المقابلة: فخري صالح

2017-09-02 11:00:00

المقابلة: فخري صالح

ما أومن به هو أن هناك نقاداً، لكن ليس هناك نقد. للنقد شروط معرفية وسياسية واجتماعية، وهذه شروط غائبة في حياتنا العربيّة. كيف يكون هناك نقد ونحن نرى كل هذا الخراب، هذه الحروب الأهلية، الطائفية والمذهبية التي تقوض العالم فوق رؤوسنا؟ أين هي المؤسسة الأكاديمية التي نتحدث عنها؟ التعليم منهار، والجامعة تجتر المعارف ولا تنتجها، تنقل ولا تبدع، تخرج طلبة لا يعرفون شيئاً عن الموضوعات التي درسوها. فكيف لنا أن نتحدث عن ”نقد أكاديمي“؟

في هذا الحوار مع الكاتب والمترجم والناقد الفلسطيني فخري صالح،، نتناول أبرز أطروحاته في كتابه الأخير «كراهية الإسلام: كيف يصور الاستشراق الجديد العرب والمسلمين»، الصادر مؤخراً عن "الدار العربيّة للعلوم ناشرون" البيروتية، كما نتطرق وإياه لرؤيته النقدية حول «الاستشراق»، وعلاقته الأدبية والنقدية والفكرية، وحتى الشخصية، مع الراحل إدارود سعيد، وراهن النقد الأدبي الأكاديمي اليوم في الفضاء العربي..

بداية نرجو أن تقدم لنا مقاربة شاملة لأهم روافدك الفكرية والنقدية، ولأبرز ما قدّمته من مفاهيم نظرية في الممارسة النقدية.

أظن أن هذه المهمة تقع على عاتق شخص آخر غيري، لأن من الصعب عليّ الحديث عن نفسي وتقديم مقاربة قادرة على الإلمام بصورة منصفة إلى ما قمت به من عمل ثقافي على مدار حوالي أربعين عاماً. فلست من الأشخاص الذين ينظرون إلى ما كتبوه نظرة إيجابية، وأشعر على الدوام، وهذا شيء حقيقي وليس تواضعاً زائفاً، أنني لم أقدم للثقافة العربيّة إلا القليل القليل. لقد حاولت، رغم مصاعب الحياة ومتطلباتها اليومية وضغوطها الكثيرة، أن أفعل ما أحب، أي القراءة والكتابة، وسعيت إلى الكتابة عن القضايا الثقافية والمعرفية التي تشغلني، انطلاقاً من وضعيتي كإنسان ومثقف، فلسطيني الأصل أولاً، وعربي الانتماء والهوية ثانياً، ويحتبس في نفسه أشواقاً إنسانية تسعى إلى معانقة قيم العدالة والحرية والشراكة الإنسانية العميقة. لربما تكون هذه الروافد هي التي أثرت في عملي، سواءٌ على صعيد الكتابة النقدية، أو المقالات التي كتبتها، أو الأبحاث والقراءات الفكرية التي قدمتها لقضايا عديدة متشابكة، وصولاً إلى اهتمامي بالترجمة والتعريف بثقافات العالم. لهذه الأسباب تجد لديّ اهتمامات تتجاوز النقد الأدبي إلى الفلسفة والفكر، وحتى الفكر السياسي، في الكتابة كما في الترجمة.

أود، في الحقيقة، أن أشدد على مسألة شديدة الأهمية بالنسبة لي، وهي أن ما أترجمه من كتب يقع في الغالب ضمن اهتماماتي وانشغالاتي الثقافية والفكرية والمعرفية، فباستثناءات قليلة جداً، لم أترجم كتاباً لم أحبه، أو أنه لم يثر فيّ أشواقاً معرفية، أو لم يُصب عصباً أساسياً في داخلي ويتلاق مع ما أفكر به أو أسعى إلى التشديد عليه. ولو أن القارئ المهتم عاد إلى مقالات ودراسات كتبتها منذ سنوات، وربما عقود، فسيجد أنني واصلت التعبير عن أفكاري، وما أومن به في النقد والفكر والنظرية، من خلال ترجمة كتب صدرت فيما بعد. إن ما أترجمه، إضافة إلى أنه يغني تجربتي الشخصية، يتقاطع، بصورة من الصور، مع أفكاري وتصوراتي المعرفية والأدبية. ويمكن، انطلاقاً مما قلته، أن تعرف لماذا اهتممت بتجربة إدوارد سعيد الأدبية والنقدية والفكرية، وحتى الشخصية؛ أن تفهم لماذا نشرت عنه كتابين، ومقالات ودراسات كثيرة، بالعربيّة، وكذلك بالإنجليزية، وما زلت أكتب عنه وأواصل قراءته وتأمل ما أنجزه في حقول معرفية ونظرية عديدة. فثمة تشابك بين تجربتينا، كفلسطينيين مقتلعين، منعا من التواصل مع الأرض التي ولدا فيها وعاشا بعضاً من سنوات عمرهما فيها. إن المنفى ثقيل الوطأة عليّ، كما كان على إدوارد سعيد. لقد نظر سعيد في تسعينيات القرن الماضي إلى منزل عائلته في القدس الغربية دون أن يستطيع الولوج إليه، كما توفيت أمي عام 1991 ولم أشارك في جنازتها ولم يسمح لي بإلقاء نظرة أخيرة عليها، وتوفي والدي نهاية عام 2016 ولم أستطع المشاركة في جنازته أو أن أكون إلى جانبه في أيام مرضه الأخيرة. هذه وقائع يومية يعيشها الفلسطينيون ويكابدونها وليست حالات وتجارب فردية، ولهذا فإن الأدب الفلسطيني هو أدب منفى بامتياز، وهو ما يجعل إدوارد سعيد واحداً من أهم المنظرين الذين وضعوا تعريفاً عميقاً لمعنى أدب المنفى. 

صدر لك مؤخراً، كتاب «كراهية الإسلام: كيف يصور الاستشراق الجديد العرب والمسلمين»، وفيه ترى أنّ ”الاستشراق الجديد“ يقطع مع ”الاستشراق القديم“ بتركيزه على بناء تصورات أيديولوجية حول الإسلام والمسلمين، من دون أن يسعى إلى تقديم معرفة نظرية وتطبيقية حقيقية.. هل لك أن تشرح لنا أكثر؟

إذا نظرنا إلى ما قدمه الاستشراق خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، والنصف الأول من القرن العشرين، في دراسة تاريخ الشرق ولغاته وتراثه، فسنجد أن من الصعب تجاوز هذا الميراث الهائل من المعرفة الاستشراقية حول العالمين العربي والإسلامي. وبغض النظر عن نقد الاستشراق الذي مارسه مفكرون مثل أنور عبد الملك وإدوارد سعيد وآخرين غيرهم، فإن الاستشراق الكلاسيكي قام بدور عظيم في دراسة الشعوب الشرقية وميراثها. أما ما سميته ”الاستشراق الجديد“، أو بالأحرى ”الاستشراق الراهن“، ممثلاً في كتب برنارد لويس الدعويّة الأخيرة، وتنظيرات صمويل هنتنغتون، وسياحة الكاتب الترينيدادي الأصل، والبريطاني الجنسية والثقافة، في. إس. نايبول في العالم الإسلامي، فهو يتسم بالسطحية، وتغلب عليه الصور النمطية، والتحليلات المستمدة من مصادر ثانوية. إنه ”استشراق“ ذو أغراض وغايات أيديولوجية فاقعة ومفضوحة. فإذا كان الاستشراق الكلاسيكي واقعاً في شرك العلاقة المعقدة القائمة بين المعرفة والخطاب والسلطة (مدركاً ذلك أو غير واعٍ بهذه العلاقة)، كما يرى إدوارد سعيد، فإنه سعى، في عمل المستشرقين الكبار مثل المجري إغناتس غولدتسيهر أو الألماني كارل بروكلمان، إلى دراسة الميراث الإسلامي العظيم، وقراءة هذا الميراث في تاريخيته. أما النسل الجديد من المستشرقين (ومما يؤسف له أن برنارد لويس واحدٌ من هؤلاء، رغم ميراثه البحثي الضخم حول تاريخ الإسلام) فهو يسعى إلى بيع معرفته وخبرته للسلطة، لوزارة الخارجية الأمريكية، للسي آي إيه، لمراكز صنع القرار في أمريكا والغرب، لتوفير معرفة نظرية (؟) يمكن، من خلال الاستعانة بها، اتخاذ قرارات التدخل وشن الحروب على مناطق ذات أهمية حيوية بالنسبة للولايات المتحدة.

لا شك أن بعض الاستشراق القديم كان في خدمة الإمبراطورية، لكنه لم يكن كذلك في معظمه، أما ما كتبه برنارد لويس وتلامذته، الأقل منه شأناً ومعرفة دون أي شك، منذ ثمانينيات القرن الماضي، فلا قيمة معرفية له، بل هو دعاية تشبه الدعاية الغربية ضد الاتحاد السوفييتي أيام الحرب الباردة. إنها مجرد مواد إعلامية دعوية هدفها اصطناع عدو جديد للغرب وأمريكا لغايات استراتيجية، وكذلك هوياتيّة في مواجهة الآخر، المسلم الذي يعتقد هؤلاء أنه يهدد هوية الغرب المسيحي/العلماني/الديموقراطي. ويمكننا أن نرى الآن هذا الجنون القومي/الهوياتي/المعادي للأجانب (وهم في الغالب: المسلمون)، الذي يجتاح أمريكا وأوروبا، لنفهم إلى أي حد أساء هؤلاء المستشرقون الجدد إلى أمريكا والغرب قبل أن يسيئوا إلى العرب والمسلمين. إننا مقبلون على كارثة بعد أن أصبحت كراهية الإسلام سياسة يعتنقها الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب ومساعدوه في البيت الأبيض. ولا شك أن ذلك ينسحب على أوروبا التي ستعاني كثيراً بسبب السياسة الأمريكية الجديدة التي تتجه بسرعة صاروخية إلى التقوقع حول هويتها البيضاء البروتستانتية الديانة، الإنجليزية الثقافة، وهو ما نظّر له صمويل هنتنغتون في آخر كتبه «من نحن؟» (2004)، وهو الذي نبه من قبل إلى خطر المسلمين، ثم أضاف في كتابه الأخير "المهاجرين من أمريكا اللاتينية"، الذين رأى أنهم يهددون هوية أمريكا في بدايات القرن الحادي والعشرين.

هذه الرؤى النظرية، إذا تمّ اعتناقها، قد تقود إلى حروب أهلية ومواجهات كونية، وربما حروب عالمية. وها نحن نرى دونالد ترامب يوقع مراسيم سياسية بإقامة جدار بين المكسيك والولايات المتحدة ويمنع دخول المسلمين إلى أمريكا لأنهم في نظره إرهابيون. ومع أنني لا أومن أن الأفكار وحدها يمكن أن تقود إلى صناعة السياسات، فثمة عوامل اقتصادية وسياسية وجيو-استراتيجية وثقافية، إلا أن أفكار لويس وهنتنغتون والمحافظين الجدد، إضافة إلى صحفيين وكتاب رأي وباحثين في بيوت الخبرة الأمريكية، قد صنعوا رأياً عاماً في الأوساط اليمينية المتطرفة كانت نتيجته انتخاب رئيس أمريكي شعبوي، جاهل، معادٍ للثقافة، معادٍ للتجربة الديموقراطية الأمريكية، كاره للأجانب، محتقر للنساء، قد يجرُّ العالم إلى كارثة، وربما مواجهة نووية.      

ما الذي قصدته في كتابك بتصاعد «الظاهرة الإسلامية»، بأطيافها المختلفة التي تتدرّج من الإسلام الشعبي البسيط وصولاً إلى طيفها الجهاديّ العنيف، أواخر القرن الماضي وأوائل هذا القرن؟

ما قصدته بسيط وشديد الوضوح من وجهة نظري. لقد بحث الغرب، ممثلاً في أمريكا وأوروبا الغربية، عن تماسكه فوجده، بدءاً من خمسينيات القرن الماضي، في التحريض ضد الاتحاد السوفييتي؛ العالم الغربي الديموقراطي، بقيادة الولايات المتحدة، في مواجهة الاتحاد السوفييتي والدول الشيوعية التي تدور في فلكه. كان ذلك ضرورياً من أجل تعريف الغرب الديموقراطي، لابتناء هوية وكتلة ووحدة داخلية في مواجهة الزحف الشيوعي. لكن الاتحاد السوفييتي انهار عام 1991. زال الخطر الشيوعي الذي يوحد الغرب، فبدأ البحث عن عدو جديد تمثّل الآن في الإسلام الذي يسعى إلى تدمير الغرب وقيمه الديموقراطية العلمانية. ويمكنك أن تجد مصداقاً لهذا الكلام في ما يحدث الآن، وما تقوله الأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا، وقبل ذلك كله فيما يقوله ويفعله ترامب وفريقه في البيت الأبيض.  
 

«استشراق» سعيد ودور المثقف في المجتمع..


ماهي أبرز تعقيباتك على كتاب «الاستشراق» لإدوارد سعيد، بعد مرور نحو 39 عاماً على صدوره؟

لقد كُتبت آلاف الصفحات، وربما عشرات الآلاف، عن «استشراق» إدوارد سعيد، في عدد كبير من لغات العالم. أصبح هذا الكتاب من ضمن الكلاسيكيات ويصعب تجاوزه أو غض النظر عما أحدثه من قطيعة فكرية وأبستمولوجية مع ما سبقه من دراسات تناولت الاستشراق، كما يصعب في الوقت نفسه عدم نقده والحوار معه ومناقشة أفكاره وأطروحاته الأساسية الخاصة بـ «شرقنة» الشرق وابتداع هوية له هي معكوس هوية الغرب، وكذلك تضافر  خطاب الاستشراق مع سياسات القوة والهيمنة والمعرفة، إلخ ما جرى النقاش والحِجاج حوله بعد صدور هذا الكتاب الذي حرر مثقفي المستعمرات من صمتهم، وجعل التابع يتكلم، بتعبير غاياتري سبيفاك.

ليس كتاب «الاستشراق» عملاً مقدساً لا يجوز نقده، بل إن العكس هو الصحيح، لكن من الضروري القول إنه كتاب محوري في حقل النظرية الأدبية. لقد كتبت العديد من الكتب قبله في نقد الاستشراق، لكن بلاغة إدوارد سعيد، وقوة أفكاره، جعلت نقده للاستشراق يفيض عن حقل بحثه، ويمتد من موضوعه المحدد، ليصبح نقداً جذرياً لعلاقات الشرق والغرب، نقداً للإمبراطورية، ودعوة للتحرر من عبئها بالنسبة لأبناء المستعمرات.  

في العام 2000 صدر لك كتاب بعنوان «دفاعاً عن إدوارد سعيد»، ما الذي دفعكم لهذا العمل؟ وهل كان سعيد بحاجة لمن يدافع عنه؟

كتبت هذا الكتاب انطلاقاً من حماستي لا لإدوارد سعيد، في المقام الأول، بل لفلسطين وشعبها المقتلع في بلاد الشتات، وكذلك على أرضه. كان إدوارد تعرض في النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي لحملة ظالمة للتشكيك في هويته الفلسطينية. ادعى محام وباحث إسرائيلي أنه وظف 99 شخصاً للبحث في كل ما يتصل بعائلة إدوارد سعيد وأملاكها وأعمالها في فلسطين ومصر ولبنان، ليقول في نهاية بحثه، الذي نشرته مجلة صهيونية أمريكية تدعى «كومِنتَري»، إن إدوارد سعيد ليس فلسطينياً، وإنه كذب بخصوص سيرته الذاتية. معظم ما كتبه جستوس رايد فاينر، بخصوص سيرة إدوارد، جرى نقضه بسهولة. لكن ما لفت انتباهي هو أن الحملة على إدوارد لم تكن حملة عليه وحده. لقد أراد فاينر القول: "إذا كان مثقف بحجم سعيد يكذب فلا بدّ أن الفلاحين الفلسطينيين يكذبون، بلا شك، بخصوص علاقتهم بفلسطين!" وما فعلته ببساطة أنني ترجمت مقالة فاينر ورددت عليها استناداً إلى أعمال سعيد وكتاباته حول فلسطين وسيرته الشخصية. 
 
إدوارد سعيد

ما الذي يعنيه لك، وربما لنقّاد آخرين، النقد الذي قدّمه إدوارد سعيد يوماً؟

لا شك أن نقد إدوارد سعيد أثّر فيّ بقوة، بدءاً من «الاستشراق»، وحتى كتابه «حول الأسلوب المتأخر» الذي نشر بعد وفاته. ولكنني لا أستطيع أن أحدد لك بدقة كيف انسرب نقد سعيد في عملي. لقد كتبت كتابين عنه، ولا شك أنني سأواصل الكتابة عنه وتحليل كشوفاته النظرية ورؤيته النقدية للعالم، كما أنني أومن مثله بقوة الأفكار وتأثيرها في حياة البشر، ولذلك أسعى إلى تحليلها، كما فعلت في كتابي الأخير «كراهية الإسلام». لكن سعيد ليس الناقد والمنظر الوحيد الذي أثر في عملي. هناك الفيلسوف والمنظر الروسي ميخائيل باختين، والناقد البريطاني تيري إيجلتون، وكذلك الناقد والمنظر البلغاري/الفرنسي تزفيتان تودوروف، إلى جانب كوكبة من النقاد والمنظرين والفلاسفة العرب وغير العرب الذين قرأتهم وأثروا فيّ بصورة واعية أو غير واعية. إننا، كما أومن، حصيلة قراءاتنا التي توجهنا في مسارات ودروب قد لا نكون خططنا لها.  

اسمح لنا أن نتوقف معك عند كتاب «موت الناقد» للمؤلف البريطاني رونان ماكدونالد، الذي قمت بترجمته من الإنجليزية إلى العربيّة، هل ترى أن المخاوف التي طرحها بخصوص غياب دور الناقد، أو "موته المجازي"، فيها شيء من المبالغة؟

بلى، هذا ما قلته في المقدمة التي كتبتها لترجمتي. إنه يدق ناقوس الخطر لينبه إلى انهيار التعليم الأكاديمي وإلى غلبة المعرفة السطحية فيما يكتب في صفحات وسائط التواصل الاجتماعي. ليس ما يقوله ماكدونالد، ومن قبله تيري إيجلتون، من قبيل تأبين النقد وتأثيره، لكنه محاولة لمعرفة الأسباب التي جعلت النقد والنظرية ينسحبان إلى داخل شرنقتهما الأكاديمية، إلى داخل الأسوار. وهو أمر نبهت إليه من قبل في مقدمة كتاب «النقد والمجتمع» الذي نشرت طبعته الأولى عام 1995. 

ما هي قراءتك الخاصة للمشهد النقدي الراهن في العالم العربي؟ وهل توافق بأن هذا المشهد يعاني من ”غياب الناقد الأكاديمي“ المتابع لما يصدر من أدب جديد محلياً وعربياً؟

ما أومن به هو أن هناك نقاداً، لكن ليس هناك نقد. للنقد شروط معرفية وسياسية واجتماعية، وهذه شروط غائبة في حياتنا العربيّة. كيف يكون هناك نقد ونحن نرى كل هذا الخراب، هذه الحروب الأهلية، الطائفية والمذهبية التي تقوض العالم فوق رؤوسنا؟ أين هي المؤسسة الأكاديمية التي نتحدث عنها؟ التعليم منهار، والجامعة تجتر المعارف ولا تنتجها، تنقل ولا تبدع، تخرج طلبة لا يعرفون شيئاً عن الموضوعات التي درسوها. فكيف لنا أن نتحدث عن ”نقد أكاديمي“؟ ثمّ ما هو تعريف ”النقد الأكاديمي“ عندنا؟ هل هو الذي يكتبه مدرسون في الجامعة؟ أم أنه تلك البحوث المكتوبة لنيل الترقية وصعود السلم الأكاديمي؟ أم أنها تلك البحوث المثقلة بالاقتباسات والتي لا تعثر فيها على رأي للباحث أو جملة واحدة تضيف إلى ما يقتبسه؟ علينا أن نسأل أنفسنا هذه الأسئلة قبل أن نتحدث عن النقد الأكاديمي في الفضاء العربي. نحن نحتاج إلى ثورات في التعليم والمعرفة، في السياسة كما في المجتمع، في أوساط السلطة كما في أوساط المعارضة، حتى ننتشل أنفسنا من البئر التي بلا قرار، التي يهوي إليها العالم العربي. 

أخيراً، ماهي مشاريعك النقدية المستقبلية؟

إذا أردت أن أحدثكم عن مشاريعي النقدية فهي كثيرة حيث تتلاطم في رأسي الأفكار بشأنها. لكنني لا أحب أن أتحدث إلا عما أقوم به بالفعل، لا عما أفكر فيه. لدي كتاب يجمع عدداً كبيراً من الدراسات التي كتبتها خلال السنوات الماضية عن الشعر العربي، وعنوانه المبدئي «قلق الحداثة»، وأنا أعيد الآن النظر فيه، وأضيف إليه لكي ينشر في نهاية العام، إن شاء الله. كما أن لدي كتاباً عن «سعد الله ونوس: المسرح والسلطة»، وأتمنى أن أنتهي منه قريباً لينشر هذا العام في مناسبة مرور عشرين عاماً على وفاة المسرحي السوري العظيم الذي استطاع ببراعة إبداعية فائقة تحليل أولويات السلطة وطبيعتها في مسرحياته.