أنضوني يحرر فيلمه باصطياد أشباح غيره

2017-09-27 14:00:00

أنضوني يحرر فيلمه باصطياد أشباح غيره
من الفيلم

ويستمر التجريب الفني والدرامي بين الشخوص والمُخرج والمُتلقي حتى النهاية حين يتحول سجن المسكوبية المصطنع إلى مكان تزوره عائلات هؤلاء الأسرى المحررين، ما يحوّل الزنزانة كألم متحقق إلى لعبة ما أو فُرجة أو كما قال أحد الأسرى في بداية الفيلم خلال رسم الديكورات "تخيلوا يا شباب الزنزانة ورقة وإنت قاعد تمسك الزنزانة وتطويها وتحطها بجيبتك“. كما يعطي مشهد زيارة العائلات للسجن المُشيد المُتلقي إجابات غير محكية عن الأمل وعن تجربة السجن المتكاملة حين تكون حقيقة، وحين تكون وهماً سينمائياً، وحين تكون معاناة وحين تصبح شفاء.

حرص رائد أنضوني في فيلمه «اصطياد الأشباح» على أن يكسر الإيهام عند المُتلقي طوال 94 دقيقة، فبدل أن يوهمه بواقعية أحداث فيلم عن أسرى محررين من سجون الاحتلال الإسرائيلي، تعمّد كسر الفلسفة الفنية للدراما، فهو لم يخدع حواس هذا المتلقي، ليس لأنه قدّم فيلماً قد يصنف بالتسجيلي أو لأنه قدم شخصيات حقيقية من الأسرى المحررين، بل لأنه جعل هؤلاء الأسرى يعملون معه على ثيمة الفيلم، فقاموا ببناء الديكورات، واختاروا شكل زنازينهم، وتحدثوا في معظم الحوارات مع المخرج أو عن الفيلم، وتكررت "بروفات" المكياج والتدريب على التمثيل، ما كسر كل القواعد الاعتيادية التي تتحكم بالعمل السينمائي. 

وهذا الفخ الواعي يجعل المُشاهد يصل إلى أقصى مشاركة بمشاعره مع الضحايا أو شخصيات الفيلم فهو يراها في معاناتها وما بعد هذه المعاناة، أي حين تكون تحت ضوء الدراما وحين تكون تحت ضوء الواقع الحالي، كما أن المُشاهد يتداخل في الأحداث، لأنه يبقى في  حالة تساؤل دائمة، ماذا ينوي المخرج أن يفعل؟، لماذا يحدث ذلك؟، "وين الفيلم؟"، وبهذا التداخل يتحقق جزء مهم من كسر الوهم أو "كسر الإطار" الذي يعتبر مخاطرة فإما أن يخرج فيلماً بديعاً أو يتحطم.

ويمعن أنضوني في التجريب بحرصه على أن تظهر التلقائية في صناعة الفيلم منذ لحظة الإعلان عن حاجته لممثلين لكن بشرط أن يكونوا من الأسرى المحررين من سجن المسكوبية، ومن ثم يقابلهم ويختارهم، في كسر للجدار الرابع الذي كسره بريخت على المسرح، لكنه هنا يُكسر بين العمل السينمائي وبين المتلقي.

 إلا أنه كلما أمعن المخرج في اتّباع هذه التلقائية، أصبح من الواضح أنه مخطط لها، وهنا يبني وهماً درامياً بينه وبين المتلقي بأن الفيلم بدأ منذ اللحظة الأولى لصناعته، لكن الفيلم الذي يظهر مخرجه في جميع مشاهده، بالتأكيد ليس تلقائياً، وبذلك يختلط الوهم بالواقعية الظاهرة بقوة، فيبني أنضوني الوهم أو "الإطار" السينمائي التقليدي ويكسره في آن معاً، ويشارك المتلقي بكل لحظة، وكأنه يقوم بدراسة حية في مختبر مفتوح على الجمهور.

ويحسب لأنضوني التجريب العالي في السرد السينمائي، إلا أن ذلك قد ينزع التصديق لدى المُشاهد عندما يحين موعد الإيهام فعلا، فبعد أن بُنيت الديكورات وانتهى التحضير للسجن ودخل الأسرى زنازينهم، كيف للمشاهد أن يُخدع الآن؟ بيد أنه نجح مرة أخرى لأن شخوصه صاحبة صدمة راجعة، أي أنهم كانوا أسرى وأرواحهم مثقلة بذكريات العزل الفردي، والشَبح، والشتائم والشوق إلى الأهل حتى بعد خروجهم، لذلك لم يكن اصطياد أشباح الماضي صعباً؛ فكانت هناك لحظات بكاء، وألم واختناق، قال أحد هؤلاء الأسرى المحررين في الفيلم: "بلحظات بشعر إنه لازم يخلص الموضوع وأغادر.. مكتئب ومضغوط منه، لأنك بتعيشه“.

ويمكن تَحسس قلق أنضوني من أن تفشل كل هذه التركيبة، خلال إلحاحه بالأسئلة عن مشاعر المشاركين، فقد قال مستفسراً لأحد الأسرى المحررين الموجود بغرفة العزل الفردي "عم تعرق كثير.. إحنا بشهر عشرة، مش كثير شوب". 

بالفعل ركض أنضوني في لحظة ما خلف هذه الأشباح كي يضمن أن يتواجد معهم، ولم يكن بحاجة إلى ذلك، فقد كانت هناك طوال الوقت؛ تعذبها الهلاوس إلى الأمهات، والاشتياق إلى حضن الحبيبة، وتخاف من التحرش الجنسي، والضرب والصراخ. 

وهنا يأتي السؤال الأهم؛ ما مدى أخلاقية ما يفعله أنضوني؟ وهل كان يستغل حزنهم الداخلي وذكرياتهم؟ كأنه برنامج ”ستار أكاديمي“ الذي يضع مجموعة من الشباب في أكاديمية منعزلة ويصور حياتهم يومياً ليكتشف أكثر الموهوبين، لكن هنا يضع مجموعة من الأسرى المحررين، في سجن شيدوه بأنفسهم، ثم يجبرهم على التذكر المؤلم، ماراً على كل غرفة متحدثاً إليهم في سطوة ناعمة لكن متكررة، ما دفع أحد الأسرى المحررين في الفيلم ليقول له "يعني إنت عامل كل هالمشروع، عشان بتجرب تعيش تجربة جديدة على جلدنا مثلاً ”.

ما يجعل هناك خشية أن يصبح هذا الفيلم مكروهاً حين يشاهده هؤلاء الأسرى، فغالباً الأشياء التي نعبّر خلالها بصدق عن معاناتنا، ثم نراها أو نقرأها لاحقاً لا نحبها، كما لا نريد أن يراها من حولنا، بل نرغب بالتخلص منها.

ويجب الاعتراف أن كل ما سبق كان شراً لا بد منه، كي يقدم الفيلم قضية الأسرى في قالب إبداعي، ويسير في منحى مختلف عن الكليشيهات الوطنية الاعتيادية، حتى أن كلمة أسرى أصبح لها دلالات معينة نمطية لا يلتفت إليها أحد، وقد جاء هذا الفيلم ليحقق هذا الالتفات.

كما أن وعي أنضوني لسطوته، وسهولة اتهامه باستغلال هؤلاء الأسرى جعله يجد مخرجاً درامياً ذكياً، بأن تركَهم يعبّرون عن ذلك بصراحة، فقال أحد الأسرى له "بدك كلنا نكون أحجار برقعة الشطرنج تعتك، عندك هوس بالسيطرة..".

بل قام المخرج بالأكثر جرأة؛ بأن جعلهم ينتقمون منه، وبذلك خلق صراعاً بينه وبينهم في إيهام درامي جديد، فضربوه وخطفوه ووضعوه في زنزانة، وبذلك يستولي الأسرى على الفيلم وعلى الجلاد.
 

ويستمر التجريب الفني والدرامي بين الشخوص والمُخرج والمُتلقي حتى النهاية حين يتحول سجن المسكوبية المصطنع إلى مكان تزوره عائلات هؤلاء الأسرى المحررين، ما يحوّل الزنزانة كألم متحقق إلى لعبة ما أو فُرجة أو كما قال أحد الأسرى في بداية الفيلم خلال رسم الديكورات "تخيلوا يا شباب الزنزانة ورقة وإنت قاعد تمسك الزنزانة وتطويها وتحطها بجيبتك“. كما يعطي مشهد زيارة العائلات للسجن المُشيد المُتلقي إجابات غير محكية عن الأمل وعن تجربة السجن المتكاملة حين تكون حقيقة، وحين تكون وهماً سينمائياً، وحين تكون معاناة وحين تصبح شفاء.

وفي هذا الفيلم الكثير من الشفاء لعالم الرجال هذا؛ المحبوس داخل عزلته وألمه، ودموعه، فإن الصراخ والحديث وأن يبني الأسير سجنه بيده، ثم يجلس به بكامل حريته ويتبادل الأدوار بين الأسير والمحقق، بمشاركة آخرين يشبهونه في التجربة، لهو تفريغ نفسي مهم ويتعامل بعمق مع المشاعر وضدها. وهذه الطريقة غير النمطية في العلاج تشبه ما فعله الفيلم التسجيلي «ارتجاف في غزة» للمخرج الهولندي  Geert Van Kesteren الذي وثق جلسات تفريغ نفسي للمعالج Jan Andreae عبر اهتزاز الجسد والصراخ لمجموعة من الرجال من قطاع غزة عقب حرب 2014، وكان على الدوام هناك هذا التردد بين الفخر الذكوري والتعبير عن الألم الإنساني.

وعلى الرغم من أن الكاميرات غير خفية في الفيلمين، إلا أن الشخوص كانت على سجيتها، ما يعني أن قوة التعبير عن التجربة الصادمة أقوى من أي كاميرا مراقبة، ولكن أيضاً من المهم التساؤل عن ردود أفعال هذه الشخوص حين يصبح هذا التعبير عن الألم أفلاماً؟ أو كما قال أحد الأسرى المحررين لأنضوني في الفيلم بعد أن أدى دور المحقق الذي يهدد الأسير بالتحرش: "بس هاي قصة اللوطي، بدها تعملي عليها قصة" في إشارة إلى خطيبته، ثم استدرك: "هي مخها كبير، وبتفهم أكثر مني، وقصة اللواط هاي تمثيل.. سيناريو".

في المشهد الأخير فتح المخرج أنضوني باب الورشة التي بُني فيها السجن، وتحررت شخصية "الأنيميشن" من أسرها، وقد صاحبت هذه الشخصية الكرتونية المبدعة الفيلم بظهورها في بدايته، ونهايته ومرة واحدة وسط الأحداث، وهي للرسام منذر جوابرة والذي أضاف الكثير من الفكاهة والخفة على مجرى الأحداث برسوماته وتمثيله.

إلا أن الواقع أقوى من السينما حتى لو حاولت هذه السينما أن تشبهه بحذافيره وتكسر الايهام الدرامي به، فحين ينتهي الفيلم تلوح عبارة على شاشة سوداء أن الأسير عبدالله مبارك قد تم اعتقاله من جديد، وكان عبدالله شخصية رئيسية في معظم مَشاهد الفيلم قبل أن يختفي فجأة.