الفنان والشاعر السوري دلدار فلمز: اللون واللغة وجهاً لوجه  

2017-11-22 15:00:00

الفنان والشاعر السوري دلدار فلمز: اللون واللغة وجهاً لوجه  
دلدار فلمز.. الشاعر والمرأة

يؤسس صاحب «امرأة بمظلة رجل بقبعة» مخيلة متجانسة، عناصرها الحكاية والسرد الشعريين، مخيلة دلالية معجمية يأخذ بالقارئ إلى فضاءات تتوهج على متواليات القول الشعري وتنطفئ في اللحظة ذاتها عندما يضل الشاعر فانوسه  يرتطم في العمق ويمكث فيه، وهي حتماً مخيلة مجبولة من قلب التجربة الإنسانية المعاشة، والتفاصيل الحميمية التي ينتمي إليها الشاعر كمعادل رمزي لمفردات أخرى وسلوكيات شعرية تريد ترميم صدع اللغة وإعادة الحياة إلى نصابها.

 
هناك قصور معرفي وجمالي حول علاقة الشعر باللوحة، والتشكيل بالصورة واللون بالمفردة، فالقارئ والمشاهد يريان أن بإمكان الشاعر أن يرسم لوحة فنية طالما لديه تلك المخيلة المبدعة ويمتلك الأدوات التعبيرية المناسبة التي يمكن أن يبني بها اللوحة، وأن بإمكان الفنان التشكيلي المبدع الوصول إلى غايته التعبيرية عبر الكتابة الشعرية دون عوائق وحواجز، لكن في أعمال الفنان والشاعر دلدار فلمز، حاولنا أن نجد تلك العلاقة الحميمية بين شعره ولوحاته وذلك عبر مشاهدة بصرية مكثفة والرؤية التشكيلية النقدية ومقاربة الجمالي مع التخييلي فوجدنا أن لا علاقة لنصوصه الشعرية التي نحن بصددها هنا بما في اللوحة من ”المساحات اللونية، الشكل وأفكار الشكل، المواضيع واختزالاته، شكل الشخصيات المفترضة، الألوان بكل غطرستها“، ولهذه المسميات بما في النص الشعري من ”اللغة و علاقاتها الجمالية، البناء الهرمي لقصيدة النثر، التواترات الصوتية و الصورية للكلمة، العلاقة بين السرد الشعري والسرد النثري والدهشة المفروضة وإيحاءاتها الدلالية والحسية“.

إن من ”يقرأ“ لوحة دلدار لن يجد دلدار الشاعر، بل يجد فناناً مبدعاً يقوم بدور معلم النجارة في جزّ الألوان وبعثرتها هنا وهناك، بعثرة تكاد تكون فوضوية في سطحها وفلسفية في عمقها، فاللون الأحمر مثلا نُشر بمنشار وليس بفرشاة وجُرد من احمراره، واللون الأخضر من اخضراره وحتى اللون الأبيض لم يسلم من منشاره فُجرد من بياضه، وكأن مهمة الفنان هي الدفع بكل ما يملك من الألوان في الزوايا والبقع ”اللالونية“ وخلق ثغرات بين الأجساد الوهمية التي تظهر فجأة في تلك البقع لتخلف ضوضاء وزحمة بين الألوان نفسها. تلك الشخصيات ليست لها شخصية وإن بدت للجميع أنها من روح و دم. شخصيات لا تتكلم إلا من جسدها ولا تتحرك إلا من تفاصيل الجسد المموهة إلى درجة التماهي والضياع. دلدار لا يحب عجقة الألوان والشخصيات والصور، ومع ذلك فهو يبعثرها ضمن مساحات هي أشبه بلون واحد هو الرمادي، فلو نظرت إلى اللوحة من بعد خمس أمتار لن ترى إلا اللون الرمادي، وإن اقتربت من اللوحة على مقربة سنتمترات فسترى جميع الألوان إلا اللون الرمادي وتلك هي خاصة الفن الحقيقي.

دلدار فنان ممتع بمواضيعه ”الخرافية“ التي لا تشبه أبداً شعره فهو رقيق وموجع إلى درجة اليأس وسيكون فتحاً جديداً لتجربته التشكيلية التي تتجه يوماً بعد آخر نحو التطور والتمايز، ولعلّ هذه التجربة ستكون فرصة مشجعة كي يتشخصن وهمُ الشاعر مع حقيقة الفنان و يصير له وجهاً واحداً، قصيدةً ولوناً، وما بين يدينا الآن كتابه التشكيلي الشعري «امرأة بمظلة وشاعر بقبعة» الصادر مؤخراً عن  ”الرائدية“ السعودية، وهو كتابه الشعري الثاني بعد أن أصدر ألبومه الشعري الأول «عاش باكراً»، 2009.

ما يهم هنا وما نحن بصدده هو تجربته الشعرية منذ انطلاقته والتناقضات المثيرة في البنية التركيبية بين الإصدارين والأفكار التي يطرحها عبر اللون والكلمة التي تجعلنا نعيد التفكير في النزاع الأبدي بين روحانية الشعر وعقلانية التشكيل وإن للشعر معنى واحد، يظل يجمع الألم الإنساني في صورة وتوقنا للحب في كلمة، كأن من مهمات الشعر وجوهره هي احتواء تناقضات الجمال وتكثيفها ضمن لحظات تشبه لحظة تحول الإنسان في تقلباته ورغباته: ”مسكون أنا بطيفك / كنت نبتة يابسة في صحراء أو حبة رمل / كم أنتظرتك بين حبات المطر الناعمة / بين نسمات الريح التي تهب عليّ / لكن كان ذلك واكتشفت كم كنت غافلاً / غافلاً لأني ما كنت أدري أنك تسكنين شمس الصحراء الطاهرة / وأن جميع النباتات ليست سوى أنفاسك / والقمر سوى مرآة ابتسامتك / ونجوم كلماتك المتناثرة في السماء“.

بحث نص «الريح الزرقاء» عن الحب في كل حالاته كموضوع، و هو ما افتتح به الكتاب وأغلقه موزعاً الأفكار واللوحات والصور البادية كالمرايا لنافذة واحدة تشرف على حياة بسيطة وممددة على طول وعرض القصيدة، فلمز لا يفصح كثيراً عن جوهر نصوصه ولا يعلن عن نيتها، لتبدو كأنها نصوص صامتة ساكتة، بعيدة عن المعرفة وثقلها، بل ما يشوه هذه النصوص هي المعرفة والأفكار العظيمة والعناوين الجدالية، نصوص قابعة في داخلها، تطارد معناها وتلحق بسياقاتها المدهشة الرتيبة، لا تسأل كثيراً، فالأجوبة متناثرة ومرمية، يتعثر بها القارئ أيما مكان: ”الورقة  البيضاء على الطاولة / المتروكة بعناية بجانب المزهرية / لا تخص أحداً / وكذلك لا تخصني / ولكن ربما تخص الرياح القادمة مع فستانها / أو الطيور الصادرة عن زغب بطنها أو ربما تخص بستان الورد في شعرها الاسود الطويل / حتى وجع واضح في عين الشمس“.

تشيد عوالمها الشعرية من البلاغة البسيطة جداً، البلاغة التي تعيد للصورة تشكيلها وبريقها ودهشتها، هذه البلاغة التي تبني على الذاكرة والتأمل ومناجاة الأنثى، ويقظة الأنا، والتي تصاحب القارئ في تجلياته وإرهاصاته وهواجسه، عوالم دلدار متنوعة ومحيرة، تفصيلية إلى أبعد احتمال ومتناثرة ألى درجة الفوضى الذهنية، حينما يتعلق الأمر في فضح المعنى على آخره، وفضح المفردة وتشخيصها دون مراعاة التغييرات التي يمكن أن تحال إليها، باعتبار أن اللغة هنا على قدر بساطتها فهي رهينة الدلالات، لا تستطيع الفكاك منها و التخلص من عبوديتها: “وفي وردة الصيف الطويل / كنت شاهدة قبر روحي / نسيت أم تناسيت / ما طاف مني من اللذة والحنان / 
لا بأس يا اخضراري / هل نسيت أيضاً / ما وضعته أناملي / من تواصل فوق زغب نهديكِ / وكل قبلة من شفتيكِ / كانت أسراباً من حجل / تحط على كهوف صدري / أراهن بأعشاب البياض / التي سقطت من مناقير / الطيور على جسدينا / أنك ما زلت وحيدة مثلي / تذوبين كأوراق سرخس
في فلتات الأوزون“

يؤسس صاحب «امرأة بمظلة رجل بقبعة» مخيلة متجانسة، عناصرها الحكاية والسرد الشعريين، مخيلة دلالية معجمية يأخذ بالقارئ إلى فضاءات تتوهج على متواليات القول الشعري وتنطفئ في اللحظة ذاتها عندما يضل الشاعر فانوسه  يرتطم في العمق ويمكث فيه، وهي حتماً مخيلة مجبولة من قلب التجربة الإنسانية المعاشة، والتفاصيل الحميمية التي ينتمي إليها الشاعر كمعادل رمزي لمفردات أخرى وسلوكيات شعرية تريد ترميم صدع اللغة وإعادة الحياة إلى نصابها.