مغامرات راسل وفتجنشتين في بلاد البلاشفة

2017-10-09 13:00:00

مغامرات راسل وفتجنشتين في بلاد البلاشفة
Space Force Construction, Lyubov Popova, Original Title: Пространственно-силовая конструкция, 1921, Style: Suprematism, Genre: abstract

هذا الصدق سيجعل خيبتهما من بلاد البلاشفة أعمق بكثير، وأكثر تعقيداً، من خيبات آخرين، زاروا روسيا، وجمّلوا الطغيان كاذبين: كان الرأي العام اليساري، المنحاز لماركس، يفضّل الكذب على النفس وعلى الناس، ويتجاهل الآلام اليومية والقمع الشديد الذي أتت به ثورة أكتوبر، بما أن الثورة ستفضي إلى عالم أفضل في المستقبل؛ بالإضافة إلى ذلك، خشي اليساريون الكاذبون من أن يؤدي انتقاد البلاشفة إلى تجميل صورة العالم الرأسمالي.

زار الفيلسوف الإنكليزي برتراند راسل بلاد البلاشفة في بداية العشرينيات من القرن الفارط؛ وبعد عقد تقريباً، زارها تلميذه النمساوي لودفيج فتجنشتين. كان الأستاذ ضمن وفد يساري كبير رحّب به قادة البلد الجدد بحرارة؛ في حين رتب جون مينارد كينز زيارة التلميذ، التي قيل إنها كانت محاولة للاستقرار في بلد العدل، والتفرّغ للعمل اليدوي، بدلاً من التفلسف الفارغ. 

كان الفيلسوفان شديدي التفاؤل بثورة أكتوبر، تلك التي سترفع الظلم وتُقيم مجتمعاً بلا طبقات: الأستاذ أقرب إلى الفوضوية، وقارئ نهم للأدبيات اليسارية؛ التلميذ، الذي لم يقرأ بجدية الأدبيات اليسارية، صاحب مذهب صوفي يختلط فيه المنطق بتصوّف ماورائي، ويدعو إلى الصمت والانعزال بتدين محافظ زاهد كئيب. 

لم يكن الرجلين ماركسيين، ولكنهما شكّلا طرفين نقيضين ليسار صادق حسّاس غني، سرعان ما ضاق به اليسار الذي مثّلته ثورة أكتوبر.

اختلف الأستاذ وتلميذه -أو تلميذه السابق، للدقة- على كل شيء، تقريباً، بعد فشل مشروعهم الفلسفي المشترك، الذرية المنطيقة: اختلفا على معنى الفلسفة وقيمتها وطريقة ممارستها، على أهمية اللغة العادية واستخداماتها، على أسلوب الكتابة ومحتواها، على التعاليم الأخلاقية والسياسية وكيفية التعبير عنها؛ واتفقا على أمر وحيد: الخيبة الكبرى من بلاد البلاشفة. 

على أن هذا الاتفاق اختلف شكل التعبير عنه تبعاً لشخصيتيهما.

كان راسل ثرثاراً، سريع التأثر، واسع التأثير، يكتب باستمرار وبكثرة، في المنطق والفلسفة والسياسة، ويعبّر عن نفسه بوضوح ناصع: تدين الفلسفة في العالم الناطق بالإنكليزية إلى الرجل بمعظم ملامحها الحديثة، باستثناء انحيازه السياسي الكامل إلى اليسار، ونقده المتواصل الحاد للنظام الرأسمالي وما يصدر عنه؛ هذه الفلسفة، اليوم، تتجاهل السياسة بشكل شبه كامل تقريباً، لتدرس المنطق واللغة والعقل، فيما يبدو للوهلة الأولى كأنه أقرب إلى أسلوب فتجنشتين المحافظ: ولكن فتجنشتين، الذي نشر كتابين فقط في حياته، وتسرّب للناس بينهما كراستان، كان ملتزماً بموقف سياسي، على طريقته الخاصة. 

صمت فتجنشتين بعد عودته من روسيا، ولم يسجّل أياً من انطباعاته الكثيرة المعقّدة، التي وصل إلينا بعضها عن طريق تلامذته: بين الإعجاب بمبادئ المساواة وبصدق الكثير ممن التقى بهم وبإخلاصهم، وبين جزعه من الطبقة الجديدة الحاكمة، وما تمثّله من طغيان متكامل الأركان، صمت الرجل، خوفاً من أن يؤخذ كلامه على أنه انحياز لليمين، وبالطبع، تماشياً مع صوفيته الصامتة الحزينة؛ ولكن إدانته لما رآه لم تكن خفية.

راسل، في المقابل، نشر كتيباً عن البلشفية، فكراً وممارسةً، صدم أصدقاءه اليساريين، والبلاشفة الشيوعيين. فكرياً، الدين الرسمي لدولة البلاشفة، أي الماركسية، بشقيها، المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية، متهافتة: لا يوجد مذهب مادي متماسك، ولا مذهب مثالي متماسك، لأسباب علمية؛ وكلا المذهبين لا صلة له بفلسفة التاريخ المادية، وهو أمر لم يدركه لا ماركس ولا أنجلز؛ كواحد من مؤسسي المنطق الحديث، كان يسخر دوماً من الديالكتيك؛ فلسفة التاريخ القائمة على حركة الاقتصاد مخطئة ومبالغ فيها، كما هو كل مذهب تاريخاني، وإن كان صحيحاً القول بأن الاقتصاد أحد أهم محركات التاريخ.

في روسيا، سُئل فتجنشتين عن إمكانية أن يدرّس المذهب الرسمي الماركسي في الجامعة، ودُهش الروس حين علموا بأنه غير متحمّس لمثل هذا المذهب، وبأنه لا يقيم اعتباراً لهيغل ولفلسفته. 

في الممارسة، رأى الرجلان أن الدولة الجديدة أعادت الطبقات بأسوأ أشكالها: طبقة المتنفّذين الجدد، أي أعضاء الحزب البلشفي، التي شكلها لينين وتروتسكي، ورسّخها سالتين، في مواجهة طبقة عامة الشعب. 

بالرغم من كل ذلك، بقي الرجلان متعاطفين مع مشروع التغيير، ورفضا بشكل كامل الانحياز إلى نقّاد الاتحاد السوفييتي اليمينيين، لتبق صلاتهما شديدة التوتر مع اليسار الماركسي ومع اليمين الليبرالي. 

على الصعيد الشخصي، كانت خلافات راسل وفتجنشيتن مريرة جداً، ربما بسبب تعاونهما السابق الحميم ثم طلاقهما الفكري؛ وربما، أيضاً، لأنهما كانا صادقين على الدوام، وفي كل التفاصيل: الصدق، إن ترافق مع تناقض عميق في فهم الحياة ومعناها، سيؤدي حتماً إلى افتراق لا رجعة عنه. 

هذا الصدق سيجعل خيبتهما من بلاد البلاشفة أعمق بكثير، وأكثر تعقيداً، من خيبات آخرين، زاروا روسيا، وجمّلوا الطغيان كاذبين: كان الرأي العام اليساري، المنحاز لماركس، يفضّل الكذب على النفس وعلى الناس، ويتجاهل الآلام اليومية والقمع الشديد الذي أتت به ثورة أكتوبر، بما أن الثورة ستفضي إلى عالم أفضل في المستقبل؛ بالإضافة إلى ذلك، خشي اليساريون الكاذبون من أن يؤدي انتقاد البلاشفة إلى تجميل صورة العالم الرأسمالي.

هذا الكذب قابله صدق لا قاع له عند راسل وفتجنشيتن؛ صدق تجلّى في الخيبة، وفي الاعتراف بها. وهذا الصدق ذاته، الذي ترافق مع إيمان عميق بالمحبة، بمعناها الأبهى، سيجعلهما يتمسّكان بالأمل وبفكرة تغيير العالم والحلم ببناء عالم أكثر عدلاً؛ هذا الحلم الذي أطلق الثورة البلشفية وحرك ماركس وأنجلز والبلاشفة والفوضويين.

أشك في أن يكون تعالي فتجنشتين وأتباعه عن السياسة، وزهدهم المتصوّف، درباً لهذا التغيير. لا ينتج عن هذا الزهد إلا انتقادات ناعمة لا تطال صلب الظلم الاقتصادي إلا في قشوره، وتسليم رواقي نخبوي بعالم لا يتغير حقاً. في حين أن لفكر راسل العقلاني الرصين الواضح، ميزة التأثير الحقيقي والمباشر، في عالم تزداد فيه حدة الصراعات بفجاجة لا ترحم.

لم تتسع ثورة أكتوبر ليسار مختلف صادق، يحلم هو أيضاً بالتغيير: لم تتسع لأمثال راسل، لفيلسوف عقلاني منطقي فوضوي، يرفض بوضوح ودقة الماركسية؛ ولا لأمثال فتجنشتين، لفيلسوف زاهد لا يعرف بدقة كنه الماركسية، ولكنه يعرف بالقلب ماهية العدل الغائب. لذا، انتهت مغامرات راسل وفتجنشتين في بلاد البلاشفة بخيبة صادقة، وبأمل لم تنجح هذه الخيبة في جرّه إلى التماثل المميت الذي غطّى طوفانه على كل الآمال. 

يبقى لنا اليوم أن نتفكّر فيما جمع المتناقضات في مواجهة التماثل الميت: الصدق الجارح؛ وأن نتفكّر في كيفية تفادي المزيد من الخيبات، عن طريق الاحتفاء بالاختلاف، من العقلانية الفوضوية الصارمة إلى الزهد شبه الديني الميتافيزيقي، وما بينهما من آمال لا مهرب منها.