كُثيّر عزّة: سخرية التاريخ من المعنى

2017-11-09 16:00:00

كُثيّر عزّة: سخرية التاريخ من المعنى
Frederick Arthur Bridgman , The Prayer, 1877

على أية حال، السخرية التي نتكلّم عنها هنا مختلفة عن هذه الخزعبلات. قام التاريخ بتحريف معنى واضح لقصيدة كتبها كثيّر: يردد الناس اليوم المثل "لا حياة لمن تنادي"، قاصدين انعدام الحياء عند أحدهم، لدرجة أن لا حياة فيه عندما تدعوه لأمر ما، كأنه ميت. هذا في الحقيقة شطر من بيت لكثيّر، ومعناه مختلف عن المعنى المتداول، وله قصة دامية سنرويها الآن.

كان كثيّر الخزاعي راعي غنم قصيراً نحيلاً دميماً فقيراً مغروراً غريب الأطوار؛ آذاه الناس في خَلقه وخُلقه، وذلّوه سخريةً وتعالياً. قرض الشعر صغيراً؛ ثم لازم جميل بثينة راويةً له، على عادة شعراء ذاك الزمن. أيام الفتن التي عصفت بالمسلمين، انحاز بلا تردد إلى العلويين، وبالتحديد إلى الكيسانية، التي تقول بإمامة محمد بن علي بن أبي طالب، المشهور بابن الحنفية، وهو الأخ غير الشقيق للحسنين. بقي مع إمامه في الحجاز، إلى أن اضطر للهروب خوفاً من بطش عبد الله بين الزبير إلى ديار الأمويين، حيث بايع ابن الحنفية نفسه، وكثيّر من بعده، عبد الملك بن مروان.

بعدها، بقي كثيّر على ولائه للعلويين، إلا أنه دخل في خدمة الأمويين، مدّاحاً لهم، على مبدأ التقية ربما، منتظراً عودة الإمام ابن الحنفية من غيبته، ذاك الذي يعيش أبد الدهر في جبل رضوى، وعن يمينه أسد وعن يساره أسد. وربما لم تكن التقية وحدها ما حرّك الرجل: كان مدحه ورثاؤه للأمويين معتدلاً جميلاً صادقاً في معظم الأحيان. تنقّل كثيّر بين مصر ودمشق والحجاز، إلى أن وافته المنية شيخاً كبيراً جليلاً، يختلف حوله النقاد، ويعجبون بشعره. 

اشتُهر الرجل بتطيّره الشديد، وبإيمانه بالخرافات، وارتبط هذا مع مغالاة الكيسانية في عبادة آل علي؛ فاتُّهم بالحماقة وبالإيمان بأسخف الخرافات، من قبل كتّاب عصور لاحقة يؤمنون هم أنفسهم بأغرب أنواع الخرافات. 

نُسب كثّير إلى محبوبته عزة، كما نُسب غيره من الشعراء العذريين إلى معشوقاتهم؛ على أن عميدنا طه حسين يرجّح أن كثيّراً ليس بصادق في حبه، دون أن يجزم أو يبرّر رأيه هذا بدقة. وللعميد تأويلٌ اجتماعي سياسي للشعر العذري: نشأ هذا الشعر من مزج عاملين، أولهما تغيّر المثل العليا بسبب انتشار الإسلام، واتجاهها نحو تجريد متعال فلسفي؛ وثانيهما عدم قدرة أهل البادية الحجازيين على المشاركة في السياسة. 

حقق إحسان عباس ديوان كثيّر، أو ما تمكّن من جمعه؛ حيث يُروى أن لكثيّر ديواناً ضخماً بجزأين، فُقد نهائياً. يرى المحقّق أن شاعرنا مظلوم، وأنه لا يستحق كل هذه السخرية: لم يكن أحمق قط، وقراءة شعره، بموضوعية، تبرهن على عمق فلسفي وشعري وفكري مميز وخاص.

على أن السخرية التي ألحقها به التاريخ، التاريخ غير الواعي بما يفعله، في تحريف معنى إحدى أشهر قصائده، أشدّ مرارة وعمقاً من سخرية معاصريه ونقّاده.

ولا أقصد هنا إشكالية المعنى على طريقة خزعبلات ما بعد الحداثة، التي تنفي وجود معنى ثابت للنص، أو مؤلف يعطي هذا المعنى. هذا، بالطبع، كلام فارغ لا يأخذه جدياً حتى القائلون به. على سبيل المثال، عندما يقول ديكارت إن العالم كله ملاء ولا يوجد خلاء، فهو يعني إن العالم كله ملاء؛ وعندما يدعونا المعري إلى أن نكون نباتيين، فهو يعني أننا يجب أن نكون نباتيين؛ وعندما يقول رولان بارت، في مفارقة مضحكة، إنه لا يوجد مؤلف للنص، فهو يعني إنه لا يوجد مؤلف للنص؛ ولكنه بالطبع، يوقع نصه باسمه! 

على أية حال، السخرية التي نتكلّم عنها هنا مختلفة عن هذه الخزعبلات. قام التاريخ بتحريف معنى واضح لقصيدة كتبها كثيّر: يردد الناس اليوم المثل "لا حياة لمن تنادي"، قاصدين انعدام الحياء عند أحدهم، لدرجة أن لا حياة فيه عندما تدعوه لأمر ما، كأنه ميت. هذا في الحقيقة شطر من بيت لكثيّر، ومعناه مختلف عن المعنى المتداول، وله قصة دامية سنرويها الآن.

تقول القصة إن كثيّراً قد تحوّل إلى الكيسانية متأثراً بصديقه خندق الأسدي. حجّ خندق في إحدى السنوات، وقال لكثيّر إنه لو وجد من يكفل أطفاله، فسينهض إلى المنبر ويخطب في الناس عن حق آل علي. فانبرى كثيّر لكفالة الأطفال، وخطب خندق في الحجاج، شاتماً أبا بكر وعمر، بحسب بعض الروايات. هاج الحجاج وماجوا، وأنزلوه، وضربوه، ونكلوا بها، حتى قتلوه، في بيت الله الحرام.
رثى كثيّر صديقه في قصائد صادقة جميلة مؤثرة؛ والمثل الشهير الذي نتكلم عنه أتى في 
قصيدة الرثاء هذه:
 
عداني أنْ أزورَكَ غيرَ بُغضٍ  /  مُقامُكَ بين مُصفحة ٍ شدادِ
فلا تبعَدْ فكلّ فتىً سيأتي  /  عَلَيْهِ المَوْتُ يَطْرُقُ أوْ يُغَادِي
وَكُلُ ذَخِيرَة ٍ لا بُدّ يوْماً  /  ولو بقيتْ تصيرُ إلى النّفادِ
يعزّ عليّ أن نغدو جميعاً  /  وَتُصْبحَ ثَاوِياً رَهْناً بِوَادِ
فَلَوْ فُودِيتَ مِنْ حَدَثِ المَنايا  /  وقيتُكَ بالطريفِ وبالتّلادِ
لَقَدْ أسْمَعْتَ، لَوْ نَادَيْتَ حَيّاً / ولكنْ لا حياة َ لمنْ تُنادي


لا نعلم متى قرر التاريخ أن المعنى المجازي هو الذي سيسود، هذا المعنى التجريدي باستعارته المملة عن الموتى-الأحياء. معنى كثيّر أقوى وأبعد مدى وأكثر حدة: هناك قبل أن يقتنص التجريد المعاني، نقف على جثة نناديها، عبثاً، فلا حياة فيها. 

نُسب البيت أحياناً إلى عمرو بن معد بن يكرب، أي لشاعر عاش ومات قبل كثيّر بنحو قرن من الزمن. يرد البيت بمعناه المجازي في قصيدة عمر، ولكن محقق الديوان مطاع طرابيشي يشكك في نسبته، ويبرر موقفه باختلاط الروايات وظهور البيت في مرجعين هامشيين متأخرين فقط. أقترح أن البيت لكثيّر، لأنه من غير المعقول أن يستخدم كثيّر بيتاً كان له معنى مجرّداً للدلالة على معنى مباشر: عادة ما يحدث العكس، أي يتحوّل الفكر من المباشر إلى التجريد والاستعارات. لا أملك دليلاً آخر على اقتراحي هذا، إلا وحدة قصيدة كثيّر، وقوتها، والمعنى المباشر فيها. 

ظلمت الدنيا كَثيراً، كما سمّاه أهله، قبل أن يصغّر الناس الاسم سخرية منه: ظلمته حين ولدته قصيراً دميماً فقيراً، مرهف الحس، غريباً مقداماً مرتبكاً، متطيّراً مؤمناً بخرافات كثيرة؛ ظلمته عندما سخر منه معاصروه واللاحقون؛ وعندما سخر منه التاريخ سارقاً معانيه الشعرية، ومخفياً ديوانه الكامل عنا إلى يوم النشور. 

يبقى خلف كل هذه السخرية حزن شفيف تضجّ به قصائده. ربما ما قاله العميد صحيح، أي أن كثيّر ليس بشاعر عذري صرف. يبدو لي أحياناً أنه دفع بالحب إلى واقعية ساحرة، تمزج التعالي التجريدي بالواقعي اليومي: لم يكن حبه ساذجاً مكتملاً عذرياً؛ بل كان متكبّراً متصاغراً، في آن معاً؛ ومراً حلواً، كما حياته نفسها. 

أقصد بالحب الواقعي ما قصده كثيّر في الأبيات التالية، التي تصوّر قلباً يعشق، كما نعشق نحن، وكما يعشق كل الناس، في كل الأزمان، بالمعنى المباشر الواقعي، بالضبط كما هو حال بيته الشهير حين ينادي الموتى:  
 
وما ذكرتكِ النّفسُ إلاّ تفرّقتْ  /  فَريقينِ، مِنها عَاذِرٌ لي ولائمُ
 فريقٌ أبى أن يقبلَ الضّيم عنوةً  /  وآخرُ منها قابلُ الضّيمِ راغمُ
أروحُ وأغدُو من هَوَاكِ وأسْتَرِي  /  وفي النّفْس، ممّا قد عَلِمْتِ، علاقمُ


أليس الحب الواقعي، هو هذا الحب الذي يمزّق النفس، نفسين؟

فليرقد كثيّر وحيداً في قبره، ولنناده متى أردنا الكلام في الحب: هذا العذري الواقعي؛ العلوي، مدّاح الأمويين؛ شاعر الآمال المتعالية التي لا يدركها الناس، ولا يبقى منها إلا حزن شفيف من نفوس ممزقة تشبهنا بوحشتها وترددها وحيرتها، نفوس المحبين في عصر حروب لا نهاية له.