زياد دويري
- رمزية: ترتبط بتبني "اليسار البديل" فائضاً لغوياً رمزياً عنيفاً لحسم النقاشات في قضايا خلافية. أقصد بذلك اتهام كل من لا يتفق في الرأي معهم بمجموعة من التهم ذات الدلالات الرمزية العنيفة، بما لا يتواءم مع ما يفعله، كاتهام الآخر بأنه خائن أو عميل أو متعاون، بهدف نزع الشرعية عمن توجه له التهمة. لقد تحولت لغة التخوين والتطبيع عطفا على التهم في قضايا خلافية إلى أداة أساسية لحسم النقاشات، وذلك بدلاً من الخوض فيها بعقلانية.
كنت وما زلت ضد عرض فيلم «قضية رقم 23» لزياد دويري في فلسطين والعالم العربي، وأعتقد أن اختيار عرضه من قبل "فيلم لاب" من البداية هو خطأ كبير. لكن يخطئ من يظن أن العاصفة التي فجرها عرض فيلم «قضية رقم 23» في مهرجان أيام سينمائية الذي تقوم عليه مؤسسة "فيلم لاب"، نتج عن نقاش عيني بين جماعتين مختلفتين حول معنى ومفهوم التطبيع فيما يتعلق بالفيلم ومخرجه زياد دويري فقط، لكن العاصفة كانت آتية لا بد.
تشهد الساحة الداخلية الفلسطينية منذ فترة ليست قصيرة حالة غليان داخلي واستقطاب شديد، تتخللها مشاحنات بمستويات متفاوتة على قضايا متشعبة، مرتبطة بمفاهيم الحرية والمقاومة وبمعنى التطبيع أولاً، وبمن يحدد المرجعيات والمعايير ثانياً. وتأتي هذه الحالة في ظل تقاطع مجموعة من العوامل، تتضمن صراعات قوة بين تيارات وطنية واجتماعية للتحكم بالحقل الثقافي، يوازيه صعود تيار "يسار بديل" على شاكلة "اليمين البديل" يسعى إلى فرض معاييره وخطابه ولغته على الساحة الفلسطينية، وهو ما على حركة مناهضة التطبيع أن تتنبه إليه، كي تستطيع أن تتجاوز حالة الاستقطاب التي أسهمت في إنتاجها بسبب موقفها المتناقض من الفيلم، ووقوع بعض النشطاء المحسوبين عليها في فخ تخوين واتهام فيلم لاب والقائمين عليه والممثل كامل الباشا بالتطبيع.
لقد عكست بيانات الحملة المناهضة للتطبيع أزمة الحقل الثقافي الفلسطيني، وتخبطه وصراعاته الداخلية، فحملت الموقف وضده في نفس الوقت، وأسهمت في تعميق الاستقطاب المجتمعي على عكس ما أرادت على الأغلب. فقد هنأت الحملة كامل الباشا "لفوزه بجائزة أفضل ممثل في مهرجان البندقية السينمائي"، واعتبرت "أن فيلم المخرج زياد دويري الجديد، «قضية رقم 23»، غير خاضع للمقاطعة وفقًا للمعايير الحالية لحركة المقاطعة (BDS)“ لكن الحملة أشارت إلى أن ”عرض فيلم دويري من قبل المهرجانات العربية، بما فيها الفلسطينية، وبغض النظر عن النوايا، لا يمكن إلا أن يشجعه على الاستمرار في نهجه التطبيعي المدمرّ“.
وبدل أن يوضح البيان موقف الحملة من عرض الفيلم زاد الطين بلة، إذ هنأ الفنان الذي شارك في التمثيل مع المخرج "المطبع" أولاً، واعتبر أن الفيلم ليس تطبيعياً ثانياً، ومن ثم دعا في ذات البيان لمقاطعة المخرج!
كيف تستوي الأمور بين تهنئة الباشا والمطالبة بمقاطعة دويري والقول إن الفيلم لا يخضع لمعايير المقاطعة، وبين الدعوة إلى حوار مجتمعي حول معايير المقاطعة ثم المطالبة بالمقاطعة؟!
وبعد عدة أيام من تفاقم الاستقطاب حول عرض الفيلم وانطلاق حملة واسعة لإلغائه، جاء بيان ثان لحركة المقاطعة لوقف عرض الفيلم، لحين التوصل لصياغة معيار جديد للمقاطعة ومناهضة التطبيع يعالج مثل هكذا قضية، بالتشاور مع المجتمع، بما فيه الفعاليات الثقافية. في هذه الفترة تصاعدت حملة #لن_يعرض ورافقها استخدام لغة التخوين على صفحات التواصل الاجتماعي، اتسمت بالتهديد بالعنف واستخدام لغة التخوين واتهام القائمين على المهرجان بالتطبيع، وإنشاء صفحات فيسبوك للمثقف الخائن مع صور الباشا نفسه، وهو ما دفع بلدية رام الله على ما يبدو إلى إلغاء العرض، في قرار اتفق مع البيان الثاني نفسه لحملة المقاطعة، الذي أعلن عن خمس نقاط توضيحية حول مبادئ الحركة وموقفها من عرض الفيلم، وجاء فيه أنها طالبت بوقف العرض بسبب "صدور بعض التهديدات المقلقة وتبادل الاتهامات بالخيانة والتطبيع والتخريب وغيره".
وبدل أن تسهم توضيحات حركة المقاطعة بتهدئة الأجواء، التي كانت مشحونة أصلاً، أسهمت تناقضات مواقف الحملة وبياناتها في تعميق حالة الاستقطاب الداخلي الفلسطيني والغليان التي تعصف بها من مدة، بسبب تقاطع مجموعة من العوامل التي تتعدى كثيراً قضية فيلم دويري وتهدد بتحول حركة المقاطعة لحركة منفرة وطاردة لأوساط ثقافية مهمة، بدل أن تكون حاضنة لهم، وذلك على الرغم من إنجازاتها الدولية في مواجهة إسرائيل.
ترتبط هذه العوامل بأربعة محاور متداخلة، الأول بنيوي متعلق بتفكك اليسار التقليدي وصعود ما أسميه "اليسار- البديل“ (Alt-left مقابل اليمين البديل في أميركا Alt-right)، والثاني رمزي يرتبط بتبني فائض لغة عنيفة، قائم على تصنيفات الخير والشر المطلق لحسم النقاشات الفلسطينية الداخلية، والثالث منهجي متعلق بالتعامل الصنمي مع نظريات ما بعد الاستعمار، ورابعة عملية مرتبطة بغياب مقاومة الاحتلال على الأرض وتحول النقاش الداخلي عن المقاومة بديلاً للمقاومة نفسها.
- بنيوية: أفول اليسار التقليدي وصعود اليسار البديل: مع أفول قوة الحركات الفلسطينية اليسارية كالجبهة الشعبية والديموقراطية وحزب الشعب، تحول جزء من نشطائها خاصة ممن نشطوا في الانتفاضة الأولى نحو العمل في مؤسسات المجتمع المدني الثقافية والاجتماعية. في مقابل أفول الأحزاب التقليدية صعد تدريجياً "يسار بديل" هو توليفة من نشطاء شباب يعتبرون أنفسهم ممثلي اليسار الفلسطيني الحقيقي، وأعضاء سابقين في أحزاب قومية وبعثية وتيارات معارضة ومثقفين ونشطاء مستقلين وعلمانيين، يغلب عليهم تبني خطاب "الممانعة والمقاومة" ويعتبرون أنفسهم رأس الحربة في مقاومة التطبيع وطليعة النضال من أجل فلسطين.
- رمزية: ترتبط بتبني "اليسار البديل" فائضاً لغوياً رمزياً عنيفاً لحسم النقاشات في قضايا خلافية. أقصد بذلك اتهام كل من لا يتفق في الرأي معهم بمجموعة من التهم ذات الدلالات الرمزية العنيفة، بما لا يتواءم مع ما يفعله، كاتهام الآخر بأنه خائن أو عميل أو متعاون، بهدف نزع الشرعية عمن توجه له التهمة. لقد تحولت لغة التخوين والتطبيع عطفا على التهم في قضايا خلافية إلى أداة أساسية لحسم النقاشات، وذلك بدلاً من الخوض فيها بعقلانية.
يمكن أن نشير بإيجاز هنا إلى أن "اليسار البديل" كان وراء الحملة التي طالت محمد بكري في زيارته للبنان، وما رافقها من اتهامه بالتطبيع، وما سبقها من محاولات طرد محمد بركة وسكرتير الحزب الشيوعي يوم تأبين الراحل تيسير عاروري، أعقبها بعدة أسابيع نشر بيان استنكار على هامش زيارة أيمن عودة لجامعة جنين ومحاولة طرده، وعلى الرغم من أن مسألة المشاركة في الكنيست قضية قابلة للنقاش، إلا إن القول إن من يجلس في الكنيست من فلسطينيي الداخل هو خائن أو مطبع أمر لا يقبله منطق.
نضيف إلى ذلك تخريب معرض مؤسسة هنرش بول في بيرزيت، "50 عاماً على الاحتلال"، قبل حوالي شهر ونصف، لأنها لم تتحدث عن "70" عاماً من الاستعمار، واستخدمت صوراً من صحف تبنت لغة غير "وطنية"! وكذلك إيقاف محاضرة يوسف الصديق في جامعة جنين بدعوى الإلحاد.
استخدام التخوين لوصم الباشا والتطبيع لمنظمي أيام سينمائية وحملة التشهير التي طالتهم تتموضع ضمن هذا السياق المشحون مسبقاً، ومرتبطة بقضايا تشق الشارع الفلسطيني أصلاً كالموقف من الأزمة السورية، وحزب الله، أو ما أسماه البيان ضد الاستهداف الإسرائيلي "المقاومة اللبنانية"، أي الاسم الحركي للحزب!
- منهجية: لا يخفى أن من يتبنى ثنائيات التخوين/ المقاومة من "اليسار البديل، يعتمد على "منظّرين "روحانيين" يضعهم في مرتبة "المرجعية العليا"، يشرعن من خلالها كل أدوات العمل التي يتبناها. وتشكل في هذا السياق نظريات ما بعد الاستعمار "مرجعية عليا" غير قابلة للنقاش، تصل إلى درجة التصنيم، مع كثير من سوء التأويل والفهم. وتلعب في هذا السياق كتابات فرانز فانون مرجعية روحانية عليا في خطاب العديد من الفاعلين، يتم عبرها إضفاء صبغة فكرية على تبني خطاب التخوين والتطبيع بوصفه خطاباً راديكالياً موجهاً ضد مثقفين تابعين ومستفيدين بسبب مواقعهم، بحسب فانون، ممن يقعون ضحايا الإعجاب والخوف بالمستعمر ومنه، ناهيك عن تبنيه ثنائيات المستعمِر والمستعمَر وتحويل العنف إلى "جوهر" تحرري لا يمكن تجاوزه.
إن ما يحدث فعلياً هو أن فانون المجتزأ والمستخدم بشكل انتقائي، يتحول في ظل هيمنة خطاب التخوين إلى "ابن تيمية" اليسار، يرجع إليه اليساري البديل ليقترض منه مقولات خاصة بسياق تاريخي محدد ليسقطها على سياق آخر في زمن مركب ومعقد، في تجاهل مقصود للدور الريادي المقاوم للمثقفين الذي يتهمهم بالتواطؤ مرة والتطبيع مرة أخرى، في قيادة الانتفاضة الأولى على سبيل المثال لا الحصر.
- عملية غياب فعل المقاومة للاحتلال: يتوازى تصاعد لغة التخوين الداخلية وهيمنة فائض اللغة العنيفة في المحاسبة الداخلية، بانعدام وجود مقاومة حقيقية للاحتلال في لحظة مصيرية من توغل المشروع الاستعماري الذي يهدد كل الوجود الفلسطيني. الحواجز التي تقطع أوصال البلد وتتواجد على كل مفرق (400 حاجز وفاصل على الأقل) لا تشهد أي مواجهات وتتحكم بالحياة اليومية للسكان، وتنعدم المقاومة في المناطق التي تشهد تهجيراً فعلياً ولا تبعد أحياناً سوى بضعة كيلومترات عن مراكز المدن التي تشتعل بنقاشات عن التطبيع، كما ينعدم أي فعل شعبي مقاوم ضد البناء الاستيطاني الذي يحول ذات المدن الفلسطينية إلى بؤر، مقابل تحول بؤر الاستيطان والمستوطنات إلى غول يحاصرها.
أنتج التقاطع بين العوامل أعلاه واقعاً داخلياً وهمياً لمقاومة نشطة فاعلة غير قائمة أصلاً. لقد علا صوت النقاشات الداخلية حول التطبيع كثيراً وارتفعت لغة التخوين وتضخمت مفرداته، وتحول التلويح بالعنف لوسيلة حسم النقاشات في قضايا خلافية، حتى ظننا أن المقاومة مشتعلة، لكن كل هذا الصراخ المحزن يرتطم بجدار المستوطنات ويرتد علينا ككرة نار، ليس لأن الخلافات مرفوضة بل لأن الجدل الداخلي يتحول في بؤرنا المسورة بحواجز وجدران ومستوطنات من عامل بناء، إلى عامل تذرير ومن رافعة للتطوير إلى معول لتعميق الهاوية التي نقف على حافتها، ليظل الاحتلال وحده من يقوم بالفعل الحقيقي الوحيد على الأرض: ممارسة الاستعمار على الأرض وبلع ما بقي من الوجود الفلسطيني المحشور في بؤر تتهشم!
تشهد الساحة الداخلية الفلسطينية منذ فترة ليست قصيرة حالة غليان داخلي واستقطاب شديد، تتخللها مشاحنات بمستويات متفاوتة على قضايا متشعبة، مرتبطة بمفاهيم الحرية والمقاومة وبمعنى التطبيع أولاً، وبمن يحدد المرجعيات والمعايير ثانياً. وتأتي هذه الحالة في ظل تقاطع مجموعة من العوامل، تتضمن صراعات قوة بين تيارات وطنية واجتماعية للتحكم بالحقل الثقافي، يوازيه صعود تيار "يسار بديل" على شاكلة "اليمين البديل" يسعى إلى فرض معاييره وخطابه ولغته على الساحة الفلسطينية، وهو ما على حركة مناهضة التطبيع أن تتنبه إليه، كي تستطيع أن تتجاوز حالة الاستقطاب التي أسهمت في إنتاجها بسبب موقفها المتناقض من الفيلم، ووقوع بعض النشطاء المحسوبين عليها في فخ تخوين واتهام فيلم لاب والقائمين عليه والممثل كامل الباشا بالتطبيع.
لقد عكست بيانات الحملة المناهضة للتطبيع أزمة الحقل الثقافي الفلسطيني، وتخبطه وصراعاته الداخلية، فحملت الموقف وضده في نفس الوقت، وأسهمت في تعميق الاستقطاب المجتمعي على عكس ما أرادت على الأغلب. فقد هنأت الحملة كامل الباشا "لفوزه بجائزة أفضل ممثل في مهرجان البندقية السينمائي"، واعتبرت "أن فيلم المخرج زياد دويري الجديد، «قضية رقم 23»، غير خاضع للمقاطعة وفقًا للمعايير الحالية لحركة المقاطعة (BDS)“ لكن الحملة أشارت إلى أن ”عرض فيلم دويري من قبل المهرجانات العربية، بما فيها الفلسطينية، وبغض النظر عن النوايا، لا يمكن إلا أن يشجعه على الاستمرار في نهجه التطبيعي المدمرّ“.
وبدل أن يوضح البيان موقف الحملة من عرض الفيلم زاد الطين بلة، إذ هنأ الفنان الذي شارك في التمثيل مع المخرج "المطبع" أولاً، واعتبر أن الفيلم ليس تطبيعياً ثانياً، ومن ثم دعا في ذات البيان لمقاطعة المخرج!
كيف تستوي الأمور بين تهنئة الباشا والمطالبة بمقاطعة دويري والقول إن الفيلم لا يخضع لمعايير المقاطعة، وبين الدعوة إلى حوار مجتمعي حول معايير المقاطعة ثم المطالبة بالمقاطعة؟!
وبعد عدة أيام من تفاقم الاستقطاب حول عرض الفيلم وانطلاق حملة واسعة لإلغائه، جاء بيان ثان لحركة المقاطعة لوقف عرض الفيلم، لحين التوصل لصياغة معيار جديد للمقاطعة ومناهضة التطبيع يعالج مثل هكذا قضية، بالتشاور مع المجتمع، بما فيه الفعاليات الثقافية. في هذه الفترة تصاعدت حملة #لن_يعرض ورافقها استخدام لغة التخوين على صفحات التواصل الاجتماعي، اتسمت بالتهديد بالعنف واستخدام لغة التخوين واتهام القائمين على المهرجان بالتطبيع، وإنشاء صفحات فيسبوك للمثقف الخائن مع صور الباشا نفسه، وهو ما دفع بلدية رام الله على ما يبدو إلى إلغاء العرض، في قرار اتفق مع البيان الثاني نفسه لحملة المقاطعة، الذي أعلن عن خمس نقاط توضيحية حول مبادئ الحركة وموقفها من عرض الفيلم، وجاء فيه أنها طالبت بوقف العرض بسبب "صدور بعض التهديدات المقلقة وتبادل الاتهامات بالخيانة والتطبيع والتخريب وغيره".
وبدل أن تسهم توضيحات حركة المقاطعة بتهدئة الأجواء، التي كانت مشحونة أصلاً، أسهمت تناقضات مواقف الحملة وبياناتها في تعميق حالة الاستقطاب الداخلي الفلسطيني والغليان التي تعصف بها من مدة، بسبب تقاطع مجموعة من العوامل التي تتعدى كثيراً قضية فيلم دويري وتهدد بتحول حركة المقاطعة لحركة منفرة وطاردة لأوساط ثقافية مهمة، بدل أن تكون حاضنة لهم، وذلك على الرغم من إنجازاتها الدولية في مواجهة إسرائيل.
ترتبط هذه العوامل بأربعة محاور متداخلة، الأول بنيوي متعلق بتفكك اليسار التقليدي وصعود ما أسميه "اليسار- البديل“ (Alt-left مقابل اليمين البديل في أميركا Alt-right)، والثاني رمزي يرتبط بتبني فائض لغة عنيفة، قائم على تصنيفات الخير والشر المطلق لحسم النقاشات الفلسطينية الداخلية، والثالث منهجي متعلق بالتعامل الصنمي مع نظريات ما بعد الاستعمار، ورابعة عملية مرتبطة بغياب مقاومة الاحتلال على الأرض وتحول النقاش الداخلي عن المقاومة بديلاً للمقاومة نفسها.
- بنيوية: أفول اليسار التقليدي وصعود اليسار البديل: مع أفول قوة الحركات الفلسطينية اليسارية كالجبهة الشعبية والديموقراطية وحزب الشعب، تحول جزء من نشطائها خاصة ممن نشطوا في الانتفاضة الأولى نحو العمل في مؤسسات المجتمع المدني الثقافية والاجتماعية. في مقابل أفول الأحزاب التقليدية صعد تدريجياً "يسار بديل" هو توليفة من نشطاء شباب يعتبرون أنفسهم ممثلي اليسار الفلسطيني الحقيقي، وأعضاء سابقين في أحزاب قومية وبعثية وتيارات معارضة ومثقفين ونشطاء مستقلين وعلمانيين، يغلب عليهم تبني خطاب "الممانعة والمقاومة" ويعتبرون أنفسهم رأس الحربة في مقاومة التطبيع وطليعة النضال من أجل فلسطين.
- رمزية: ترتبط بتبني "اليسار البديل" فائضاً لغوياً رمزياً عنيفاً لحسم النقاشات في قضايا خلافية. أقصد بذلك اتهام كل من لا يتفق في الرأي معهم بمجموعة من التهم ذات الدلالات الرمزية العنيفة، بما لا يتواءم مع ما يفعله، كاتهام الآخر بأنه خائن أو عميل أو متعاون، بهدف نزع الشرعية عمن توجه له التهمة. لقد تحولت لغة التخوين والتطبيع عطفا على التهم في قضايا خلافية إلى أداة أساسية لحسم النقاشات، وذلك بدلاً من الخوض فيها بعقلانية.
يمكن أن نشير بإيجاز هنا إلى أن "اليسار البديل" كان وراء الحملة التي طالت محمد بكري في زيارته للبنان، وما رافقها من اتهامه بالتطبيع، وما سبقها من محاولات طرد محمد بركة وسكرتير الحزب الشيوعي يوم تأبين الراحل تيسير عاروري، أعقبها بعدة أسابيع نشر بيان استنكار على هامش زيارة أيمن عودة لجامعة جنين ومحاولة طرده، وعلى الرغم من أن مسألة المشاركة في الكنيست قضية قابلة للنقاش، إلا إن القول إن من يجلس في الكنيست من فلسطينيي الداخل هو خائن أو مطبع أمر لا يقبله منطق.
نضيف إلى ذلك تخريب معرض مؤسسة هنرش بول في بيرزيت، "50 عاماً على الاحتلال"، قبل حوالي شهر ونصف، لأنها لم تتحدث عن "70" عاماً من الاستعمار، واستخدمت صوراً من صحف تبنت لغة غير "وطنية"! وكذلك إيقاف محاضرة يوسف الصديق في جامعة جنين بدعوى الإلحاد.
استخدام التخوين لوصم الباشا والتطبيع لمنظمي أيام سينمائية وحملة التشهير التي طالتهم تتموضع ضمن هذا السياق المشحون مسبقاً، ومرتبطة بقضايا تشق الشارع الفلسطيني أصلاً كالموقف من الأزمة السورية، وحزب الله، أو ما أسماه البيان ضد الاستهداف الإسرائيلي "المقاومة اللبنانية"، أي الاسم الحركي للحزب!
- منهجية: لا يخفى أن من يتبنى ثنائيات التخوين/ المقاومة من "اليسار البديل، يعتمد على "منظّرين "روحانيين" يضعهم في مرتبة "المرجعية العليا"، يشرعن من خلالها كل أدوات العمل التي يتبناها. وتشكل في هذا السياق نظريات ما بعد الاستعمار "مرجعية عليا" غير قابلة للنقاش، تصل إلى درجة التصنيم، مع كثير من سوء التأويل والفهم. وتلعب في هذا السياق كتابات فرانز فانون مرجعية روحانية عليا في خطاب العديد من الفاعلين، يتم عبرها إضفاء صبغة فكرية على تبني خطاب التخوين والتطبيع بوصفه خطاباً راديكالياً موجهاً ضد مثقفين تابعين ومستفيدين بسبب مواقعهم، بحسب فانون، ممن يقعون ضحايا الإعجاب والخوف بالمستعمر ومنه، ناهيك عن تبنيه ثنائيات المستعمِر والمستعمَر وتحويل العنف إلى "جوهر" تحرري لا يمكن تجاوزه.
إن ما يحدث فعلياً هو أن فانون المجتزأ والمستخدم بشكل انتقائي، يتحول في ظل هيمنة خطاب التخوين إلى "ابن تيمية" اليسار، يرجع إليه اليساري البديل ليقترض منه مقولات خاصة بسياق تاريخي محدد ليسقطها على سياق آخر في زمن مركب ومعقد، في تجاهل مقصود للدور الريادي المقاوم للمثقفين الذي يتهمهم بالتواطؤ مرة والتطبيع مرة أخرى، في قيادة الانتفاضة الأولى على سبيل المثال لا الحصر.
- عملية غياب فعل المقاومة للاحتلال: يتوازى تصاعد لغة التخوين الداخلية وهيمنة فائض اللغة العنيفة في المحاسبة الداخلية، بانعدام وجود مقاومة حقيقية للاحتلال في لحظة مصيرية من توغل المشروع الاستعماري الذي يهدد كل الوجود الفلسطيني. الحواجز التي تقطع أوصال البلد وتتواجد على كل مفرق (400 حاجز وفاصل على الأقل) لا تشهد أي مواجهات وتتحكم بالحياة اليومية للسكان، وتنعدم المقاومة في المناطق التي تشهد تهجيراً فعلياً ولا تبعد أحياناً سوى بضعة كيلومترات عن مراكز المدن التي تشتعل بنقاشات عن التطبيع، كما ينعدم أي فعل شعبي مقاوم ضد البناء الاستيطاني الذي يحول ذات المدن الفلسطينية إلى بؤر، مقابل تحول بؤر الاستيطان والمستوطنات إلى غول يحاصرها.
أنتج التقاطع بين العوامل أعلاه واقعاً داخلياً وهمياً لمقاومة نشطة فاعلة غير قائمة أصلاً. لقد علا صوت النقاشات الداخلية حول التطبيع كثيراً وارتفعت لغة التخوين وتضخمت مفرداته، وتحول التلويح بالعنف لوسيلة حسم النقاشات في قضايا خلافية، حتى ظننا أن المقاومة مشتعلة، لكن كل هذا الصراخ المحزن يرتطم بجدار المستوطنات ويرتد علينا ككرة نار، ليس لأن الخلافات مرفوضة بل لأن الجدل الداخلي يتحول في بؤرنا المسورة بحواجز وجدران ومستوطنات من عامل بناء، إلى عامل تذرير ومن رافعة للتطوير إلى معول لتعميق الهاوية التي نقف على حافتها، ليظل الاحتلال وحده من يقوم بالفعل الحقيقي الوحيد على الأرض: ممارسة الاستعمار على الأرض وبلع ما بقي من الوجود الفلسطيني المحشور في بؤر تتهشم!