالجة هذا الموضوع جذرياً، ولو توفرت عندنا القناعة بأن التنشئة الوطنية في مدارسنا مبنية على أسس علمية وراسخة وصحية وعصرية، لما كان المقطع الساذج في برنامج "فنلي" يخيفنا، ولما كانت رؤيتنا لمرجع طبي من إنتاج عالم إسرائيلي في مكتبة الجامعة تهز ثقتنا بقدرة طلابنا الجامعيين على معرفة الفارق بين هذا المرجع، وبين استمرار معركة التحرر الوطني ضد العدو الإسرائيلي.

إن برنامجاً للتنشئة الوطنية، قائماً على البحوث العلمية والحقائق العلمية والحقائق التاريخية والتحليلات السليمة، يضع طلابنا وهم في صفوفهم الابتدائية والثانوية في صلب معارك أمتهم ومصالحها، هو الذي يجعل معالجتنا لمثل هذه المواضيع تصبح معالجة صحيحة.

وفوق تأسيس وطني من هذا النوع يصبح من واجبنا أن نوفر لطلابنا في دراساتهم العليا كل شيء يحدث في إسرائيل. صحافة وكتباً وإنجازات.

وبالطبع، فإن تربية وطنية من هذا الطراز لن تمنع من وجود أستاذ أجنبي منحاز، مازال مصراً على غسل يديه الملطختين بدماء الخطيئة الإسلامية بجلود العرب، أو متعصب ديني محشو بالخرافات السياسية ـ إلا أنه من المؤكد عندئذ أن الضرر الذي يستطيع مثل هذا الأستاذ، الأجنبي أو العربي، تسبيبه للطلاب يكون محصوراً ومحدوداً وغير ذي أهمية.

إن التناقض الذي لا يحتاج إلى شرح، والذي نعيشه كل يوم فيما يتعلق بهذه المسألة، يدل على الأساليب الشكلية التي تقوم بها معظم الأنظمة العربية لمعالجة مشكلة مهمة من هذا الطراز، وفي الوقت الذي تمتلئ فيه كل صحف الغرب، تقريباً، باندماج إسرائيل وشتم العرب، وتدخل إلى معظم أسواقنا دون رقابة، وتشكل غزواً إعلامياً عنصرياً مستمراً ويومياً، نرى أن الحملة على كتب موضوعية بين أيدي جامعيين هي التي تثير الجدل!

على أنه يجب التأكيد على أننا حين نرفض إلغاء حقنا (وواجبنا) في الاطلاع على إنجازات العدو وفكره، فإننا مرة أخرى ـ لا ندعو إلى التسيب باسم الحرية المزيفة، أو فتح أبواب الغزو الإعلامي للعدو على مصراعيه، أو شد أزره بحربه النفسية ضد جماهيرنا، وترك الحقن اليومية لفرض ثقافة الاستسلام والاستخذاء تنغرس في أدمغة شعبنا دون حساب.. كلا، إن علينا أن نعي حالة الحرب التي نعيشها، والأساليب التي يستخدمها العدو على جميع المستويات، والتصرف وفق القوانين التي تعطينا حق الدفاع عن أنفسنا وعن جماهيرنا، واستخدام الوسائل الكفيلة ليس فقط ببناء مصفاة فعالة في هذا المجال، بل ردع كل المحاولات الخبيثة التي لا تتعب من استخدام الحديث عن "الحريات" لفتح الباب أمام حملات العدو.

إن جوهر الحل الإيجابي هو "ردكلة" الجماهير ـ تعميم ثقافة وطنية علمية ـ أي المضي بالثورة إلى الأمام بالدرجة الأولى.