العشاء المقدّس الأخير

2017-08-02 18:00:00

العشاء المقدّس الأخير

تنتهي مرحلة وتبدأ أخرى.. نعود أدراجنا إلى حيث كنا، يخرج طفل لا يتجاوز عمره السنتين، منثور الشعر الأشقر كشبل صغير، يُخرجه آدم من السيارة ليتبوّل في الشارع.. يتعلّم الطفل الذكر الآن كيف يتخذ موقفًا من الحيز وأملاك العامة؛ بتبوّله يرسم الشبل حدود مملكته الصغيرة وسط غابة السيارات المتزاحمة.

«هواء مقدس» هو اسم فيلم جديد للمخرج الفلسطيني ابن الناصرة شادي سرور. عاش شادي مع قصة الفيلم 11 عامًا، ولدت فكرته مع معرفته بحمل زوجته بطفلتهما الأولى، كبرت القصة وتطورت مع نسيج المدينة اليومي، وباتت سردية لحال مدينة البشارة.

في قالب درامي كوميدي مثقل بالرموز نرى الناصرة وحال مجتمعها، عينة من حال فلسطينيي 48 الذين يعيشون في ظل ترددات الاحتلال السياسي، والعبث بالقيم الاجتماعية وتحويرها، غياب المنفعة العامة مُستبدلة بالانتفاع والأنانية.

يضحكنا سرور حيث يجب أن نتفكّر، ويُحرجنا حيث يجب أن نتماهى، ويصدمنا حيث يجب أن نكون حالمين، بتفاصيل شقيّة، مبعثرة ومتشابكة، معقدّة وسلسة، مُبهمة وواضحة، مملة وممتعة.

أزهر التفاح في جنة آدم ولمياء، وأصبح الإغراء بترك الجنّة وشيكًا، لكن جنينًا غير متوقّع أفسد هذا الإغراء فبدأت رحلة البحث عن خطة بديلة لترك الجنّة. تجسّد شيطان صغير وليد الواقع المركّب على هيئة فكرة، صال وجال في رأس آدم الذي يحاول إيجاد الطريق للملاذ الدنيويّ؛ والتهرّب من وجه الرب الذي يطالبه بالذرية!

لم أتمكن من مشاهدة فيلم «هواء مقدّس» دون أن تتسابق أفكاري لاستحضار ما تستطيع من قصص العهد الجديد. لم أتمكن من الجلوس على كرسيي الوثير في قاعة العرض دون أن أنسحب من هناك بخيالي وأستنشق هواء المدينة الروحانية قبل أن تلوثها طقطقة الأوراق المالية المُحتكّة ببعضها.

ناصرتي الجميلة، أم البدايات الروحانية تتحوّل وتتبدّل في هذا الفيلم فأرى منها ما لا أحب. تتجول عيناي آدم في المدينة فيرى ونرى معه وجهها الآخر، نرى زقاقاتها المكتظة الخانقة وحاراتها المزدحمة وسكانها الغاضبين.. نرى الجشع وتجارة الدين.. نرى الأفق البعيد أكثر بعدًا وظلمة.. ننام نحن العاديون عندما يصحو الآخرون ويعيثون في المدينة تاركين آثارًا على أرواحنا دون أن ندري.

وسط هذا الصخب تُعلن لمياء عن حملها، يُصر آدم على ضرورة التخلّص من الجنين، فهو ليس مستعدًا بعد ليصبح أبًا، إنه مشغول بكيفية تحقيق ذاته كإنسان درس الاقتصاد ولم يتمكن على مدار سنوات من ترك قوقعة مكتب إدارة الحسابات الذي يشاركهُ فيه صديقه المُسلم -لضمان وجود الزبائن عليك أن ترضي كل الأطياف... ربما كل الطوائف!- فهذا هو مجتمعنا وهذا واقعه.. كم من المُحرج كتابة الجملة البديهية لتوضيح الصورة: وآدم هو المسيحي!

يُبدع المخرج المؤلف في جعلنا نتناول وجبة كبيرة الحجم من الكوميديا السوداء.. نبتلعها فتخنقنا لكننا لا نستغني عن أي تفصيل فيها. أي جزء منها لا نقوى على مضغه؟ رغبة والده المُحتضر في رؤية حفيد ذكر؟ رغبة الطبيبة الإسرائيلية في تخلّص آدم ولمياء من الجنين الذي يشكل ذرّة في القنبلة الديمغرافية التي تكاد تنفجر لتجعل الفلسطينيين أكثرية على هذه الأرض فتفقد إسرائيل بذلك سيادتها العددية؟ أم يصعب مضغ الحقيقة بأن الدين في أيدي الكثيرين -الكثيرين جدًا- هو ورقة الجوكر الرابح في أي رهان؟ ربما كل هذا الواقع هو ما يخنقنا.

لم يترك سرور بابًا إلا وطرقه، ليس فقط للحصول على تمويل الفيلم، بل ليناقش ويطرح وينتقد ما يختبئ خلف هذه الأبواب من اضطهاد اجتماعيّ، دينيّ، ذكوريّ، سياسيّ وسلطويّ.. يغلّف كل ما سبق بقالب كوميدي لا يترك أمام المشاهد إلا الابتسام ثم الضحك ثم التجهّم! رغم زخم المضامين إلا أن تشابكها معًا كان حقيقيًا يُثقل على أنفاس المشاهدين.. من قلب هذه المدينة التي يهب فيها هواء الروحانية المقدس لا يتجسد على أرضها إلا ما هو ماديّ.

أنا سأطرق باب الحب الذي احتال علينا المخرج في كيفية طرحه. أي حب تمارسه بجسدك دون روحك. تتبادل شفتاك القُبل فيما يتبادل عقلك الصفقات مع المستثمر الصينيّ! أي حب تبادله مع زوجتك التي تطرح تساؤلاتها عليك حول العاطفة والجسد والرغبة وهي تحتمي بشاشة التلفزيون! أي حب تبادله مع من تحمل ذريتك، عندما تعترف لها بخيانتك على طاولة العشاء الأخير!

هل تخشى الحب يا آدم؟ هل أنت تقليدي في حبّك كما أنت في ملابسك وتسريحتك؟
ما تبقى لك من بعد هذا كله يا آدم هو الهواء، تجلس في علياء الطبيعة وتمعن النظر في مدينتك الساحرة.. تستنشق بعض الدخان الناتج عن احتراق عشبة مخدرة.. تملأ رئتيك بهذا "الهواء المقدس" فينجلي أمامك كنز طالما بحثت عن السبيل إليه.

هكذا تبدأ رحلة آدم في ملء القوارير الزجاجية بهواء جبال الناصرة المقدس والمتاجرة به.

آن أوان العرض.. تتقافز الصواريخ وتنطلق الصفارات ويبدد إصرار حزب الله على قهر أعدائه احتفالات إطلاق قارورة الهواء الجديدة.

تنتهي مرحلة وتبدأ أخرى.. نعود أدراجنا إلى حيث كنا، يخرج طفل لا يتجاوز عمره السنتين، منثور الشعر الأشقر كشبل صغير، يُخرجه آدم من السيارة ليتبوّل في الشارع.. يتعلّم الطفل الذكر الآن كيف يتخذ موقفًا من الحيز وأملاك العامة؛ بتبوّله يرسم الشبل حدود مملكته الصغيرة وسط غابة السيارات المتزاحمة.
​​​​