الاشتراكية كطريق "رأسمالي"

2017-10-14 10:00:00

الاشتراكية كطريق
The Bolshevik, Boris Kustodiev, 1920

هنا ربما يمكننا القول بأن ثورة أكتوبر هي استمرار للثورة الفرنسية، لكن في شكل جديد. حيث يبدو أن تحقيق الاشتراكية الحقة يفترض انتقال المجتمعات عموماً إلى مرحلة تكون فيها الصناعة هي أساس نمط الإنتاج، ويكون الوعي المجتمعي قد تجاوز موروث القرون الوسطى. طبعاً هنا بغض النظر عن الشعارات والإرادات والأوهام. فلا شك في أن مسار التاريخ يفترض وجود الأحلام والأوهام كذلك.

الآن، هل تحققت ثورة أكتوبر الاشتراكية في روسيا (وفي البلدان الأخرى)؟

لا شك في أن التباساً كان يحكم النظر بعد أن طرح لينين تصوره حول دور البروليتاريا في ثورة ديمقراطية برجوازية الطابع. فكل الحزب بشقوقه (ربما فيما عدا تروتسكي الذي راوح بين الأقصيين) كان يعترف بأن الثورة في روسيا هي ثورة ديمقراطية برجوازية. لكن ظهر الاختلاف في من يقود الثورة، فهل تقودها البرجوازية لأن الأمر يتعلق بـ "ثورتها"؟ أم أن البرجوازية عاجزة ومترددة وجبانة، ويمكن أن تخون ثورتها؟

بالنسبة للمناشفة كان الأمر سهلاً، حيث أن انتصار البرجوازية سيفتح الطريق نحو الاشتراكية، ومن ثم يمكن "تطبيق" كل ما قاله ماركس عن الاشتراكية: دكتاتورية البروليتاريا، ومن كل حسب قدرته ولكل حسب عمله. وتكون روسيا قد باتت دولة صناعية، فيها طبقة عاملة تمثّل أغلبية المجتمع. منظور سهل، مصاغ مسبقاً، وكما أشرت بات يمثّل الشكل "الكلاسيكي" للوصول إلى الاشتراكية. أما تصوّر لينين فكان أكثر تعقيداً، ربما لأن ليس من نصوص لماركس حوله (رغم أن ماركس أشار إلى حالة مشابهة فيما يتعلق بألمانيا)، لكن لأن لينين "ينحرف" عن "الشكل الكلاسيكي"، فيضع على عاتق البروليتاريا تحقيق المهمات الديمقراطية قبل الولوج إلى الاشتراكية. هذه العلاقة بين المهمتين ظلت غامضة، ومربكة، وتفتح إلى إما عودة إلى الشكل الكلاسيكي أو التطرف يساراً نحو تحقيق الاشتراكية. وكان انتقال لينين إلى رفع شعار ”دكتاتورية البروليتاريا“ في موضوعات نيسان مع تأكيده على أن الأمر لا يتعلق بـ "تطبيق" الاشتراكية، يزيد من الارتباك، رغم أنه بعد ثورة أكتوبر أصبح يحدّد المهمات بدقة، ويؤكد أن على سلطة السوفيت أن تحقق المهمات الديمقراطية، مثل التصنيع، تحديث الوعي، والبنى، كهربة الريف، التعاونيات، وتطوير التعليم. طبعاً بعد حل المسألة الزراعية عبر تأميم الأرض، وإصدار فرمان حقوق العمال، والمرأة وحق تقرير المصير للأمم.

ربما كان من الطبيعي أن تكون تحولات التاريخ الكبرى ليست واضحة بكل أبعادها، حيث  يمكن للفكر أن يتقدّم خطوة أو خطوتين لكنه لا يستطيع فهم كل ممكنات الواقع وتحولاته. ولينين فهم أن الواقع يحتاج إلى التغيير، وأن المعني بالتغيير ليس في وارد تحقيقه، والقصد هنا هو البرجوازية، وأنه بالتالي يمكن الاعتماد على الطبقة الجديدة: البروليتاريا، والفكر الذي يساعد على فهم علمي للواقع، لتحويل نقصها العددي إلى تميّز نوعي يجعلها طبقة قادرة على قيادة الثورة، محملة بكل مطالب الشعب، ومعنية بتحقيقها. أما بعد ذلك فإن صيرورة الواقع سوف تسمح بوعي الضرورة. وربما كان منظور لينين هذا يؤكد فكرة سمير أمين عن أن الانتقال إلى نمط اقتصادي اجتماعي أرقى يتحقق في الأطراف وليس في المركز، وهو ما ظهر جلياً في كل التاريخ العالمي. وما توضّح من خلال تراجع إمكانية الثورة الاشتراكية في البلدان الأكثر تطوراً من حيث الصناعة والبنى والوعي، والتي تحوي التناقض الرئيسي بين البرجوازية والبروليتاريا. في المقابل، حدوث الثورة في الأطراف، وحيث لا زالت إمكانية ذلك قائمة على هذه الشاكلة فيها، إلى الآن على الأقل.

إن واقع الأطراف، وروسيا كانت في ذيل السلسلة الرأسمالية، يطرح التساؤل حول طريق تطورها، وعن دور الطبقات في تحقيق هذا التطور. وبعد قرن من ثورة أكتوبر نلمس بأن خيارها كان محدّداً، حيث إما أن تسير نحو تجاوز الرأسمالية من خلال حزب يمثّل العمال والفلاحين الفقراء، وبالتالي تحقيق التطور الصناعي والمجتمعي بشكل ما ولمرحلة معينة، أو البقاء أطرافاً تُنهب من قبل الطغم الإمبريالية. لهذا حقّقت تجارب قادتْها أحزاب شيوعية نقلات نوعية في مجتمعاتها، وفشلت كل المحاولات التي قامت بها فئات وسطى كانت تطمح لأن تبقى في حدود الرأسمالية.

لكن الاشتراكية انهارت. هذا ما فتح على التشكيك في ثورة أكتوبر كما أشرت. وهنا يمكن أن نعود إلى الخلاف حول الثورة ودور الطبقات فيها، الذي تناولته قبلاً. فهل كان تصوّر لينين خاطئاً؟ وهل يمكن أن ينتصر التصوّر الخطأ في المسار التاريخي؟ هذا سؤال نظري، لكن يمكن القول أن ما ينتصر ما يجب أن يكون حتمياً، وليس من الممكن أن ينتصر ما لا تتوفر الظروف الواقعية لانتصاره. فالتاريخ لا يُحرف، بل ينتصر فيه ما يحمل الواقع إمكانات انتصاره. وبالتالي انتصرت ثورة أكتوبر، بالضبط، لأن الواقع الروسي يحمل إمكانات انتصارها، بالتالي كانت حتمية. أما تصوّر المناشفة والأممية الثانية فقد فشل في كل العالم، وحتى بعد أن أعاد ستالين إنتاجه وتعميمه على الحركة الشيوعية العالمية. لهذا فليس أمام الأطراف إلا خيار وحيد هو ذاك الذي بدأه لينين، مع ملاحظة كل التشوش الذي حكمه حينها.

هل فشل؟ يعتمد تحديد الإجابة على المنظور الذي ننطلق منه، والمبادئ التي نخضع لها. فهل أن التاريخ يسير في استقامة، دون تعرجات أو تراجع، أو انهيار؟ لم يتوضّح بتاتاً أن التاريخ يتطور بشكل مضطرد دون انهيارات، على العكس فقد ظهر أن كل حضارة تصل إلى "قمة" ومن ثم تنهار، لتظهر أخرى، وهكذا. وكما أشار "البيان الشيوعي" فإن صراع الطبقات يقود إما إلى "انقلاب ثوري يشمل المجتمع بأسره، وإما بانهيار الطبقتين المتناضلتين معاً" (البيان الشيوعي ص41). والانهيار لا يعني أن المجتمع لم يحقق تقدماً وفشل فقط لأنه انهار، بل يعني أن الصراع لم يُحسم لمصلحة طبقة ثورية. من هذا الأساس يمكن النظر إلى ما حققته التجربة لمعرفة مدى صحة ثورة أكتوبر.

أولاً يجب أن نلاحظ بأن روسيا كانت بلداً ينحكم لنمط إقطاعي، ولتخلف قروسطي فظيع، ولسلطة استبدادية مفرطة في استبداديتها. بمعنى أنها كانت بعيدة عن كل التطور الصناعي والثقافي والعلمي والمؤسسي الذي شهدته الأمم الرأسمالية. طبعاً كان ذلك هو حجة المناشفة والأممية الثانية ممثلة بأبرز قادتها، كاوتسكي. لكن طريق التطور الرأسمالي كان مسدوداً وإلا لما فرض نشوء أفكار كتلك التي طرحها لينين. وهذا ما ظهر واضحاً في كل بلدان الأطراف التي لم تستطع تحقيق التطور الرأسمالي بل ظلت تابعة. لهذا تصبح المسألة المطروحة هي ماذا حققت سلطة "البروليتاريا" (أو الحزب الشيوعي) لروسيا، في ظل طابعها القروسطي؟ الأمر الذي يخرجنا من تهويم نظري يقارن ما تحقق بتصورات حول الاشتراكية طُرحت لأجل بلدان رأسمالية متطورة. ويطرح علينا مسألة ما حققه الحزب الشيوعي، الذي قام على أساس أنه ممثل البروليتاريا، في تكوين روسيا الاقتصادي الاجتماعي والعلمي والثقافي؟ هل حقق نقلة نوعية في بنية الاقتصاد والمجتمع؟ بالتأكيد سيكون الجواب نعم، بالضبط لأن روسيا باتت بلداً صناعياً حداثياً. دون أن ندخل هنا في السؤال عن نمط الانتاج، وعن الاشتراكية. فلهذا مستوى آخر من النقاش. وبغض النظر عن الطابع الشمولي للسلطة (التي جرى اعتبار أنها دكتاتورية البروليتاريا)، والهيمنة على المجتمع، وكبت الحريات، والتي هي مهمة، ويجب نقدها، فقد جرى تحويل الاقتصاد تحويلاً ثورياً، حيث جرى تجاوز الزراعة القروسطية، والتخلف المريع الذي حكم الريف، وضعف الصناعة والطبقة العاملة، والأمية التي كانت منتشرة، وسيطرة الدين (الكنيسة الأورثوذكسية)، من خلال بناء الصناعة التي باتت قوة الإنتاج الأساسية، وتطوير التعليم والعلم بحيث باتت روسيا تتقدم في عدد العلماء والتطور العلمي، وانتهى دور الكنيسة (من خلال إلغاء قسري للدين)، وتطور الوعي المجتمعي. وكانت هذه خطوة أولى كان يجب أن تُلحق بخطوة أخرى تتعلق بطبيعة الدولة، حيث أن التطور المجتمعي أوصل إلى نشوء الفرد/ المواطن، لكن هذا الفرد/ المواطن كان مستلباً، ويعيش حالة اغتراب إزاء الدولة. لهذا، منذ الخمسينات، طرحت مسألة الديمقراطية من داخل الإطارات الماركسية، حيث باتت ضرورة، لكن بيروقراطية الدولة سحقتها (مرحلة بريجنيف).

لم يكن تطور الرأسمالية مختلفاً، حيث تطور الاقتصاد، ومن ثم الوعي عبر التعليم، وصولاً إلى العلمنة والديمقراطية بعد قرن ونصف من نشوء الصناعة وتشكّل الرأسمالية. لكن عند هذه النقطة انهارت الاشتراكية بدل أن يجري التحوّل الديمقراطي. لهذا أسباب يمكن تناولها تالياً، لكن ما وددت قوله هو أن ثورة أكتوبر فتحت على تطور كبير في تكوين المجتمع الروسي، هو ذاته الذي حققته الرأسمالية، ومنعت تحقيقه بعد أن فرضت عالميتها. ولا شك في أن تطوير الاقتصاد يفرض بالضرورة تطوّر الوعي والمؤسسات، لكن الأمر ليس ميكانيكياً، لهذا حين فشل النظام الاشتراكي في حلّ مشكلة السلطة، التي طوّرت المجتمع بشكل استبدادي شمولي، كان عليه أن يرحل، ورحل.

أهمية هذا الأمر تتمثل في أن انسداد أفق التطور الصناعي من قبل البرجوازية كان يفرض طريقاً آخر لمجتمعات باتت الدول الصناعية "صورة مستقبلها هي" كما أشار ماركس في مقدمة "رأس المال". هذا الطريق كان الشكل الأرقى من الرأسمالية، أي الاشتراكية. وتقوم به الطبقة المضادة للبرجوازية، أي الطبقة العاملة، لأن تحقيق كل هذا التطور القائم على بناء الصناعة يفترض حتماً تجاوز الرأسمالية. لكن ذلك أفضى إلى وضع مأزوم نتيجة أن "الحزب الثوري" الذي استولى على السلطة، ووضع أسس تطور المجتمع تشرّب تخلف المجتمع ذاته، وبهذا بات المجتمع متقدماً والحزب/ النظام متخلفاً، وكان يجب أن يرحل. هذه مسألة أخرى تتعلق بلماذا انهارت الاشتراكية، لكن المهم هنا هو أن الحزب الذي استولى على السلطة في أكتوبر سنة 1917، وبغض النظر عن التعرجات التي حكمت التطور، وطابع النظام الاستبدادي الشمولي (ولهذا نقد آخر)، فقد نقل روسيا إلى مصاف الدول الصناعية، أي حققت ما حققته البرجوازية الأوروبية، بطريق مختلف؟ نعم، لكنه حقق ما باتت تحرّمه الرأسمالية.

في هذا تكمن قيمة ثورة أكتوبر أكثر من أي شيء آخر. وربما من هذا المسار يمكن فهم الالتباس الذي حكم تصوّر لينين فيما يتعلق بالعلاقة بين تحقيق المهمات الديمقراطية والاشتراكية. لكن يمكن القول بأن الواقع لم يكن يحتمل أكثر مما تحقق، فبغض النظر عن أحلام الثوريين، وأوهامهم، لا يتحقق في الواقع إلا ما هو ممكن. والممكن في روسيا كان نقل النمط الاقتصادي من طابعه الإقطاعي المتخلف إلى نمط صناعي حديث، وبالتالي نقل الوعي المجتمعي من الوعي التقليدي إلى وعي حداثي، بات يفرض التصادم مع النظام الاستبدادي الشمولي. ولهذا كانت مسألة الديمقراطية في جوهر رفض النظام القائم، رغم أنها اختلطت بالليبرالية بمعناها الاقتصادي، وفرضت إعادة الرأسمالية.

هنا ربما يمكننا القول بأن ثورة أكتوبر هي استمرار للثورة الفرنسية، لكن في شكل جديد. حيث يبدو أن تحقيق الاشتراكية الحقة يفترض انتقال المجتمعات عموماً إلى مرحلة تكون فيها الصناعة هي أساس نمط الإنتاج، ويكون الوعي المجتمعي قد تجاوز موروث القرون الوسطى. طبعاً هنا بغض النظر عن الشعارات والإرادات والأوهام. فلا شك في أن مسار التاريخ يفترض وجود الأحلام والأوهام كذلك.

ليس غريباً ما توصلت إليه عما حدس به لينين، حيث كان يحلم بانتشار "الحضارة الأوروبية" في عموم روسيا، وأن الأولوية التي ركّز عليها بعد ثورة أكتوبر، حيث ظهرت له مشكلات المجتمع الروسي بشكل أوضح، هي "تحقيق المهمات الديمقراطية"، أي التصنيع والحداثة. لقد باتت روسيا صناعية وحداثية، بغض النظر عن نمط الإنتاج السائد الآن.