المقالة الافتتاحية لملف "قرن على أكتوبر".. لمرور مائة عام على اندلاع الثورة الروسية

مائة عام كحلم... لذكرى ثورة أكتوبر

2017-08-25 16:00:00

مائة عام كحلم... لذكرى ثورة أكتوبر
“Long live the socialist revolution”

إذا كانت الثورة الثقافية وانتصار فيتنام يعطيان الأمل فقد كان الانقسام الكبير الذي جرى بين الاتحاد السوفيتي والصين قد أسّس لتفتت عالمي كبير، وسهّل تسارع أزمة كلا البلدين. وربما كان الأمل الصيني يغطي على هذا الانقسام الخطر، ويهمّش الحركة الشيوعية المرتبطة بموسكو، لكنه كان يفتت الأحزاب ويشوش النظر إلى الاشتراكية، لهذا بتنا إزاء اشتراكيات وباتت الماركسية ماركسيات، فتمزقت الأحزاب وتشتت، وباتت تتصارع فيما بينها.

هذه السنة، وفي أكتوبر، يكون قد مرّ قرن على ثورة أكتوبر الروسية التي حدثت سنة 1917، وأتت بـ "نظام شيوعي" بدا نافراً ومستهجناً في عالم كانت تسيطرة الرأسمالية عليه. لكنه لم يعد قائماً اليوم، فقد انتهى نهاية سنة 1991، وانهارت كل المنظومة التي أسسها. لهذا يظهر الآن كحلم أفقنا منه فلم نجد ما يشير إليه.

بين التاريخين حدثت تحولات هائلة في العالم، وشهدنا حروباً عالمية وإقليمية، وأحلام بالنهوض والتطور أفضت إلى انكسارات. وتحققت تطورات كبيرة في التقنية والعلم عموماً، وفي التواصل والتنقل، ليبدو العالم كـ "قرية صغيرة". وكان وجود معسكرين: رأسمالي واشتراكي، سمة أعطت الشعوب الأمل في التحرر والاستقلال والتطور، حيث كان هذا الانقسام يجعل الصراع ضد الرأسمالية مدعوماً بمعسكر كامل هو المعسكر الاشتراكي.

فقد فتحت ثورة أكتوبر على امتداد الثورات الاشتراكية إلى آسيا التي بات معظمها اشتراكياً بعد نصف قرن من ثورة أكتوبر، وسمحت الحرب العالمية الثانية للاتحاد السوفيتي أن يفرض الاشتراكية على دول أوروبا الشرقية. ووصلت إلى كوبا في أميركا اللاتينية. كما نهضت حركات التحرر الوطني في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية. ليبدو القرن العشرين كقرن انتصار الاشتراكية على جثة الرأسمال. ولينتقل العالم سريعاً إلى الاشتراكية بعد أنْ بالكاد كانت الرأسمالية قد أصبحت نمطاً عالمياً مسيطراً. فقد حدثت ثورة أكتوبر لحظة تشكّل الرأسمالية كنمط عالمي واتّسامها بطابعها الإمبريالي، هذا الطابع الذي فرض نشوب الحرب العالمية الأولى نتيجة التنافس بين الإمبرياليات على الأسواق وتقاسم العالم حسب ما أوضح لينين في كتابه «الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية». ولا شك كان هذا التشكل والحرب التي رافقته عاملاً مهماً في ثورة أكتوبر، وفي انتصارها، حيث أن روسيا التي كانت لا زالت قيصرية، وتضطهد الفلاحين وتستغل البروليتاريا الناشئة، التي أُرهقت في الحرب رغم أنها كانت في صفّ المنتصر، دخلت في أزمة داخلية كانت تهيء للثورة.

بعدها انطلقت الثورة الصينية وانتصرت بعد الحرب العالمية الثانية (1949)، وامتدت الثورة إلى الهند الصينية التي اكتمل انتصارها سنة 1974، وباتت منشوريا اشتراكية، ثم كما أشرتُ نهضت ثورات التحرر الوطني. كل ذلك هو الذي كان يوحي بالانتقال السريع إلى الاشتراكية وبتجاوز الرأسمالية بالتالي قبل أن تتعفن كما كان ماركس يعتقد. حلم كبير عمم النشوة لشعوب الأرض، وأطلق الإرادة التي تريد التغيير بالانتقال إلى الاشتراكية. حتى أن الفئات التي قادت حركات التحرر الوطني، والتي كانت ذو طبيعة غير بروليتارية (برجوازية صغيرة فلاّحية أو مدينية) رفعت شعار الاشتراكية، وباتت تعتقد أن عليها تحقيق الاشتراكية، رغم جموحها للتملُّك. حالة أرعبت الرأسمالية التي تقلّصت سيطرتها وانحسرت عن نصف العالم، فتوحّدت بعد أن كانت تتصارع على الأسواق والسيطرة، حيث لم يعد لديها مجال لغير ذلك، وزادت في نهب الشعوب التي ظلت تابعة لها، لكنها ظلت قوية وخصوصاً بعد أن أعادت بناء ما دمرته الحرب الثانية، وظلت تعتقد أنها ستنتصر من جديد في حربها التي باتت تنحكم لوجود السلاح النووي. فأطلقت الحرب الباردة، ضد الاشتراكية عن طريق الإعلام والتخريب، وضد حركات التحرر عبر الحروب أو تعفين البنى الداخلية، وبالانقلابات كما فعلت في أميركا اللاتينية.

ربما سبعينيات القرن العشرين هي التي كشفت أن الحلم بات باهتاً، وأنه يمكن أن يتحوّل إلى كابوس، رغم الانتصار الكبير على أميركا الذي تحقق في فيتنام، وأزمة أميركا التي فرضت عليها فك ارتباط الدولار بالذهب. كانت انتصارات فيتنام وإطلاق ماو تسي تونغ للثورة الثقافية أواسط ستينات القرن العشرين قد أطلقت موجة ثورية في فرنسا توسعت في أوروبا، وهي التي أُسميت الثورة الطلابية، وظهر أن العالم يسير نحو تأسيس جديد لليسار، أُطلق عليه أصلاً: اليسار الجديد، وبالتالي ظهر أن الحلم وهو ينطفئ كان يعطي وهجاً هائلاً، ويطلق تفاؤلاً جديداً كان يبدو أنه تراجع، أو حتى تلاشى. بالتالي فإذا أتت الثورة الصينية (والفيتنامية) كامتداد لثورة أكتوبر، وكانتصار للحلم الذي أطلقته، فقد أتت الثورة الثقافية والثورة الفيتنامية، التي أطلقت الأمل من جديد، كوميض أخير، كانت هي ذاتها التعبير عنه. فقد أُجهضت الثورة الثقافية بسرعة، بعد أن فشلت في زعزعة "بيروقراطية" الحزب، التي أعادت مَنْ طُرد من "التيار البرجوازي" الذي قامت الثورة الثقافية ضده، بل أن هذا التيار هو الذي قاد الحزب نحو الرأسمالية بعد موت ماو تسي تونغ مباشرة.

حينها كان الاتحاد السوفيتي يعاني مرض الموت كزعيمه، ليونيد بريجنيف، الذي ظل يحكم وهو عاجز عن المشي، وكان اقتصاد الاتحاد السوفيتي قد بات في الحالة ذاتها: عاجز عن المشي. كانت الصناعة تراوح في مكانها، ونمط الحياة "مستقر" بالحد الأدنى، والبيروقراطية تعيش "في أزهى أيامها"، والفساد يستشري بسرعة شديدة. جاءت المحاولة الأولى لنفض الأوساخ التي تراكمت على التجربة بعد موت بريجنيف، حيث حاول أندروبوف نفض الحزب "من الأسفل" لكي يحيي روحاً جديدة، لكنه "قُتل"، تبعه جثة لم تكد تحكم حتى فارقت الحياة: تشيرننكو. ليفتح غورباشوف الغطاء الذي كان يكبت كل أمراض الدولة الاشتراكية، فينهار الاتحاد السوفيتي.

إذا كانت الثورة الثقافية وانتصار فيتنام يعطيان الأمل فقد كان الانقسام الكبير الذي جرى بين الاتحاد السوفيتي والصين قد أسّس لتفتت عالمي كبير، وسهّل تسارع أزمة كلا البلدين. وربما كان الأمل الصيني يغطي على هذا الانقسام الخطر، ويهمّش الحركة الشيوعية المرتبطة بموسكو، لكنه كان يفتت الأحزاب ويشوش النظر إلى الاشتراكية، لهذا بتنا إزاء اشتراكيات وباتت الماركسية ماركسيات، فتمزقت الأحزاب وتشتت، وباتت تتصارع فيما بينها.

الثمانينات من القرن العشرين كانت تضمّ كل هذا الخليط من التناقضات، في الوقت الذي كانت فيه أنظمة "التحرر الوطني" تنهار وتتلاشى عبر التحوّل إلى الليبرالية والالتحاق بالمراكز الإمبريالية. ورغم تراجع الأمل وخفوت الحلم، فقد كان تصاعد أزمة الرأسمالية، الأميركية خصوصاً، منذ بداية سبعينات القرن يبقي بصيصاً من الأمل، وبعضاً من الحلم. لهذا ظل التركيز منصباً على "الأزمة العامة للرأسمالية"، دون التفات إلى أزمة الاشتراكية، رغم أن الصين كانت قد باتت رأسمالية في مسارها، والاتحاد السوفيتي يغرق أكثر في أزماته. ربما هي "البيريسترويكا" التي كانت تعزز الأمل في "انهيار الرأسمالية"، ومقدرة الاشتراكية على "تجديد ذاتها". لهذا كان بدء انهيار الاشتراكية في بلدان أوروبا الشرقية، ثم انهيار الاتحاد السوفيتي، الصدمة التي دفعت إلى "التوبة" لدى كثير من الشيوعيين. لقد سقط الحلم تماماً، وباتت الرأسمالية هي "نهاية التاريخ“.

هذا ما سأتناوله في حلقة أخرى، لكن يمكن القول أنه ظهر مع نهاية القرن أن الحلم قد انتهى، وأن الاشتراكية ظهرت كـ "نتوء" في التاريخ (وأستخدم تعبير سمير أمين الذي وصف به الرأسمالية)، بل باتت كابوساً أظهر الوحشية التي ارتكبت باسمها، كما أخذ الإعلام الرأسمالي يُعمّم قاصداً. إنها هي التي جلبت الشمولية (والتوتيلارية) والقتل والنفي، والاستلاب، وما إلى ذلك، طبعاً دون أن تحقق ما يفيد الشعوب. إذن، حلم الشعوب بات مسخاً كما تصوّره البروباغاندا الإمبريالية، وربما كان في بعض ما تعمم صحة ما، فقد ضخّمته لكي تدمر الحلم ذاته. ولا شك أن تجربة قرن تستحق النقاش والنقد والتقييم، لكن ليس من أجل إظهار أحقية الرأسمالية، بل من أجل اشتراكية أكثر نضجاً، وإنسانية، وديمقراطية، وقدرة على الاستمرار.

فتحت ثورة أكتوبر باباً واسعاً للحلم حين انتصرت، لكنها تآكلت في سياق تحولها إلى حزب حاكم عمل على تغيير الواقع من خلال الاستيلاء على السلطة. لقد غيّ وتغيّر. هذا ما يحتاج إلى بحث.