شيماء: فصل من رواية "حكايات مدهشة لابن الراوي"

2017-08-08 17:00:00

شيماء: فصل من رواية
Philosopher's lamp . Rene Magritte . 1936; Brussels, Belgium

أتلكع في خلعها، يزداد غضبه، يحملني، ويحطني على الدكة الأمامية ويخلعها هو، ويأمر العيال بأن يكبلوني، يختار منهم الأشرار والعملاقة، ثم يضربني على قدمي 10 ضربات موجعة، لا أتمالك نفسي فأبكي، وأتحاشي النظر إلى أميرتي. حين ينتهي يأمرني بأن ألف الفصل كله فأفعل، ثم يعود ليضربني عشرة ضربات أخري، نار تحرق قدمي، أتقافز ككتكوت على صفيح ساخن، يعاود ضربي مجددًا، أعتقد أن عقابه سيكون أبدي غير أنه يمزق كراستي ويلقي بها في سلة المهملات ويخرج. 

لكل واحد منا أميرة، وشيماء أميرتي... شغوف بها طوال اليوم الدراسي، ليست الأجمل ولكن شعور مبهم خطفني لها. ولا أعرف كيف ألفت نظرها؟ فالأميرات ينجذبن إلى الأوسم، الأطول، الأشطر. وأنا نقيض كل ما فات. 

ويطلب منا الأستاذ عادل أن نحفظ مقطعاً من كتاب القراءة، فغدًا الإملاء. في البيت، بدلاً من أن أنشغل بالحفظ أفكر في طريقة تضمن لي التفوق الأكيد. أفتح الكشكول وأكتب المقطع المطلوب حفظه على جلدة الكشكول من الداخل بقلم رصاص خفيف.. وفي الحصة، أدعي أنني أداري ما أكتبه بجلدة الكشكول عن زميلي، غير أنني في الحقيقة أنقل المقطع قبل حتى أن ينتهي منه الأستاذ عادل، ولمزيد من الحرص، ولمزيد من الدهاء، أتعمد أن أخطأ في ثلاث كلمات، ينشغل الأستاذ بتجميع الكراريس فأمسح المكتوب بالقلم الرصاص وأنا موقن من النتيجة مُسبقًا، وتأتي النتيجة 7/10.. في المرة الثانية أخطأ في كلمتين، في الثالثة أخطأ في كلمة، في الرابعة أحصل على عشرة من عشرة، وأتحول بقدرة قادر من تلميذ خائب إلى طالب مجتهد، وينسب الأستاذ عادل لنفسه فضل كبير ويتباهي بي أمام العيال والمدرسين أيضًا، وأفرح أنا بنجاحي الزائف وأعتز به، وأري الإعجاب في عين أميرتي فأتجرأ في الفسحة وأتحدث معها، فأفوز بالأميرة بغير عناء. وتمر الأيام وتهترئ جلدة الكشكول من أثر الكتابة والمسح، وأبحث عن طريقة بديلة فغدًا حصة إملاء جديدة ووسام آخر على صدري، أكتب المقطع المطلوب حفظه في ورقة وأطويها بعناية وأضعها في جيبي. لم تكن هناك خطة محددة. ويطلب الأستاذ عادل من الطلبة المتفوقين – وأنا واحد منهم- أن ينتقلوا إلى الدكك الأخيرة، ويسحب كرسيه ويجلس في المقدمة لمراقبة التلاميذ الخائبة التي لا بد وأن تكون غشاشة، ويترك لي مساحة من الحرية. أفتح الورقة وأرمي بها بين قدميّ تحت الدكة، أدقق النظر في الحروف والكلمات فلا أميزها. أعاني من نظري الضعيف، ومن اضطرابي المخيف، أحاول أن ألتقط كلمة واحدة فأعجز. وإذ بيد قوية تنزل على قفايا، تصطدم رأسي بحافة الدكة، قبل أن أستوعب ما يدور يلتقطني هو كفأر مقزز ويركلني، ركلة كفيلة بأن تطيح بي. الجميع عينه معلقة عليّ وأنا عيني معلقة عليها وأميرتي مذعورة. يلتقط الورقة من على الأرض، ويرفع بدليل إدانتي.. يصرخ.

ليه؟

مصدوم هو بلا شك. لا أرد. الذهول أقوي من الجميع.

اقلع الجزمة.

مأزق آخر... الشراب مقطوع وبائس مثلي. أتسمر. ينهال عليّ بالعصا كمجنون.

اقلع الجزمة.

أتلكع في خلعها، يزداد غضبه، يحملني، ويحطني على الدكة الأمامية ويخلعها هو، ويأمر العيال بأن يكبلوني، يختار منهم الأشرار والعملاقة، ثم يضربني على قدمي 10 ضربات موجعة، لا أتمالك نفسي فأبكي، وأتحاشي النظر إلى أميرتي. حين ينتهي يأمرني بأن ألف الفصل كله فأفعل، ثم يعود ليضربني عشرة ضربات أخري، نار تحرق قدمي، أتقافز ككتكوت على صفيح ساخن، يعاود ضربي مجددًا، أعتقد أن عقابه سيكون أبدي غير أنه يمزق كراستي ويلقي بها في سلة المهملات ويخرج. 

البعض ينظر لي بشفقة، والبعض ينظر لي بشماتة، وأنا منكس الرأس ومهزوم، ومتعري، ولا أملك غير أمنية واحدة: أن تنشق الأرض وتبتلعني.

وقت المرواح لا أذهب إلى شقتنا، أخرج من المدرسة وأجري على بيت سيتي. حين تفتح خالتي الباب تُصعق وتخبط صدرها.

مالك؟

أرد بصوت ذليل.

مافيش.

تتأمل وجهي، وتتفحصه.

إزاي مافيش؟ انت شكلك مضروب.

أنهار وأصرخ وأقول لها:

أنا عاوز أبقى شاطر.

تحاول أن تجبرني على الهدوء فلا أهدأ. أردد بإصرار.

أنا عاوز أبقى شاطر.

بعد الغداء، تفرش الكتب المدرسية على الأرض وتراجع معي الدروس، أنتبه لها تمامًا.

في حصة الإملاء يُجلسني أستاذ عادل جواره، يترك الفصل كله ويركز معي، أسلمه الكراسة بلا خطأ واحد، يراجعها أكثر من مرة، ويقلب فيها ثم يعطيني الدرجة النهائية دون أي مدح.

يتجنبني العيال، وأتحاشهم أيضًا، وأنظر إلى أميرتي فتبدو كذكري بعيدة وموجعة.

****

في الصف الخامس الإبتدائي تعلن مديرة المدرسة بطابور الصباح عن مسابقة أدبية في مجال القصة القصيرة، والقصة عن أمجاد الجيش المصري في حرب أكتوبر. 

أبو الشبح كان قد شارك في حرب أكتوبر، وفيها فقد عين. 

بليل أشتري ورق فلوسكاب وأكتب قصة عم  أبو الشبح، وأستعين بالراوي – وهو يحب من يستعين به في الرسم فقط- فيرسم على أوراق القصة علم مصر وطائرات ودبابات ملونة ومزينة بالورود.. في صباح اليوم التالي أقدم ورق المسابقة لأمينة المكتبة..

وتمر الأيام، وربما الشهور، وأنسي أمر المسابقة ولا أنسي أميرتي، لا تزال على دكتها، ولا يزال قلبي معلق بها. ويدخل أحد أفراد الشرطة المدرسة ويطلب من عادل الراوي وشيماء سعادة التوجه لمكتب المديرة.

أمشي إلى جوارها متردد وخائف من القادم، تبدو هي أكثر توتر، تسألني.

انت عملت حاجة غلط؟!

أكاد أن أقول لها أنني لا أفعل غير الغلط. غير أنني أهز رأسي بما يعني "لا"، وأعيد لها السؤال:

وأنتي؟

تنظر في عيني.

خايفة.

أتمني أن أحضنها وأقول لها لا تخافي. ولكني أسكت.

وندخل المكتب، في المكتب ينتظرنا موظف وموظفة، ما إن ترانا المديرة حتي تقوم مرحبة بنا.

أهلا بحبايبي الحلويين.

أطمئن، تضيف.

دول ولادي.

ويتساءل الموظف.

أنتم كنتم مشتركين في مسابقة القصة؟

ونُجيب معًا.

آه.

تقول الموظفة.

مبروك.. أنتم كسبتم..

ويحصل كل واحد منا على شهادة تقدير، ومقلمة تحتوي على مسطرة وقلم رصاص وآخر جاف وأستيكية وبرجل واستيكر وبراية. ونعود ونحن سعداء، وتلمح في عيني نظرة إعجاب فتبتسم برضا، وتظل ابتسامتها كذكري قريبة ومبهجة.