المقابلة: جلبير الأشقر

2017-11-07 14:00:00

المقابلة: جلبير الأشقر
photo credits: yrille choupas

بالنظر إلى كل هذه الأمور، فإن الحصيلة التاريخية للتجربة الروسية سلبية، ولا شك في أن ضعف اليسار الماركسي اليوم، بعد قرن وثلاثة أرباع قرن من بداية تبلور الفكر الماركسي، سببه الأعظم هو الإخفاق المأساوي لتلك التجربة التي سادت على اليسار في القرن العشرين وشوّهت تشويهاً كاملاً النظرية الماركسية محوّلة إياها إلى دين دولة. لذلك أقول إنه لا بد من العودة إلى ماركس والقيام بجردة حساب نقدية صارمة لكل تجربة القرن العشرين. لا بد من العودة إلى فكر ماركس وإنجلس كفكر أساسي. إن راهنية هذا الفكر فاقعة اليوم لأن عصر العولمة النيوليبرالية الذي نحن فيه أعادنا إلى رأسمالية تشبه ما شهده زمن ماركس أكثر مما تشبه المرحلة الإصلاحية التي سادت بعد الحرب العالمية الثانية، عندما كانت موازين القوى أفضل بكثير للحركة العمالية. أقول ذلك لأن بعض الناس قد يقول لك إن الماركسية قد مرّ عليها ما يناهز القرنين وباتت بالية (والمفارقة أن هؤلاء أنفسهم غالباً ما لا يترددون في التأكيد على راهنية فكر ابن خلدون بالرغم من أنه أقدم من ماركس بأكثر من أربعة قرون!).

اليوم تحديداً تكمل الثورة الروسية عامها المئة، منذ اجتاح البلاشفة قصر الشتاء في بطرسبرغ، وعلى مدى قرن تأثر العالم بهذه الثورة سلباً وإيجاباً كما لم يتأثر بغيرها، وتحديداً في منطقتها العربية… التقيتُ جلبير الأشقر مؤخراً وأجريت معه هذه المقابلة التي تُعيد العديد من الأفكار والمواقف إلى نصابها الصحيح، إنطلاقاً من الماركسية ونقداً لتجربة الاتحاد السوفييتي ولعموم اليسار العربي.

اليوم، بعد سبع سنوات على اندلاع الثورات العربية، هناك فكرة يعبّر عنها الكثير من اليساريين، بغض النظر عن موقفهم، تقول إن ما حصل لم يكن ثورات وذلك بسبب غياب قيادة ثورية تعتمد نظرية ثورية. إلى أي درجة تعتبر هذا الكلام صحيحاً؟

لا أعتقد أن المشكلة هي في غياب ”نظرية ثورية“ معيّنة. في القرن العشرين رأينا العديد من التجارب التي اعتمدت على ”النظرية الثورية“ (بأل التعريف، أي نظرية واحدة وحيدة) وكانت نتيجتها كارثية. والحال أن اليسار التاريخي والحركة العمالية لم ينشآ بالارتباط بنظرية ثورية وحيدة. عبارة ”لا حركة ثورية بدون نظرية ثورية“ وردت في كتاب «ما العمل؟» للينين وقد استعارها من بليخانوف (معظم الناس يجهلون ذلك اليوم، أما في عصر لينين فكان اليساريون الروس يدركون من هو صاحب تلك العبارة الأصلي). وهذه العبارة تتحوّل إلى مقولة دغمائية جامدة إذا تم فهمها كدفاع عن أحادية نظرية (ساهم ستالين في تحويلها إلى آية دينية في كتابه «مبادئ اللينينية»)، إذ أن الحركة الثورية لا يمكن أن تكون مقتصرة على أناس ينتمون إلى نظرية ثورية بعينها، وإلا لما حصلت أي ثورة. وليست هناك ثورة جماهيرية في التاريخ انتمى كل الذين شاركوا في صنعها إلى نظرية ثورية واحدة.

لكن هل الثورة ممكنة بدون طليعة… بدون حزب ثوري؟

يشير تاريخ الثورات نفسه إلى أن الثورة فعل تعددي إذا كان المقصود بالثورة تغييراً تحققه الانتفاضة الجماهيرية، وليس حرب التحرير أو الحرب الثورية التي يخوضها جيشٌ تسوده مركزية عسكرية. فليس من انتفاضة شعبية في التاريخ اقتصرت على وجهة نظر واحدة، ناهيك عن نظرية واحدة. كما يمكن تماماً للحركة الثورية المنظّمة الواحدة أن تقوم على تلاقي تيارات تستند إلى نظريات ثورية مختلفة، كتلاقي الأناركية والماركسية مع سواهما في إطار الأممية الأولى التي كان لماركس وإنجلس الدور الرئيسي في تأسيسها. أما التصوّر الأحادي لثورة يقودها حزب واحد معتمداً على نظرية ثورية وحيدة، فهي مدخل إلى التسلط الأحادي على السلطة الذي يؤدي إلى الدكتاتورية والانحطاط البيروقراطي، كما حصل في التجربة الروسية. ومن المُفرح أن نرى اليوم حالات يسارية تعددية تبرز في شتى أنحاء العالم، تجمع تيارات ومشارب وآراء مختلفة.

إن الحركة الثورية الجماهيرية هي بالضرورة نتاج انصباب تيارات ثورية تقدمية شتى في تيار واحد جارف. والتعددية الديمقراطية لا بد منها للحركة الثورية مثلما لا بدّ من الأوكسجين للإنسان، حيث أن القضاء عليها يؤدي إلى كوارث، سواء تمّ القضاء عليها قبل الثورة أو بعدها، أي في الدولة الناجمة عن الثورة. 

لكن ماذا تقصد بالتيارات الثورية التقدمية، في السياق العربي؟

أقصد جملة من التيارات السياسية من ماركسيين وناصريين (ناصريين ديمقراطيين وليس من يحنّون إلى الدكتاتورية العسكرية المخابراتية) وليبراليين تقدميين، بل ومؤمنين تقدميين ممن يعتبرون أن إيمانهم جزء من توجههم السياسي لكن بفهم تقدمي للدين، بما في ذلك الإقرار بالعلمانية. قد تجد مثل هؤلاء في مصر، على سبيل المثال، في أوساط الشباب المنتمين إلى حزب مصر القوية. حتى أن مصر شهدت في تجربتها الثورية في عام 2011 انفصال جزء من شباب الإخوان عن الجماعة وتجذّرهم السياسي بمنحى تقدمي، بدون أن يعني ذلك بالضرورة تخليهم عن منحهم بعداً دينياً لجزء من تفكيرهم السياسي.

فالتوجه التقدمي في نظري وفي ظروف منطقتنا هو نهج سياسي وطني مضاد للإمبريالية والصهيونية لكنه أيضاً ديمقراطي واجتماعي بامتياز، يلتقي مع التوق إلى ”العدالة الاجتماعية“ الذي ميّز ما سُمّي بالربيع العربي، وتجلّى في شعار الانتفاضة المصرية ”عيش (أي خبز)، حرية، عدالة اجتماعية“. في كتابي الأول عن الانتفاضة «الشعب يريد»، ذكرتُ أن هناك أيديولوجيا غير مؤطّرة، بل عمومية، يعتنقها قسم كبير من الشبان والشابات الذين بادروا إلى الانتفاضة وتحتوي على جملة من القيم اليسارية. 

والعلمانية بالمناسبة هي إحدى هذه القيم. فإن قيادات التيارات الدينية كالإخوان المسلمين لم تكن لها المبادرة في الانتفاضة، ولا تعبّر عن طموحات الذين واللواتي كان لهم الفضل في ذلك. كانت تطلعات تلك الشبيبة مختلفة، فهي ليست دينية ولم تنادِ بتطبيق الشريعة. والكثير من أفرادها، إن لم يكن أكثرهم، علمانيون في الواقع من حيث موافقتهم على مبدأ فصل الدين عن الدولة، لكنهم ظنّوا أن فكرة ”الدولة المدنية“ هي التي تعبّر عن ذلك بينما العلمانية تعني الإلحاد، وقد روّجت التيارات الدينية لهذا التضليل. 

لقد تظاهر الإخوان بالتكيّف مع طموح الشبيبة باستخدامهم تعبير ”الدولة المدنية“ (وهو يعني في الواقع دولة لا يحكمها العسكر ولا المؤسسة الدينية) مضيفين إليه ”ذات مرجعية إسلامية“ بما يجعله تمويهاً لصيغة ”الدولة الإسلامية“ التي هي في صلب عقيدتهم. هذا ويتحمّل معظم اليسار العربي نفسه المسؤولية الكبرى في انتشار هذا الإبهام حيث رضخ لابتزاز التيارات الدينية وتخاذل عن الدفاع عن العلمانية، وأخذ يتكلم هو أيضاً عن ”الدولة المدنية“ متجنباً تعبير ”العلمانية“ الذي لم يتردّد في استعماله حتى سياسيّ محافظ ذي توجه ديني كرجب طيب أردوغان. لا يكفي أن يكون اليسار مع مدنية الدولة، بل لا بدّ من أن يقف أيضاً بكل وضوح ضد كافة أشكال إقحام الدين في الشؤون الدستورية والقانونية وشؤون السلطة السياسية وضد إكراه الناس على التقيّد بالدين في أحوالهم المدنية.

وثمة مجال واسع لالتقاء تيارات شتى من الإسلامي التقدمي حتى الماركسي وبعد الماركسي، بشرط الالتقاء على مجموعة أهداف وقيم. والقيم تسبق في رأيي أية نظرية أو أيديولوجية. على سبيل المثال، كماركسي قد أجد نفسي أقرب في بعض الأمور إلى بعض غير الماركسيين مما إلى بعض أدعياء الماركسية. مثلاً، لا يمكنني أن أقرّ بأن إنسان ما هو ”ماركسي“ أو حتى ”يساري“ وهو يمجّد نظام آل الأسد. 

ذكرت ذلك في مقالة لك مؤخراً، تقول فيها إن ”بعض الجماعات التي تدّعي اليسار تصوّر نظام الأسد وكأنّه حصن للمعاداة اليسارية للإمبريالية“. ما الذي يجعلك تقول بأن مثل هؤلاء ”يدّعون“ اليسار؟ لمَ لا يكونون يساريين وفي الوقت ذاته مع الأسد؟

يتناقض تأييد النظام السوري بصورة صارخة مع أبسط القيم اليسارية. فما هي قيم اليسار تاريخياً؟ مفهوم ”اليسار“ في السياسة بدأ في فرنسا مع الثورة الفرنسية، التي جمعها شعار ”حرية، مساواة، أخوة“. والمناداة بالحرية كانت قاسماً مشتركاً بين تيارات الثورة الفرنسية، بما أنها كانت ثورة على المَلَكيّة المطلقة وضد الاستبداد. وكانت المساواة قيمة مركزية أخرى في الثورة الفرنسية نادى بها اليسار بوجه خاص وببُعديها السياسي والاجتماعي. وما يحدد اليسار مذّاك فهو الجمع بين القيمتين كلبنتين أساسيتين. أما التركيز على قيمة واحدة دون الأخرى فيؤدي إلى إفسادها: الحرية بدون مساواة تفسد بالضرورة وتتحوّل إلى حرية وهمية، والمساواة بلا حرية تعيد إنتاج نظام الظلم بالضرورة. والتمسك بالقيمتين بالتساوي هو ما يحدّد اليسار المنسجم مع مبادئه. 

أما نظام آل الأسد فمنافٍ تماماً للقيمتين معاً، الحرية والمساواة، كما يدرك كل من هو على علم بحقيقة الوضع في سورية قبل الانتفاضة، ناهيك عما حصل بعدها. لذلك فإن الذين يمدحون النظام السوري ويصدرون البيانات تمجيداً به ودعماً له، إنما يتنافون مع أبسط القيم اليسارية مهما ادّعوا. أما الذين يقرّون بأن نظام آل الأسد دكتاتورية شنيعة، لكنهم يدعمونه بوصفه ”أهون الشرّين“ بحجة تصدّيه للقوى ”الجهادية“ المستندة إلى ”مؤامرة خليجية إمبريالية“، فيمكن النقاش معهم من منطلق يساري. والحجج هنا عديدة، منها دور النظام السوري المعروف في تحفيز القوى ”الجهادية“ في بداية الانتفاضة، واستناده إلى قوى أصولية إسلامية تحركها إيران، كما واستناده إلى روسيا التي لا يقل انتماؤها إلى ”الإمبريالية“ عن انتماء الدول الغربية، ناهيك عن تاريخ نظام آل الأسد في ضرب الحركة الوطنية والمقاومة الفلسطينية في لبنان واشتراكه في الحرب على العراق سنة 1991 تحت قيادة واشنطن وإرسائه لنظام الابتزاز والتهريب والإرهاب في لبنان حتى انسحاب قواته منه في عام 2005، إلخ.

هل ما زال صالحاً الحديث عن تصوّر خاطئ لما يحصل في سوريا بعد كل ما حصل؟ هل يمكن أن نبرر موقف يساري مؤيد للنظام؟

هذا الفهم موجود في الحقيقة خارج الساحة السورية لدى الجماعات التي تعطي الأولوية المطلقة في عدائها لبعض القوى الرجعية، لا سيما الولايات المتحدة الأميركية والنظام الخليجي. وبما أن الطرفين يبدوان وكأنهما ضد النظام السوري، فهناك من يتصوّر أن هذا الأخير نظام ”ممانعة“. ولمّا كان الموقف من الدولة الصهيونية هو أصل مفهوم ”الممانعة“، يصوّرون الأمور وكأن إسرائيل تدعم المعارضة السورية، بينما الحقيقة هي أن إسرائيل تنظر إلى الصراع السوري هي أيضاً من منطلق يعتبر أن النظام السوري ”أهون الشرّين“، مع تفضيلها لاستمرار تدمير البلاد. هذا وليس النزاع السوري نزاعاً على مسألة الصهيونية، والتدخل الأميركي والخليجي فيه ليس له علاقة بالصهيونية، بل يتعلق بدوافع أخرى منها الطائفية لدى الخليجيين والتصدّي لإيران لديهم ولدى الأميركيين معاً. والحال أن داعم النظام السوري الأكبر، ألا وهو الحكم الروسي، تربطه بالحكم الصهيوني علاقات وطيدة، بما فيها علاقات تعاون في المجال العسكري. 

أضف إلى ذلك موضوع تراتب القيم، وهو موضوع أثرته في كتابي الأول عن الانتفاضة العربية «الشعب يريد»: هل معاداة الإمبريالية هي القيمة السامية لليسار ومحرّكه الأول بشكل مطلق؟ من يقول ذلك ليس يسارياً في الحقيقة، بل هو معاد لأميركا. وأقول أميركا تحديداً لأن فهم ”الإمبريالية“ ذاته مشوّه لدى هؤلاء، إذ يتغافلون عن كون روسيا هي أيضاً دولة إمبريالية بكل معاني الكلمة، ينطبق عليها مفهوم الإمبريالية كما صاغه لينين نفسه. حين ألّف لينين كتيّبه الشهير عن الإمبريالية، كان يشمل بهذه الصفة مجموعة دول من الولايات المتحدة حتى اليابان مروراً بأوروبا الغربية وروسيا القيصرية. ولو سلّمنا بأن روسيا لم تعد إمبريالية حين تحوّلت إلى الاتحاد السوفييتي، فقد انتهى هذا الأمر قبل أكثر من ربع قرن وعادت روسيا إلى الرأسمالية، بل تسود فيها رأسمالية احتكارية فاحشة ونظام المحاسيب، وباتت تجتمع فيها كافة سمات الإمبريالية. وإذا كانت على تنازع مع الدول الإمبريالية الغربية فهذا من باب التناقضات بين الدول الإمبريالية التي كرّس لينين كتيّبه لدراستها، دعماً لتحليله للحرب العالمية الأولى بوصفها حرباً بين دول إمبريالية ينبغي على القوى الثورية ألا تقف مع أي منها ضد الأخرى. 

أما الأهم من كل ذلك فهو أن القيمة الأساسية المحرّكة لليسار ليست معاداة أميركا ولا حتى الإمبريالية بوجه عام، إذ يمكن أن يعادي المرء أميركا من منطلق الخميني أو الطالبان أو داعش مثلاً، وهم أبعد ما يكونون عن اليسار. فليست معاداة الإمبريالية قيمة يسارية تحررية بحد ذاتها، بل تنبع المعاداة اليسارية التحررية للإمبريالية من الدفاع عن حرية الشعوب وحقها في تقرير مصيرها وغيرهما من قيم الديمقراطية، أي القيم اليسارية الأساسية. إن حق الشعوب سابق لمعاداة الإمبريالية في تراتب القيم اليسارية. وقد توجد حالات ناتجة عن التناقضات بين الدول الإمبريالية أو غيرها من الاعتبارات، تؤيد فيها هذه الدولة الإمبريالية أو تلك نضالاً تحررياً مثلما حصل عندما دعمت أميركا كفاح الشيوعيين الصينيين ضد اليابان خلال الحرب العالمية الثانية. 

وفي الحالة السورية، أو قبلها الحالة الليبية في عام 2011، من الخطأ الفادح أن يُبنى الموقف اليساري على مبدأ ”عدوّ عدوّي صديقي“ وهو مبدأ بائس، لا سيما عندما تنحصر صفة العدو بأميركا أو الدول الغربية وحدها. بل لا بدّ من أن يُبنى الموقف اليساري في المقام الأول على حق الشعب السوري في الحرية والمساواة بعد أربعين عاماً من حكم عائلي استبدادي استغلالي أسوأ من المافيا! صحيح أن المعارضة السورية المسلحة أصبحت مكونة هي أيضاً من قوى غارقة في الرجعية وأن النزاع في سوريا بات صداماً بين قطبين مضادين للثورة. هذا رأي عبّرت عنه منذ أربع سنوات، لكنه حداني على معارضة الطرفين وليس على دعم أسوأهما، ألا وهو نظام التشبيح الخاضع لإيران وللإمبريالية الروسية. 

هذه القيم التي تحدثت عنها، هل كانت هي القيم الأساسية لليسار الماركسي، عربياً وعالمياً؟ هل هنالك تاريخ يساري واضح في تبني هذه القيم كقيم أساسية؟

لا، لأنّنا دخلنا مبكراً في القرن العشرين بحالة ساد فيها انحطاط تاريخي لدولة قامت باسم الماركسية وتحوّلت إلى دكتاتورية بيروقراطية تُعرف بالستالينية، وقد حوّلت معها الحركة الشيوعية في بداياتها التاريخية، بدايات الأممية الثالثة الشيوعية، من أحزاب كانت لها سيادتها في تحديد نهجها وفق حاجات الصراع الطبقي في بلدانها، وكان بعضها لا يتردد في الاختلاف مع موسكو، إلى جماعات تابعة ومتذيّلة للسياسة السوفييتية، مجرّد أدوات لموسكو. فهذا أفسد بشكل كامل فهم اليسار حيث أن قسماً طاغياً منه صار قائماً على التبعية للاتحاد السوفييتي، لا يحدد مواقفه بناء على أي قيم سوى تقليد موسكو.

كان ذلك واضحاً جداً في منطقتنا..

طبعاً، بل وفي شتى أنحاء العالم. وقد ابتعدنا جداً عن قيم اليسار الأصلية، وصارت غالبية القوى التي تنطق باسم اليسار جماعات متذيلة لدولة عظمى هي دكتاتورية بيروقراطية قائمة على سحق الحرية، أولى قيم اليسار، وتسود فيها درجة محدودة من المساواة. لكن كما سبق وذكرنا فالمساواة بدون حريات تعيد إنتاج الظلم وقد أعيد فعلاً إنتاج الظلم الاجتماعي في الاتحاد السوفييتي، إلّا أنه لم يكن رأسمالياً بل بيروقراطياً، تتمتع فيه أقلية ميسورة في قمة الهرم البيروقراطي بامتيازات كبيرة. 

لذلك، أنا من الذين يرون أن فكرة العودة إلى ماركس التي صعدت بقوة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي فكرة يجب أن تؤخذ بالمعنى الكامل للكلمة. فالعودة إلى ماركس تعني العودة إلى الفكر الماركسي الأصلي بتخليصه من تشويهات المرحلة السوفييتية/الستالينية بصورة خاصة، لكن ليس حصراً. والحقيقة أنها تشويهات عريضة، سبق بعضها نشوء النظام الستاليني حيث أن الفكر البلشفي الأصلي كان هو أيضاً نتاج ظروف روسيا القيصرية، فيه نزعات سلطوية، ويختلف اختلافاً واضحاً عن فكر ماركس وإنجلس في فهم الثورة وفهم الحزب الثوري ودور الطليعة، أي ما أشرت إليه في البداية تحت تسمية الفهم الأحادي. إن النظرية القائلة إن حزباً واحداً بعينه يمثل الطبقة العاملة من شأنها أن تؤدي إلى تأييد انفراد الحزب في قيادة الثورة، وتصبح ”دكتاتورية البروليتاريا“ بالتالي كناية عن دكتاتورية الحزب بما أنه يحتكر تمثيل البروليتاريا.

ودكتاتورية الحزب تصبح دكتاتورية الأمين العام…

نعم، وهي الفكرة الثاقبة البصيرة التي عبّر عنها تروتسكي في عام 1904 عندما كان شاباً ماركسياً (لم يكمل بعد الخامسة والعشرين من عمره) ينتقد تصوّر لينين للتنظيم. كتب أن ذلك التصوّر يؤدي إلى ”حلول المنظمة الحزبية محل الحزب وحلول اللجنة المركزية محل المنظمة الحزبية وأخيراً حلول الدكتاتور محل اللجنة المركزية“. بيد أن تروتسكي صار فيما بعد هو نفسه بلشفياً مزاوداً على قدامى البلاشفة في هذه الأمور إلى حدّ أن أسوأ كتبه، وعنوانه «الإرهاب والشيوعية» (صدر عام 1920)، يتضمّن تنظيراً لدكتاتورية الحزب الواحد. وقد كتبه تروتسكي عندما كان قائداً للجيش الأحمر يتنقل بين جبهات الحرب الأهلية في قطار مدرّع. 

ثمة ضرورة ماسة لمراجعة نقدية صارمة لكل هذه التجربة التاريخية، أما القول إن الأمور كانت مثالية في زمن لينين وفسدت في عهد ستالين، فهو قول غير ماركسي إذ يتغافل عن ديالكتيك التواصل والانقطاع بين ما بدأ عام ١٩١٧ وما انتهى إليه الاتحاد السوفييتي بعد عشر سنوات. في تلك التجربة التاريخية تواصلٌ وانقطاع في الوقت ذاته، ويبدأ التواصل في ثورة أكتوبر ١٩١٧ حينما استولى البلاشفة على السلطة. إن الثورة ”السوفييتية“ الأصلية، بمعنى الكلمة الروسية ألا وهو ثورة المجالس، إنما هي ثورة فبراير ١٩١٧، أما ما حصل في أكتوبر فهو استيلاء مسلح على الحكم نفّذه البلاشفة بصورة أساسية. وقد استولوا على المباني الحكومية بدون مساهمة عمال العاصمة سان بطرسبورغ ولو بإضراب عام. وطبعاً يمكن مناقشة إن كانت الظروف تفسر أو تبرر ما فعلوا، لكن مهما كان الأمر، فإن استيلاء الحزب البلشفي على الحكم، ثم قيامه بحل الجمعية التأسيسية التي طالب هو بالذات بانتخابها وجاءت نتيجتها بما لا يروق له، وبعد ذلك انفراده بالسلطة وحظره للأحزاب الأخرى، بما فيها اليسارية والعمالية، كل ذلك أوصل إلى إرساء دكتاتورية الحزب الواحد. وما لبثت تلك الدكتاتورية ذاتها أن شهدت انحطاطاً بيروقراطياً بات محتّماً، لا سيما بعد حظر التكتلات داخل الحزب ذاته سنة 1921، بما فتح الطريق عريضاً أمام حكم ستالين. ثمة إذاً تواصل بين ثورة أكتوبر ١٩١٧ وما تلاها، وإن كان هناك فرق نوعي عظيم يميّز تجربة السنوات الثورية الأولى للحكم البلشفي عمّا تلاها من انحطاط توتاليتاري.

في 7 نوفمبر من هذا العام، يكون قرن من الزمن قد مرّ على ثورة أكتوبر الروسية. ماذا بقي من هذه الثورة في التاريخ الإنساني؟ في حوار سابق لك قلتَ إن كومونة باريس أهم من الثورة الروسية.

هي أهم في نظري، لكن ليس كحدث تاريخي بالطبع. من حيث التأثير على التاريخ البشري، فإن كومونة باريس التي دامت أقل من شهرين وقُمعت بشكل همجي -آلاف القتلى في أسبوع دموي واحد- لا تحتمل المقارنة بالثورة الروسية. كان وقعها التاريخي محدوداً قياساً بالثورة الروسية التي غيّرت مسار التاريخ العالمي. لكن بوصفها نموذجاً للديمقراطية الاشتراكية ولحكم العمال، كما وصفها ماركس، فكومونة باريس نموذج أرقى مما صار إليه الحكم البلشفي الذي استُوحى منها لكنه سريعاً ما ابتعد عنها. وقد ابتدعت الكومونة نموذجاً يقوم على الديمقراطية الراديكالية والعدالة الاجتماعية والحرية وتعدد التيارات السياسية، وقد ضمت قيادتها يعاقبة وأناركيين وماركسيين وغيرهم. لينين نفسه -في كتابه «الدولة والثورة» الذي حرّره قبل استيلاء حزبه على السلطة- نظر إلى كومونة باريس بوصفها نموذجاً أعلى للحكم الثوري، إلا أنه تغافل عن مسألة التعددية السياسية في تجربتها ولم يتناول هذا الموضوع على الإطلاق.

ما هي حصيلة ثورة أكتوبر اليوم؟

بحكم التاريخ، للأسف، فإن آثارها التاريخية السيئة أكبر بكثير من آثارها الإيجابية، وذلك بالنظر إلى ما نتج عنها من دولة ستالينية توتاليتارية، والدور الكارثي الذي لعبته هذه الدولة في التاريخ العالمي، بما في ذلك تسهيل وصول النازيين إلى السلطة في ألمانيا من خلال نهج يسراوي جنوني وصف الاشتراكيين الديمقراطيين والنازيين كتوأمين، فارضاً على الشيوعيين معارضة الاثنين معاً بدل التحالف مع الاشتراكيين ضد النازيين، الأمر الذي سهّل فوز هتلر. أضف إلى ذلك الصورة المنفّرة عن الماركسية التي عكسها الاتحاد السوفييتي والتي استفادت منها الرأسمالية العالمية في حربها الأيديولوجية استفادة عظيمة. طبعاً لعبت ثورة أكتوبر ولعب الاتحاد السوفييتي دوراً بارزاً في دعم الحركات المناهضة للاستعمار، لكن دعم موسكو لها سريعاً ما غدا مصحوباً بسعي إلى السيطرة وتعميم النموذج الدكتاتوري البيروقراطي، وتاريخ منطقتنا من أبرز الشهود على ذلك.

بالنظر إلى كل هذه الأمور، فإن الحصيلة التاريخية للتجربة الروسية سلبية، ولا شك في أن ضعف اليسار الماركسي اليوم، بعد قرن وثلاثة أرباع قرن من بداية تبلور الفكر الماركسي، سببه الأعظم هو الإخفاق المأساوي لتلك التجربة التي سادت على اليسار في القرن العشرين وشوّهت تشويهاً كاملاً النظرية الماركسية محوّلة إياها إلى دين دولة. لذلك أقول إنه لا بد من العودة إلى ماركس والقيام بجردة حساب نقدية صارمة لكل تجربة القرن العشرين. لا بد من العودة إلى فكر ماركس وإنجلس كفكر أساسي. إن راهنية هذا الفكر فاقعة اليوم لأن عصر العولمة النيوليبرالية الذي نحن فيه أعادنا إلى رأسمالية تشبه ما شهده زمن ماركس أكثر مما تشبه المرحلة الإصلاحية التي سادت بعد الحرب العالمية الثانية، عندما كانت موازين القوى أفضل بكثير للحركة العمالية. أقول ذلك لأن بعض الناس قد يقول لك إن الماركسية قد مرّ عليها ما يناهز القرنين وباتت بالية (والمفارقة أن هؤلاء أنفسهم غالباً ما لا يترددون في التأكيد على راهنية فكر ابن خلدون بالرغم من أنه أقدم من ماركس بأكثر من أربعة قرون!). 

طبعاً لا يعدو تراث ماركس وإنجلس كونه فكر الأساس في الماركسية، ولا بد من تكييف هذا الأساس مع ظروفنا الحالية بإغنائه بكافة المساهمات النقدية المفيدة في العلوم الاجتماعية، مهما كانت مصادرها، الماركسية منها (مساهمات المفكرين الماركسيين غير الستالينيين على غرار أنطونيو غرامشي، أو المضادين للستالينية) كما وغير الماركسية (كفكر ميشيل فوكو، على سبيل المثال). ثم هناك مسائل أساسية يواجهها الفكر الثوري المعاصر لا تقتصر على الموضوع الطبقي، بل تشمل مواضيع أخرى كالجندر أو البيئة، لدينا فيها اليوم فكر أغنى بكثير مما كان لدى ماركس وإنجلس. يجب العودة إلى ماركس إذاً بإضافة كافة المساهمات التي تراكمت منذ زمنه والتي تلتقي مع قيم اليسار. وأعود هنا إلى نقطة انطلاقنا: اليسار، كأي موقف سياسي، قبل أن يكون مسألة فكرية هو مسألة أخلاقية بمعنى أنه يقوم على قيم أخلاقية مثلما يقوم اليمين على قيم خاصة به، تصل إلى التناقض المطلق مع قيم اليسار في حالة أقصى اليمين.

عدا العودة إلى ماركس، ألم تكن هناك تجارب إيجابية أو نقيضة للتجربة الستالينية خلال كل هذه السنين؟

حصلت تجارب هنا وهناك. وإذا كان سؤالك متعلقاً بما حصل بعد أكتوبر ١٩١٧، بصرف النظر عن ثورة فبراير ١٩١٧ وقبلها ثورة ١٩٠٥ التي مهّدت لها تاريخياً، فقد شهد التاريخ جملة من التجارب الغنية بالدروس ومن أبرزها ما حصل في إسبانيا في النصف الثاني من ثلاثينات القرن العشرين، عندما وقع صراع ضمن المعسكر الجمهوري المضاد للفاشية وشهدت مدن كبرشلونة وغيرها تجارب ثورية بقيادة الأناركيين والماركسيين/التروتسكيين وبتعارض مع الستالينيين. وبعد الحرب العالمية الثانية ساد لفترة طويلة انحصار التجارب اليسارية ضمن حركات التحرر الوطني في الجنوب العالمي، وهذه كانت عموماً تجارب وطنية وقومية، حربية المنشأ في غالب الأحيان، مما جعلها تبتعد عن القيم التي ذكرتها. ومع ذلك فثمة الكثير الذي يمكن الاستفادة منه في بعضها، وأخص بالذكر التجربة الكوبية التي قادها ثوار لم ينشؤوا في بوتقة الستالينية، أبرزهم تشي غيفارا.

ماذا عن منطقتنا؟

بالنسبة للمنطقة العربية، فإن تجربة جنوب اليمن قبل انحطاطها واندحارها تجربة غنية ومليئة بالدروس. وهناك أيضاً تجربة الانتفاضة الفلسطينية في عام ١٩٨٧، في مرحلة اللجان الشعبية التي كان اليسار مهيمناً في قيادتها والتي كانت رائدة من حيث الصيغة الديمقراطية التعددية. وطبعاً، التجربة التي عاشها الجيل الجديد في ما سُمّي ”الربيع العربي“ في عام ٢٠١١، وفي سوريا خصوصاً حيث شكّلت التنسيقيات والمجالس المحلية لبنات نموذج سياسي ديمقراطي راديكالي.

إلى جانب القيم الأساسية التي طرحتها كالحرية والمساواة، ما هي الأسس الماركسية التي تراها ضرورية لتأسيس يسار جديد ومختلف، لنقل، عن يسار القرن العشرين؟

لديك، من جهة، الثوابت، أي ما هو ثابت في الفكر الماركسي في نقد الرأسمالية والإحاطة بمواضيع الاستغلال والاضطهاد الطبقي والنضال العمالي ضد الرأسمالية، وغيرها. ونحن نعيش اليوم في مجتمع عالمي تعمل الغالبية فيه بعمل مأجور. في هذا الصدد، يجب أخذ مفهوم ”البروليتاريا“ بمعناه الواسع، وهو تعبير بشع لكنه أكثر دقة من ”طبقة عاملة“ التي غالباً ما يُفهم بها حصراً الطبقة العاملة الصناعية، بينما البروليتاريا بتعريف ماركس وإنجلس تضم كل من يضطر إلى بيع قوة عمله كي يعيش. فالبروليتاريا بهذا المعنى باتت تشكّل الغالبية الساحقة من البشر وتشمل كافة مجالات الحياة الاجتماعية. 

هذا المجتمع الكبير يعاني من استغلال، وثمة أيضاً أشكال أخرى غير اقتصادية من الاضطهاد تعاني منها جماعات كبرى تنتمي إلى هذا الكم العريض، كاضطهاد النساء الذي التفت إليه إنجلس بصورة خاصة، لكنّ فهمنا له قد تطوّر بشكل كبير، فضلاً عن إدراكنا لخطورة الاضطهاد الجندري بكافة أنواعه. وهنا مثال آخر عن المساهمات غير الماركسية التي لا بدّ من أخذها بعين الاعتبار، حيث أن قسماً كبيراً من دراسات الاضطهاد الجنسي والجندري التي يجب الاستفادة منها، ليس ماركسياً أو يقع على أطراف الماركسية. وهذا يُفهم تماماً لأن الماركسية ”الرسمية“ التي سادت في القرن الماضي كانت منفّرة، تجسّدت في أنظمة حجبت الحريات ومارست شتى أشكال الاضطهاد الجندري.

كيف ترى اليوم التوجهات الماركسية المختلفة: اللينينية، الماوية، التروتسكية…الخ؟

أرى أن لينين صاغ تصوراً للتنظيم يصلح للنضال في ظروف قمعية بالغة، على أن ينفتح التنظيم ويتحوّل عندما تنفتح الظروف السياسية مثلما كان في ذهن لينين ورفاقه أنفسهم، وكم بالأحرى لو وصل التنظيم إلى السلطة. ومن أهم ما يبقى في مساهمة لينين في نظري توجهه الأممي ودفاعه عن حق الشعوب في تقرير مصيرها. وإذا كانت التروتسكية كتيار مضاد للستالينية قد انتهى زمنها في رأيي مع انهيار الاتحاد السوفييتي، يبقى أن مساهمة تروتسكي في نقد الستالينية ركن أساسي من جردة حساب تلك التجربة التاريخية الضخمة التي لا غنى عن استيعاب دروسها في صياغة أي مشروع ثوري معاصر. ولا بدّ من الاستفادة كذلك من نظرية الثورة الدائمة التي استوحاها تروتسكي من ماركس وإنجلس وطوّرها في كتابه عن نتائج ثورة ١٩٠٥ الذي صدر عام ١٩٠٦، ومن ثم في كتابه الرائع «تاريخ الثورة الروسية» الذي صاغ فيه نظرية التطور المتفاوت والمركّب. أما الماوية فقد انتهت بصورة أساسية كتيار ثوري بعد تحوّل الصين باتجاه صارت الرأسمالية فيه محركاً أساسياً للاقتصاد الوطني. هذا ويبقى فكر ماو تسي تونغ في شبابه ومرحلتي الثورة وحرب التحرير أهم مساهمة في موضوع النضال الثوري في ظروف تفرض على الثوريين الانكفاء إلى الأرياف. 

هناك من يقول إن الصين صارت إمبريالية.

لا أذهب إلى هذا الحد، فالإمبريالية ليست تهمة سياسية بل هي مفهوم علمي، ومن يريد التأكيد على أن الصين دولة إمبريالية لا بد أن ينظر إلى طبيعة استثمارات الصين الخارجية وشروطها وهل هي خاصة أو تابعة للدولة، ناهيك عن تحديد طبيعة هذه الدولة. من نافل القول إن الصين ليست ”دولة اشتراكية“. لكن يصعب اختزالها إلى دولة قائمة على الرأسمالية الاحتكارية التي هي جزء لا يتجزأ من المفهوم الماركسي للإمبريالية. أميل شخصياً إلى اعتبار الصين دولة هجينة، تقوم على تركيب خصوصي من النمط البيروقراطي (كالذي ساد في الاتحاد السوفييتي) والنمط الرأسمالي. ثم إذا صحّ أن الصين قوة اقتصادية عظمى، فهذا بسبب حجمها السكاني وهي لا تزال دولة فقيرة من حيث نصيب الفرد فيها، ولا تزال قوتها العسكرية، وبالأخص قدرتها على تصدير تلك القوة، محدودة حتى بالمقارنة مع روسيا. 

وتختلف حال الصين كثيراً عن حال روسيا. فالصين لا تزال تحتفظ ببعض سمات نظامها التاريخي، المسمى بالشيوعي وهو دكتاتوري بيروقراطي في الحقيقة. أما روسيا الحالية فدولة رأسمالية بكل معنى الكلمة، تشهد استفحال رأسمالية احتكارية جشعة ونظام اجتماعي رأسمالي أكثر رجعية من رديفه في الولايات المتحدة، ناهيك عن أوروبا الغربية. والنظام السياسي في روسيا نظام سلطوي، ليس ديمقراطياً ليبرالياً، يستند إلى دولة إمبريالية لها قوة عسكرية متضخمة، دخلت في صراع مع الولايات المتحدة بغية إعادة الاستيلاء على منطقة النفوذ السوفييتي السابق التي فلتت من سيطرة موسكو عند انهيار الاتحاد.

أخيراً، هل من أمل في بناء يسار جديد، خاصة بعدما فقد اليسار العربي الكثير من مصداقيته في السنوات الأخيرة؟

الأمل هو في الجيل الجديد، الذي لدى قسم كبير منه توقٌ إلى القيم التي انطلق منها اليسار تاريخياً: الحرية والمساواة. والمساواة هنا يجب فهمها بمعناها الواسع، فبينما قصدت الثورة الفرنسية في بداياتها المساواة في الحقوق بين الأفراد (الذكور، في الواقع التاريخي)، تشمل المساواة اليوم كافة الأبعاد، السياسي والاجتماعي والاقتصادي والجندري والقومي. وقد استمر النضال في إطار الرأسمالية من أجل كافة تلك الحقوق، كحقوق المثليين والمثليات، على سبيل المثال، التي كانت من المحرمات في كل مكان قبل جيل واحد أو جيلين. إن تقدم هذه الحقوق ليس بفضل الرأسمالية، بل رغماً عنها وبفضل النضال الاجتماعي والسياسي الذي يقف يساريون في طليعته. 

واليوم تتمثل أبرز بارقة أمل على الصعيد العالمي في أن ملايين الشباب في بلد كالولايات المتحدة، أكبر الدول الإمبريالية ومركز العداء للشيوعية بعد الحرب العالمية الثانية، تحمّسوا لإنسان يعرّف نفسه بالاشتراكي، هو بيرني ساندرز. وفي أحد الأقطاب الإمبريالية الأخرى، بريطانيا، نرى ملايين الشباب يتحمّسون لجيريمي كوربن، الذي يعرّف نفسه بالماركسي، وقد حاز حزب العمال تحت قيادته على شعبية متصاعدة. وفي إسبانيا رأينا كيف نشأت وتطوّرت حركة بوديموس اليسارية الراديكالية بسرعة ملفتة. هذه كلها وغيرها من التطورات تشير إلى طاقة عظيمة. لكن يبقى السؤال: كيف تستطيع الهيئات السياسية تمثيل واستقطاب تلك الطاقة وقيادتها نحو التغيير الثوري؟ إنه سؤال كبير يحيل إلى الاستراتيجية سياسية. 

وهذا يعيدنا إلى حالتنا العربية التي انكشفت فيها طاقة لا تقلّ عظمة أثناء ”الربيع العربي“. وحالتنا أكثر تعقيداً من غيرها في العالم، لأنها واجهت وتواجه ليس قوة واحدة مضادة للثورة بل قوتين: النظام القديم والتيارات الدينية التي أرادت تجيير الانتفاضة باتجاه نظام رجعي من نوع آخر، هو نسخة دينية عن النظام الذي كان قائماً كما بيّنت التجربة القصيرة لمحمد مرسي في مصر على سبيل المثال. ولا بد بالتالي للقوى اليسارية والتقدمية أن تعمل على شق طريق ثالث مضاد لقطبي الثورة المضادة. هذا لا يمنع لقاءات مؤقتة في الميدان مع أحد القطبين ضد الآخر حسب الظروف، لكن بدون بث الأوهام ومع نقد صارم لما يمثله كلا القطبين ووعي صارم بأنهما عدوان استراتيجيان. 

هذا لم نره تقريباً خلال الانتفاضة العربية الكبرى، بل رأينا بعض التيارات يتحالف مع الإخوان المسلمين وبعضها الآخر مع النظام القديم، بينما تأرجحت فئة ثالثة بين الطرفين. كدنا لا نرى من يقف ضد القطبين بالتساوي ويمارس نقداً صارماً لهما. أعطي دائماً مثال صديقي حمدين صباحي لأن في مساره خير تلخيص للموضوع: فقد انتقل حزبه، حزب الكرامة، من الاشتراك في الكتلة الانتخابية التي شكّلها الإخوان في عام ٢٠١١، مما أدّى إلى حصوله على عدد محدود من المقاعد النيابية، انتقل من ذلك إلى التمجيد بالسيسي وبالجيش في عام ٢٠١٣ بأوهام كبيرة حول ما يريد السيسي الوصول إليه. أما بين هذين العامين، في عام ٢٠١٢، عندما وقف حمدين على مسافة واحدة من الجيش والإخوان معارضاً الطرفين من منطلق تقدمي، حصل على شعبية مذهلة وحقق نتيجة عظيمة في الانتخابات الرئاسية، بما فيها حصوله على أغلبية الأصوات النسبية في القاهرة والإسكندرية، بالرغم من حدود الإمكانيات المادية والتنظيمية التي كانت متاحة له مقارنةً بسائر المرشحين. فتجربة حمدين تشير بكل وضوح إلى طبيعة الاستراتيجية المطلوبة.

في الجيل الجديد طاقة عظيمة للفكر اليساري التحرري، والغالبية الكبرى من الشباب العربي تجذبها القيم التقدّمية أكثر بكثير مما تجذبها القيم الداعشية والسلفية والأصولية الدينية المتناقضة مع الزمن بشكل صارخ. على النطاق العالمي، هناك اليوم تجاذب بين اليسار وأقصى اليمين بشتى أنواعه، لكن هذا الأخير ليس الأكثر جاذبية بصورة تلقائية، بل الأكثر جاذبية بصورة تلقائية هو اليسار لأن قيمه تصبّ في منحى التاريخ الذي شهد توسيع وتعميق الحرية والمساواة عبر القرون. وإذا تمكّن أقصى اليمين من أن يتغلّب على اليسار فالسبب يكون في معظم الأحيان تخلّف اليسار المنظّم عن متطلبات الوضع وفسحه المجال أمام الديماغوجية اليمينية لتحوّل النقمة الجماهيرية في اتجاه العداء العنصري أو الطائفي أو ما يشبههما.

إن الطاقة العظيمة التي أشرت إليها هي إذاً المدعاة الرئيسية للأمل، لكن هذه الطاقة تتطلب قوى سياسية منسجمة تماماً مع القيم المذكورة، وتحتاج لاستراتيجيات ملائمة. الأمل كبير، وأنا أميّز بين الأمل والتفاؤل. أتبنى كلياً حكمة الجمع بين تشاؤم العقل وتفاؤل الإرادة، حسب القول الذي اشتهر به غرامشي. لكنّ تفاؤل الإرادة يقتضي الأمل بالطبع، إذ أن لا مجال لتفاؤل الإرادة بدون أمل. إن تشاؤم العقل هو أن ندرك أن الأفضل ليس مرجّحاً تلقائياً وأن الأسوأ الكارثي ممكن تماماً، بل يمكنه أن يغدو مرجّحاً إن لم يجرِ التصدّي له. هكذا يصبح تشاؤم العقل بذاته حافزاً لتفاؤل الإرادة، من خلال إدراك الضرورة القصوى للعمل على تدارك الأسوأ ومنع الكارثة المحدقة.


جلبير الأشقر، أكاديمي لبناني، عمل في البحث والتدريس الجامعيين في كل من بيروت وباريس وبرلين قبل أن يتم تعيينه في كرسي دراسات التنمية والعلاقات الدولية في معهد الدراسات الشرقية والأفريقية (SOAS) في جامعة لندن. له كتب عديدة صدرت بخمس عشرة لغة، منها باللغة العربية: "صدام الهمجيات: الإرهاب والإرهاب المضاد والفوضى العالمية" (2002)؛ "الشرق الملتهب: الشرق الأوسط في المنظور الماركسي" (2004)؛ "السلطان الخطير: السياسة الخارجية الأميركية في الشرق الأوسط" (بالاشتراك مع نعوم تشومسكي، 2007)؛ "العرب والمحرقة النازية: حرب المرويات العربية-الإسرائيلية" (2010)؛ "الماركسية والدين والاستشراق" (2015)؛ وحول الانتفاضة العربية: "الشعب يريد: بحث جذري في الانتفاضة العربية" (2013) و"انتكاسة الانتفاضة العربية: أعراضٌ مَرَضية" (2016). ويكتب جلبير الأشقر مقالاً أسبوعياً لصحيفة "القدس العربي".