فضاءات السرد في رواية «تفصيل ثانوي» لعدنية شبلي

2017-10-01 14:00:00

فضاءات السرد في رواية «تفصيل ثانوي» لعدنية شبلي
عدنية شبلي

قادني فضول للبحث فيها عن تداخل محتمل بين الفني والأدبي في رسم المشهديات ونسج الحبكة والسرد، وكان حاضراً بكثافة خاصة المشهديات البصرية الوصفية والحواس الأخرى. فضول قادني للبحث عن إجابة لتساؤلات مثل علاقة العقل بالعاطفة في الأسلوب السردي وكان الانحياز لسردية واقعية محكمة في بنائها ومنطقها بعيدة عن إثارة العواطف، تجريدية هنا، تعبيرية ورمزيه هناك، وعين كاميرا ترصد اليومي بتفاصيله، أما المضامين والاستنتاجات فتتركها للقارئ ليكمل لعبة السرد وصناعة المعنى.

في كتابه «الثقافه والامبرياليه»، يشير إدوارد سعيد إلى ضرورة قراءة الأعمال الأدبية على مستويين؛ الجمالي من حيث التقنية والأسلوب، والمضاميني من حيث افتراضاتها الضمنية وعلاقتها بالسياسي. ورغم تأكيده هذا، فقد كان الدافع وراء قراءتي لهذه الرواية  (دار الآداب، 2017) يكمن في فضولي لمعايشة الأسلوب الروائي للكاتبة والتعرف إلى الكيفية التي تنسج فيها معالم معماريتها السردية والتقنيات المستخدمة خاصة وإن الكاتبة شغوفه ومتخصصه في مجال الفنون البصرية أكاديمياً.

قادني فضول للبحث فيها عن تداخل محتمل بين الفني والأدبي في رسم المشهديات ونسج الحبكة والسرد، وكان حاضراً بكثافة خاصة المشهديات البصرية الوصفية والحواس الأخرى. فضول قادني للبحث عن إجابة لتساؤلات مثل علاقة العقل بالعاطفة في الأسلوب السردي وكان الانحياز لسردية واقعية محكمة في بنائها ومنطقها بعيدة عن إثارة العواطف، تجريدية هنا، تعبيرية ورمزيه هناك، وعين كاميرا ترصد اليومي بتفاصيله، أما المضامين والاستنتاجات فتتركها للقارئ ليكمل لعبة السرد وصناعة المعنى.

فيها من الغموض والقلق وحالة الترقب ما يبقي الذهن حاضراً، وتفصيل ثانوي تخال صياغته غير متجانسه مع منطق الرواية الزمني فيرافقك كصدع في معمارية السرد لغاية الصفحة الأخيرة، يفاجئك الحدث الأخير بمنطقيته، يحيل الصدع إلى سراب، يجمع خيوط السرد في جزئي الرواية ويغلق الدائرة بتناغم وإحكام. 

رواية تمضي بك في أروقة حقبتين زمنيتين يفصلهما على الأقل نصف قرن وتجمعهما واقعة الجريمة وسياق يعيد إنتاج ذاته فيستدرج الحاضر إلى شباكه ويعيد الكرة. تقنية السرد ذكيه، تنطلق الكاتبة في الجزء الأول من حيثيات تاريخية مادية ملموسه وسردية وصفيه مكثفه على لسان راو خارجي، تضعك في جو النص ومشهديات يومية ترصدها الراوية بشكل متكرر في محاولة لإلقاء الضوء على بعض السلوكيات مثل نظافة الضابط العسكري الشخصية ودلالة معلقة تحيل استنباطها للقارئ. في نهايات الجزء الأول تقع جريمة الاغتصاب، يستفزك صمت الضحية وتغييب صوتها غير المبرر لتكتشف لاحقاً أن البحث عنه هو الدافع المحرك لحبكة الجزء الثاني من الرواية مع تغيير في تقنية وأسلوب السرد، الراوية هنا من داخل النص وداخل الحدث فتأخذ منحى تعبيرياً منطلقة من أسئلة الذات، هواجسها، طريقة نظرها وتقييمها للأمور، كأن مسار الكشف عن حقيقة الذات والواقع ينطلق هنا من ديناميكيات وعي ذاتي تقودها إلى التاريخي وطرح الأسئلة حوله. نهجان سرديان كلٌ يقف على ضفته وخيوط رفيعة يمكن معاينتها تلعب دور الحفاظ على عضوية الجسد الروائي إضافة إلى رمزيتها، عواء الكلب مثلاً.

بناء الشخصية الروائية في الجزء الثاني ملفت للاهتمام. فتاة عادية عشرينية حالتها النفسية مضطربة، نظرتها للأمور غير متوازنه، طريقة تقييمها للأولويات وتقديرها للمخاطر فيها من اللامنطق واللاعقلانية كأنه ضرب من بلاهة أو جنون بات طبيعياً وسط صيرورة واقع مفجع ومرير فرضه الاحتلال بشكل يومي. فتاة عينها قد تحيد عن المشهد المركزي في لوحة بصرية لترى تفصيلا ثانوياً على الهامش وتبحث فيه عن معنى، تقرأ مقالة تغفل فيها عن حادث مفجع وترى تفصيلاً ثانوياً تأبى أن يكون محض صدفة فيكون محرك السرد فيها، يشغلها الغبار المتطاير على مكتبها إثر تفجير عمارة مجاورة ولا يشغلها أمر الشهداء، تواصل الذهاب إلى مكان عملها رغم حالة الحصار والاجتياح وتصويب البندقية نحوها دون تقدير ’عقلاني‘ للمخاطر، كأن اللامنطقي بات هو المنطق واللاعقلاني هو الطبيعي وسط السياق المحيط. تشير الراوية إلى أن الأمر لا يتعلق بحالة إصرار لديها أو رغبة بالتشبث بالحياة في وجه آلة الموت والدمار، والأمر أيضاً ليس حالة من اللامبالاة، إنما هي عدم قدرة على التوازن كمحصلة  لما تختبره من هول في هذه الحياة! الملفت في الأمر، هو أن هذه الحالة من اللامنطق واللاعقلانية يبدو أنها أيضاً وسيلة تكيفت معها الراوية الفتاة وانتهجتها في محاولة للإفلات من قبضة الواقع لتعينها على الحياة. تتفاوت الذوات بالضرورة في نهج تفاعلها مع الواقع لكن بكل الأحوال فإن حالة الاضطراب هذه هي التي منحت السرد واقعيته ومنطقه الخاص الذي قادنا إلى نهاية مستنسخة عن جريمة الزمن الأول في الرواية.   

تبادر إلى ذهني أثناء القراءة سؤال إن كنّا أمام رواية حدث، رواية وعي، رواية مكان، رواية تفاصيل للحياة اليومية… أظنها تغرف منها جميعها وإن بنسب متفاوته مع إبقاء قدمي القارئ على الأرض وذهنه حذراً قلقاً ونشطاً في نسج الخيوط والعلاقات بين المشهديات وصياغة المعنى.


هي تحرص في بنائها السردي ومنطلقاتها على إبقاء قدمي القارئ على الأرض دون قفز أو طيران وإن كان على حساب البعد التأملي والإدراك المعرفي لكينونة الذات والوجود بأبعادها الإنسانية والاجتماعية. المسارات السردية التي تنتهجها الرواية ترتكز على الإدراك الحسي -ثم المادي- للواقع من خلال حيثيات مادية ملموسة وتبقى في فلكها.

أعود هنا إلى القراءة الجمالية والمضامينية التي دعا إليها سعيد وأتساءل فيما يتعلق بالبعد الجمالي، هل فضاء الجمالي يقف حقاً عند حدود الإدراك الحسي والمادي، أم هناك فضاءات أخرى ومنابع أخرى تتجاوزهما يمكن للمرء الإبحار فيها لصياغة المعاني وفهم طبيعة الذوات والواقع وحقيقة هذا الوجود؟ لطالما شغلني هذا التساؤل كما شغلني النهج الثقافي والمسارات التي تتخذها الذوات في تفاعلها مع الواقع والسياق.