الوثائقي «غسان كنفاني.. الكلمة والبندقية»: حياته حتى استشهاده

2017-07-26 12:00:00

الوثائقي «غسان كنفاني.. الكلمة والبندقية»: حياته حتى استشهاده
من الوثائقي

وسواء كان غسان يعرف أو يتدخل في سير العمليات الخارجية التي نفذتها الجبهة كما اختلف رفاقه بالفيلم كأبو أحمد فؤاد الذي أشار لدور حقيقي لغسان في العمليات، وبسام أبو شريف الذي أعتبر أن معرفة غسان كانت تقتصر على اللحظة الأخيرة ليهيئ الآلية الإعلامية لمواكبة الحدث، إلا أنهم أجمعوا على أن وجوده كناطق إعلامي للجبهة جعله أحد القادة المدرجة أسماؤهم في قائمة اغتيالات الموساد التي وضعتها غولدا مائيير وإيهود باراك وزير "الدفاع" آنذاك.

بعد هزيمة عام 1967، تأسست "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" من رحم "حركة القوميين العرب"، واختار مؤسسا التنظيم جورج حبش ووديع حداد الصحافي والأديب الشاب غسان كنفاني ليكون منظراً لفكر المنظمة الاشتراكية التي بدأت تبرز على الساحة العربية والدولية نتيجة لعملياتها النوعية التي أوجعت إسرائيل بعد سنوات قليلة على انتصارها على حلف الدول العربية مجتمعة في حرب حزيران. فتولى كنفاني رئاسة تحرير مجلة الجبهة الحزبية "الهدف" التي أسسها عام 1969، والتي خرج من رحمها لاحقاً قسم السينما التابعة للجبهة الشعبية الذي أسسه المخرج العراقي قاسم حول، ليؤسس كنفاني مؤسسة إعلامية تقود حرباً إعلامية مرافقة للحرب العسكرية التي تقودها الجبهة خلف العدو في كل مكان.

وفي ذات العام الذي أسس فيه غسان "الهدف"، أصبح كذلك عضواً للمكتب السياسي للجبهة الشعبية، وساهم في وضع البيان التأسيسي والنظام الداخلي للجبهة، وإلى جانب عمله السياسي كتب العديد من الدراسات والروايات والمسرحيات والقصص القصيرة، وأصبح واحداً من الصحافيين والكتاب العرب الأكثر انتشارا، وسجلت كتبه نسب قراءات عالية في الدول العربية أسوةً بكتّاب كبار كنجيب محفوظ، كما أشار الناقد الفلسطيني الدكتور عادل الأسطة في مقابلته بالفيلم الذي بثته قبل أيام قناة الجزيرة ضمن سلسلة تنتجها بعنوان "الجريمة السياسية"، وحمل الوثائقي عنوان «غسان كنفاني.. الكلمة والبندقية».

فيلم الكلمة والبندقية:

يسرد الفيلم كما أرادت له مخرجته رانيا رافعي، مراحل من حياة الأديب والسياسي الفلسطيني الراحل غسان كنفاني، وصولاً إلى تفاصيل حادثة اغتياله التي أشارت فيها كل أصابع الاتهام للموساد الإسرائيلي، كون إسرائيل كعادتها لم تتحمل مسؤوليتها عن عملية الاغتيال.

ولد كنفاني في مدينة عكا في التاسع من نيسان أبريل من العام 1936، وفي أجواء مضطربة تشوبها ثورة شعبية ضد الاحتلال الإنجليزي والمهاجرين اليهود، لعائلة من الطبقة المتوسطة، نشأ وترعرع ودرس في يافا بحكم دراسته في مدرسة "الفرير" التي تعلم فيها اللغتين الفرنسية والإنجليزية. وفي المقابلات التي عرضها الفيلم، تحدث عدد من رفاق كنفاني في الجبهة الشعبية مثل ماهر اليماني، صلاح صلاح، وآخرون، عن شخصيته، حياته منذ ولادته ونشأته في يافا، مروراً بانتقاله إلى الكويت ليعمل مدرساً، عمله في مدارس الأنروا، لقائه بالدكتور جورج حبش عبر صحيفة "الرأي" التي وجد فيها منبراً لأفكاره التحررية الثورية، وانضمامه من خلال حبش إلى حركة القوميين العرب، ولاحقاً تأسيس الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، أعماله الأدبية والسياسية، وصولاً لحادثة اغتياله التي هزت الشارع العربي والفلسطيني.

كل الحقيقة للجماهير:

في نهاية الستينيات وبداية السبعينيات من القرن الماضي، كانت منظمة التحرير الفلسطينية حديثة التأسيس من عدة منظمات بتوجهات أيديولوجية مختلفة، قد غيرت من شكل حياة الفلسطينيين بعد الهزائم المتلاحقة وحولتهم كما قال ياسر عرفات في وقتها، من شعب لاجئين إلى شعب من المقاتلين، ولم تكن تلك المنظمات الفلسطينية قد دخلت مرحلة الصراعات الداخلية بعد، فكان كنفاني في ذلك الوقت منظّراً للثورة والجماهير الفلسطينية، وليس فقط لأنصار الجبهة الشعبية.

ومن خلال مجلة الهدف التي رفعت شعار "كل الحقيقة للجماهير" أضحت صوت الجماهير الرافضة للتسويات السلمية داخل المنظمة، وانتشارها أكثر عربياً وسطوع نجم محررها الشاب عالمياً بعد أن بدأ يستقبل وفود الصحافيين الغربيين القادمين لتغطية تطورات أحداث العمليات الفلسطينية.

بدأ كنفاني يخوض المعركة مع العدو إعلامياً للفت انتباه العالم للقضية الفلسطينية، فزار دولاً اشتراكية، واستقبل ضيوفاً، مقاتلين، صحافيين، سينمائيين من كل أنحاء العالم، في حين أصبحت "الهدف" عنواناً لكل الضيوف الغربيين القادمين إلى لبنان لمعرفة ما يحدث من تطورات وتغطية أحداث ووقائع حرب التحرير، وينظم الزيارات للصحافيين والناشطين لمخيمات اللاجئين في لبنان، وكانت آني هوفا إحدى تلك الضيوف الدنماركيات، وقد جاءت إلى لبنان لتتعرف أكثر على الفلسطينيين وأصبحت لاحقاً زوجته.

غسان يلتقي حنظلة في المخيم:

في إحدى زيارات غسان إلى مخيم عين الحلوة للاجئين الفلسطينيين في بيروت، التقى ذات يوم شاباً في التاسعة عشر من عمره، وقد عرض عليه بعض الرسومات التي قرر غسان لاحقاً نشرها في مجلة الهدف، وكانت تلك اللحظة الحاسمة في حياة رسام الكاريكاتير الأشهر عربياً منذ السبعينيات والثمانينيات، ناجي العلي، بنشر أولى رسوماته، وكانت اللوحة الأولى لناجي تمثل خيمة لاجئين تخرج منها قبضة يد.

الفدائي الذي لم يحمل سلاح:

رغم عمره الإبداعي القصير، حيث استشهد وهو في السادسة والثلاثين، إلا أنه كتب القصة القصيرة، الرواية، المسرح، الدراسات والأبحاث، والمقالات السياسية والأدبية باسمه وبأسماء مستعارة، إلى جانب عمله الأخطر كناطق إعلامي باسم واحدة من أخطر المنظمات اليسارية في العالم في ذلك الوقت؛ الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، والتي كانت مسؤولة عن خطف عدد من الطائرات الإسرائيلية والغربية، كان أبرزها مراثون خطف الطائرات في سبتمبر من العام 1970 والذي انتهى بتفجير ثلاث من الطائرات المخطوفة على أرض المطار في الأردن وأوصلت إلى اندلاع شرارة حرب أدت لخروج منظمة التحرير الفلسطينية إلى لبنان، وكان كنفاني في واجهة الحدث إذ عقد المؤتمر الصحافي بحضور أكثر من ثمانين صحافياً غربياً ليعلن عن شروط الخاطفين بتحرير ليلى خالد والأسرى الفلسطينيين لدى إسرائيل.

ومن خضم الأحداث التي عاشها في لبنان والكويت، أستوحى كنفاني قصصه الصغيرة من شخصيات وأحداث حقيقية عايشها وعاش معها في المخيمات والشتات الفلسطيني، فحملت أعماله الأدبية تجربة شعبه في الشتات، وحتى نهاية حياته القصيرة ظلّ مكرساً كل طاقة عمله أدبياً وسياسياً وإعلامياً في خدمة قضيته، ورغم هذا الصخب في حياته فقد كان على حد وصف رفاقه ومن عرفوه عن قرب أو درسوا ودرّسوا سيرته، فقد كان محباً للحياة، رغم مرضه بالسكري الذي عاش معه منذ طفولته، وهو المتزوج والأب لطفلين، وكان أحد الصحافيين الغربيين قد وصفه في مقال قبيل استشهاده، بالفدائي الذي لم يحمل سلاحاً، بحسب ما قالت زوجته آني هوفا كنفاني في الفيلم.

وراء العدو في كل مكان:

كان قيادياً في الجبهة الشعبية، ومحرر مجلتها "الهدف"، فإلى جانب العمليات الخارجية التي شنتها الجبهة، بدأ غسان حملته المكثفة بالتواصل مع العالم وشرح قضيته ودوافعها ودوافع عملياتها، وكان مؤمناً بضرورة ملاحقة العدو وضرب مصالحه في كل مكان، ونقل المعركة معه إلى كل أرجاء العالم. فجاءت عمليات خطف الطائرات في الأردن، ولاحقاً جاءت عملية مطار اللد التي نفذها 3 عناصر من الجيش الأحمر الياباني وصلوا مطار اللد، وفتحوا النار في قاعة الانتظار مسقطين 26 شخصاً  في 30 مايو/أيار 1972  وأغلقوا المطار الدولي الوحيد وبوابة إسرائيل الوحيدة على العالم، وفرضوا حصارا كاملاً على إسرائيل.

وسواء كان غسان يعرف أو يتدخل في سير العمليات الخارجية التي نفذتها الجبهة كما اختلف رفاقه بالفيلم كأبو أحمد فؤاد الذي أشار لدور حقيقي لغسان في العمليات، وبسام أبو شريف الذي أعتبر أن معرفة غسان كانت تقتصر على اللحظة الأخيرة ليهيئ الآلية الإعلامية لمواكبة الحدث، إلا أنهم أجمعوا على أن وجوده كناطق إعلامي للجبهة جعله أحد القادة المدرجة أسماؤهم في قائمة اغتيالات الموساد التي وضعتها غولدا مائيير وموشيه ديان وزير "الدفاع" آنذاك.

أوجعت عمليات المنظمة إسرائيل كثيراً، ففكرت الأوكرانية المهاجرة جولدا مائيير، رئيسة حكومة إسرائيل الرابعة، بما يمكنه أن يكون قادراً على رد الضربة الموجعة لمنظمة التحرير، فوضعت قائمة اغتيالات لقياديي المنظمة ضمن سياسة انتقامية واضحة لكبح جماح تنامي قوة المنظمات الفلسطينية حديثة التأسيس، بدأت بغسان كنفاني، مرورا بأبي حسن سلامة، وامتدت لأبي يوسف النجار ورفاق آخرين.

الاغتيال:

صباح الثامن من يوليو تموز من العام 1972، انفجرت عبوة ناسفة كانت مزروعة في داخل سيارته أودت بحياته وابنة أخته الأحب إلى قلبه، لميس نجم، ابنه السبعة عشر عاماً. وتقول رواية الجبهة الشعبية أن عبوة ناسفة بوزن 9 كيلو غرامات كانت مزروعة بداخل سيارته، وأشارت تحقيقات الجبهة والجهات اللبنانية إلى أن الموساد كان يقف خلفها رغم عدم تبنيه للمسؤولية، لكن من كان يد الموساد التي نفذت وزرعت القنبلة؟ هل هي أيادٍ لبنانية أو فلسطينية أو أخرى؟ ظلّ هذا السؤال، بعد أكثر من أربعة عقود على الجريمة، لغزاً لم تكشف تفاصيله.

خرج في جنازة كنفاني في بيروت أكثر من أربعين ألفاً منهم الفنانين والسياسيين والدبلوماسيين والأدباء والصحافيين والمقاتلين وأبناء شعبه من اللاجئين واللبنانيين والعرب، وبعد أكثر من خمسة وأربعين عاماً على جريمة الاغتيال لا تزال كتب غسان كنفاني تباع في المكتبات العربية والعالمية بعد أن ترجمت لأكثر من عشرين لغة، جاعلة من "زمن الاشتباك" مستمراً مع المحتل، وهو المصطلح الذي استخدمه غسان في أدبه لوصف الحرب مع العدو، مفضلاً مصطلح "الاشتباك" على "المعركة" كون المعركة تحدث وتتوقف بينما الاشتباك يبقى مستمراً، حتى بعد وفاة الفدائي. "يمكنك قتل إنسان، لكن ليس كلماته"، هكذا تقول آني كنفاني أرملة غسان الدنماركية وأم ولديه.