العالم بعد مئة عام من ثورة أكتوبر

2017-11-14 16:00:00

العالم بعد مئة عام من ثورة أكتوبر

من "يمسك التاريخ من قرنية" الآن؟ هذا هو السؤال الجوهري، وهو المهمة التي لا بد من إنجازها والصراع الطبقي يتفاقم، والرأسمالية تتعفّن، حيث يجب أن "ينجب" الصراع الطبقي مطابقه السياسي، وأن يُنتج منظور العمال والفلاحين الفقراء، وبديلهم. ثورة أكتوبر تطرح علينا هذه المهمة لكي ننجز ثورات جديدة. ولا شك في أن تفاقم الصراع الطبقي، وبدء الثورات، يفرض أن ينشأ الوعي المطابق، وأن يصبح البحث عن البديل همٌ مستمر، وأن يميل العمال والفلاحون الفقراء إلى التنظّم، فليس من خيار غير ذلك.

بدأتُ هذه السلسلة بالعالم الذي تشكّل بعد ثورة أكتوبر، الآن لا بدّ من فهم العالم بعد مئة عام على الثورة، وربع قرن على انهيار الاشتراكية. وكنت أشرت إلى أن ثورة أكتوبر قامت في سنوات تشكّل النمط الرأسمالي كنمط عالمي، وذو طابع إمبريالي، حيث أفضت إلى انقسام العالم إلى "معسكرين"، ووجود نمطين اقتصاديين مختلفين ومتناقضين. الآن نحن في ظل نمط واحد مسيطر، هو النمط الرأسمالي، وفي وضع يتسم بعودة التناقضات بين الدول الرأسمالية ذاتها، القديمة فيما بينها، ومع الجديدة.

ربما تشبه بداية القرن الحادي والعشرين بداية القرن العشرين، حيث كانت تهيمن كل من إنجلترا وفرنسا وأميركا، بينما تقدمت كل من ألمانيا واليابان متأخرتين فلم تجدا ما تستعمرانه إلا بالاستعداد للحرب من أجل فرض إعادة تقاسم العالم. لكن كانت الرأسمالية حينها تتحوّل إلى إمبريالية ويتشكّل نمط عالمي مهيمن، يقسم العالم إلى مراكز وأطراف (كان معظمها مستعمرات حينها). وهي الحالة التي فرضت نشوب الحرب العالمية الأولى، ومن جديد الحرب العالمية الثانية. فقد كان وضع كل من ألمانيا واليابان غير ممكن الاستمرار دون استحواذ على مستعمرات، وبالتالي فرض تقاسم جديد، تطوّر في الحرب الثانية إلى ميل ألماني هيمني، حيث أرادت السيطرة على العالم.

في ظل تشكّل الرأسمالية كنمط عالمي ذو طابع إمبريالي والتناقض بين إمبرياليات، حدثت ثورة أكتوبر، وتوسّع وجود الاشتراكية إلى نصف العالم تقريباً. بالطبع كان ذلك يقلّص من السوق الراسمالي، وفرض أن تتوحد الرأسماليات في تكتل واحد في مواجهة الاتحاد السوفيتي ومنظومته. وبالتالي أن تنهي تنافسها الذي كان يفضي إلى الحروب، أو على الأقل أن تجعل هذا التنافس "اقتصادياً" ولا يرتقي إلى صراع سياسي.

بداية القرن الجديد شهدت حالة معاكسة، حيث أن الرأسمالية دخلت في أزمة مستعصية، بعد أن فرض تطورها هيمنة المال على الرأسمال، أي فرض وجود فائض مالي لم يعد قادراً على أن يتوظف في الاقتصاد الحقيقي الذي بات مشبعاً، لهذا هرب إلى النشاط المالي، في القروض والمضاربات والمشتقات المالية. وهذا النشاط بات هو المهيمن في بنية الرأسمالية، ويستحوذ على النسبة الأعلى من حركة الرأسمال. وهو الأمر الذي يعني نشوء فقاعات ومن ثم انفجارها الذي يفضي إلى انهيارات مالية تهزّ بنية الرأسمالية كلها. لهذا باتت الرأسمالية في أزمة مستمرة، وفي ميل انهياري، ويمكن القول أنها دخلت مرحلة التعفّن، ما دام المال يذهب بشكل متصاعد إلى النشاط المالي وليس إلى الإنتاج. وهذه الحالة تطال كلية النمط الرأسمالي رغم أن تمركزها الأساسي هو في أميركا، التي اعتمدت على جذب الرأسمال من خلال الفائدة المرتفعة لتعويض اختلال الميزان التجاري لمصلحة كل من أوروبا واليابان.

إضافة إلى ذلك، أفضى انهيار النظم الاشتراكية، والاتحاد السوفيتي خصوصاً، وتحوّل الصين نحو الرأسمالية، إلى نشوء رأسماليات جديدة تريد حصتها في السوق العالمي. الصين تقدمت من خلال "رخص سلعها"، وقدرتها على اكتساب التكنولوجيا المتقدمة بسرعة كبيرة، فغزت سلعها العالم، وباتت تصدّر الرأسمال إلى كل أسقاع الأرض، فتشتري الشركات الكبرى والعقارات الكبرى وتستثمر في النفط، وغيرها. بينما تعاني روسيا من "ضعف" وضعها الصناعي الذي تجمّد بعد أن تم انجاز التوسع الأفقي، فلم تستطع الارتقاء تكنولوجياً رغم القدرات التي لديها. لهذا أخذت تصارع من أجل الاستحواذ على الأسواق، وتميل للتصعيد العسكري من أجل فرض ذلك. لكن النمط الرأسمالي لم يقف عند هذا الحدّ، أي بروز إمبرياليات جديدة، بل أن "الوحدة" التي ضمت الإمبرياليات القديمة آخذة في التفكك نتيجة تناقض المصالح، وكل منها يسعى إلى تجاوز أزمته على حساب الآخرين.

بالتالي نحن في وضع يتسم بتناقض الإمبرياليات، وتنافسها، وميل كل منها سواء للهيمنة بعدما ظهر "ضعف" أميركا، وتراجعها، وخطر الأزمة التي تعيشها، أو للحصول على مصالح تعزز من وضعها الاقتصادي. كل ذلك يجري في وضع تعيش الرأسمالية ككل فيه، يتسم بأزمة عميقة لا حلّ لها، وهي مستمرة، وتفرض انهيارات متتالية. إنه صراع في وضعية الغرق، وليس كما كان بداية القرن العشرين، حيث حالة النهوض الكبير. إن الطابع الجديد للرأسمالية الذي يتسم بهيمنة المال على الرأسمال، النشاط المالي على النشاط الإنتاجي، يفرض اختلافاً في طابع التراكم، حيث أصبح مختلفاً في السرعة. إن آفة النشاط المالي أنه يفرض تسارعاً في التراكم، وبالتالي تسارعاً في مركزة الثروة، من حيث عدد الملاّك ومن حيث تمركزها في النشاط المالي. ولهذا تسارعت عملية نهب الأطراف، وهو نهب بكل معنى الكلمة يقوم على السيطرة على الثروات الوطنية من خلال النشاط في أسواق الأسهم أو الاستثمار "قصير الأجل" أو في العقارات والخدمات.  وهنا بات الاختلاف في السرعة كذلك، حيث يتسارع النهب إلى حدّ تجريف المجتمعات. لكن ما هو جديد هو أن النهب بات يطال المراكز الرأسمالية ذاتها، لأن سرعة التراكم والتوظيف في النشاط المالي باتا يفرضان تخلي الدولة (دولة الرفاه) عن دورها، والعودة إلى استغلال العمال والطبقة الوسطى، بعد تجريد كل هؤلاء من كل "الحقوق" التي تحصّلوا عليها.

لهذا نشهد انهياراً كبيراً في الوضع المعيشي في الأطراف، وانهياراً متسارعاً في وضع العمال والفئات الوسطى في المراكز. نشهد ارتفاعاً في أسعار كل السلع والخدمات بينما نشهد بطئاً، أو حتى تراجعاً في الأجور، وتخلٍ عن كل الحقوق التي حصلت عليها "الطبقات الأضعف“.

بالتالي يمكن لمس ثلاث مسائل تحدّد الأفق القادم، المسألة الأولى، أزمة الرأسمالية التي باتت بلا حل، وتقوم على تحويل الاقتصاد إلى اقتصاد مالي، يفرض تمركزاً في الثروة، لكنه يقود إلى نشوء "فقاعات" سرعان ما تنفجر لتفضي إلى انهيارات كبيرة في قطاع المال (البنوك والمؤسسات المالية) ينعكس على كلية الاقتصاد الرأسمالي. لهذا بات التفكير لدى الرأسماليين يتمثل في كيفية تأخير الأزمة وليس تجاوزها، وكيف يمكن تخفيف آثارها حين تحدث. في كل الأحوال سيفرض ذلك  انفجارات طبقية نتيجة انعكاسه على الطبقات الأضعف. والمسألة الثانية، التنافس والتناقض بين الإمبرياليات بعد أن انتهت الأحادية القطبية، وتفكك الثالوث، ونشأت إمبرياليات جديدة، حيث أن كل رأسمالية تحاول أن تتجاوز أزمتها على حساب الرأسماليات الأخرى، وأن بعضها يميل إلى التوسع من أجل الحصول على الأسواق كما تفعل روسيا. وهي صراعات تضعف الرأسمالية، وتشتتها، وربما تدفع إلى أشكالٍ من الحروب "بالوكالة"، أو استخدام "التدمير الممنهج". والمسألة الثالثة، انعكاس كل ذلك على وضع الطبقات العاملة والفلاحين الفقراء، والشعوب عموماً، حيث يتصاعد الصراع الطبقي في المراكز، وفي الأطراف، وتندفع الشعوب للتمرد بعد كل النهب الذي طالها. ولا شك في أن التراكم المتصاعد، والنشاط المالي سوف يفرضان حدوث انهيارات مالية كبيرة، وفشل في التوافق بين الإمبرياليات، ولكن الأهم أن كل ذلك ينعكس إفقاراً متصاعداً يطال الشعوب، وهو الأمر الذي يعني أننا في وضع، ربما أقول مشابه للوضع الذي حدثت فيه ثورة أكتوبر، وأظن أنه أسوأ، بالضبط نتيجة أزمة الرأسمالية.

في نهاية سنة 2010 حدثت ثورة في تونس سرعان ما توسعت لتشمل العديد من البلدان العربية، حيث بعد تونس كانت مصر، وبعد مصر تسابقت كل من البحرين واليمن وليبيا، ثم أتت ثورة سورية. وانتشر حراك كبير في العديد من البلدان الأخرى، في الجزائر وعُمان، والمغرب والأردن والعراق. كان ذلك على ضوء أزمة سنة 2008 التي طالت الرأسمالية الأميركية، وأثّرت في بنية النمط الرأسمالي ككل. إذن، يمكن القول بأن القرن الجديد بدأ مع ثورات في البلدان العربية كما بدأ القرن العشرين بثورة أكتوبر، مع الفارق الواضح إلى الآن، والذي يتمثّل في أن هذه الثورات فتحت على وضع ثوري لا زال مستمراً، لكن قدرة الرأسمالية على أن تلتقط أنفاسها، وتدخّل الرأسماليات الجديدة (روسيا والصين) مستغّلة الأمر لكي تفرض سيطرتها، أغرق المنطقة بالدم، بعد أن أغرقها بالسواد (الإرهاب "الجهادي"). وكان واضحاً أنه بدون السحق وارتكاب المجازر ليس من إمكانية لوقف الثورات، التي سمحت أزمة الرأسمالية بأن تمتد إلى إسبانيا واليونان، ووول ستريت، وأن تصبح أيقونة العالم.

لكن ما جرى ربما يكون بروفة، وهو بالفعل كذلك، إذا فهمنا عمق أزمة الرأسمالية، وميلها لنهب العالم، الذي بات سمة لا إمكانية لتجاوزها بعد أن أصبح المال هو المهيمن. فالرأسمالية عادت تدفع عمال العالم ومفقريه إلى الثورة، مضطرة لأن الطغم المالية لم تعد تستطيع تحقيق التراكم "العادي" وغرقت في نهب فظيع لشعوب العالم. لهذا يمكن القول بأننا إزاء تفاقم الصراع الطبقي العالمي، وعودة عصر الثورات، والافتكاك من سيطرة الإمبريالية. فالرأسمالية ليس أمامها سوى النهب السريع وهي تركض خلف التراكم الأعلى، ومن ثم ليس أمام الشعوب سوى الثورة وهي تُسحق وتغرق في البطالة والفقر الشديد، والتهميش.

الفارق بين البدايتين يتمثّل في أنه في بداية القرن العشرين كان هناك حزب ذو رؤية واضحة، يعرف ما يريد، وكان هناك قائد استطاع "أن يمسك التاريخ من قرنيه"، أن يبلور الرؤية والإستراتيجية ويحدّد التكتيك، ويبني القوة القادرة على توجيه العمال والفلاحين الفقراء، ويفرض اللحظة التي يقول فيها: الآن، ليس الأمس ولا غداً. حينها كانت الماركسية صاعدة، رغم كل التشوهات التي أحدثها "زعماء الأممية الثانية"، وكان ما تطرحه يمثّل بديلاً حقيقياً: تجاوز الرأسمالية التي تنهب وتشنّ الحروب، وتتصارع من أجل نهب العالم. بالتالي "كان هناك بديل"، وقادة يصنعونه بالفعل. ومع الأسف أن ما نتج عن ثورة أكتوبر من سلطة، أخضعت الماركسية لمصالحها، وأعادت صياغتها بما يطابق تكتيك الدولة السوفيتية، كان يجعل البديل الماركسي في مأزق، وأن يبدأ في التلاشي بعد أن بات دور الشيوعيين هو مساعدة البرجوازية، وليس قيادة الثورة واستلام السلطة لتحقيق التطور الضروري، الذي باتت البرجوازية غير معنية به. لقد تلاشى الحلم الاشتراكي كبديل في أوروبا الرأسمالية، وتلاشي كذلك في الأطراف حيث الماركسية الرائجة لا تطرحه، وأصلاً هي تلاشت كأحزاب.

لا نستطيع أن نقول أن الوضع الثوري الآن مشابه لثورات سنة 1848 في أوروبا، لكنها ليست في وضعية ثورة أكتوبر، بالضبط لأنها بلا حزب (كما كان الوضع في ثورات سنة 1848). ربما هي مشابهة لثورة سنة 1905 الروسية؟ ربما هذا ما يتبادر إلى الذهن نتيجة عدم وجود الأحزاب القادرة على قيادة التغيير. هو وضع جديد بكل تأكيد، حيث لا أفق، ولا حزب، والأحزاب القائمة هي جزء من الماضي، متكلسة وتعيش في منظومة أوهام، وتسير نحو التلاشي لأنها لا تستوعب أجيالاً جديدة، بالضبط لأنها باتت خارج البنى الطبقية، وخارج الصراع الطبقي.

العالم يعيش بلا بديل، هذه أزمة "الماركسية السوفيتية" التي هيمنت على مجمل الماركسيات، ومنعت التفكير والنقد والتحليل، وقولبت الماركسية بما يتماشى مع ما هو قائم. لهذا لم تكن تفكّر في تغييره، رغم أن هدف الماركسية هو تغييره (الأطروحة الحادية عشرة من موضوعات حول فورباخ).

من "يمسك التاريخ من قرنية" الآن؟ هذا هو السؤال الجوهري، وهو المهمة التي لا بد من إنجازها والصراع الطبقي يتفاقم، والرأسمالية تتعفّن، حيث يجب أن "ينجب" الصراع الطبقي مطابقه السياسي، وأن يُنتج منظور العمال والفلاحين الفقراء، وبديلهم. ثورة أكتوبر تطرح علينا هذه المهمة لكي ننجز ثورات جديدة. ولا شك في أن تفاقم الصراع الطبقي، وبدء الثورات، يفرض أن ينشأ الوعي المطابق، وأن يصبح البحث عن البديل همٌ مستمر، وأن يميل العمال والفلاحون الفقراء إلى التنظّم، فليس من خيار غير ذلك.

ببساطة، لقد انفتح أفق الصراع الطبقي العالمي وعلينا أن نوصله إلى نهاياته الحقيقية: الاستيلاء على السلطة وفرض البديل الذي يتجاوز الرأسمالية.