عن تجربة عيسى ديبي الحالية

2017-12-01 19:00:00

عن تجربة عيسى ديبي الحالية
من المعرض

وفي الحقيقة، على المهتمّ بفن عيسى ديبي الحَذَر، كما أفعل هنا، من مفردات ”الجَمَال“ و“الجماليات“ وربطها بـ“المنفى“ كما فعل معرض الفنان ذات مرة، في زيوريخ السويسرية عام 2016، حيث منحه عنوان ”جماليات المنفى“. صحيح أن هناك محاولة شجاعة لربط المصير الشخصيّ للفنان بصفته منفياً جوّالاً، بالشأن العام، السياسيّ خاصة، لكن الصحيح أن رؤية تستوجب استجلاب جماليات ما، تتطلب استرخاء لا يوفره تجوال المنافي ويتضاد معها.

مقدمة شاكر لعيبي للكتيّب المرفق بالمعرض


هاجس عيسى ديبي، منذ وقت طويل، يتعلق بالسؤال عن سر الحميمية التي تربط كائناً ببلدٍ ما. حميمية تكاد تكون علاقة متداخلة، في آنٍ واحدٍ، عاطفية وحسيّة وحدسية وكونية. في مجمل مشروع ديبي التشكيليّ المتشابك، يقيم الفنان عند هاجس علاقة لا تقلّ تشابُكاً: علاقته بأمّه. هل الوطن”أمّ“ بمعنى حاسة المشيمة والشمّ الحاسمة، وليس بالمعنى الاستعاري؟ وإذا ما اختار ديبي لأحد معارضه عنوان «أرض الأمهات»، فلأن ثمة بعد ذاتيّ وآخر مشترك في علاقة جميع الكائنات البشرية ببلدانها. الراحلة والدة عيسى ديبي التي نشر صورتها مراراً أو أطلع أصدقاءه عليها هي تلخيص مكثف لهذه ”الأرض“ المشيمية، الأولى، الحقيقة جداً بقدر ما هي مجازية جداً، مثلما كلّ أم أخرى في هذه الأرض.

لكنها علاقة التصاق غريزيّ، ذات بعد فضائيّ، مُعرّض بدوره للانفصال والاتصال، ومرتبط بالمشاعر الغامضة والذكريات الملتبسة. ألا تمسّ التحويرات التي يجريها، مباشرة، التدخّل الكولونياليّ على الفضاء هذه العلاقة الحميمة؟ يبدو المنفى، في هذا السياق، اقتلاعاً مضاعفاً، إلى ما لا نهاية أحياناً، لكنه يبدو، بطريقة مُفارِقة، وكأنه إعادة غرس مستمرة. في جميع محاولات الفن التشكيليّ الفلسطينيّ، ثمة جدل الاقتلاع والانغراس، فالانغراس والاقتلاع. وهي محاولات يسعى ديبي إلى وَصْلها باللحظة التجريبية القلقة التي وصل إليها الفن التشكيلي العالميّ المعاصر، عبر تقنياته المتنوعة: ”الأنستليشن" والنصّ المرئيّ وكل ما يوفره عالم الديجتيل.

أي دور تلعبه الصورة في تأسيس ذاكرة نقدية، في سياق هذا الهمّ؟ وأية صورة يا تُرى؟ هل يتعلق الأمر بــ ”جداريات معاصرة“ أقلّ ثرثرة، دون الأيديولوجيات التي كانت تُثْقل جداريات الماضي، جداريات ذات صوت تأمليّ خافت؟ الصور الفوتوغرافية ”الديجتيل“ التي يعرضها الفنان، تكاد تكون ”نيغاتيف“ للواقع. وفي ذلك، هذه المرة، دلالة مجازية لا تخفى: هنا صورة الفضاء الحميم، المكان الأول، وطن الأمّ، وقد استحال سالباً. يروق لنا التذكير بالدلالة الأصلية لمفردة ”نيغاتيف“ (négative) المستخدمة في التصوير الفوتوغرافيّ، لأنها تضيء أعظم إضاءة عمل عيسى ديبي الراهن.

تدل مفردة نيغاتيف بالأصل على النفي (بما في ذلك النفي في قواعد اللغة) والرفض مقابل الإيجاب والقبول. السلبيّ مقابل الإيجابيّ. إنها إنكار وحظر. في حالة ديبي، طريقة استخدام الصورة بصفتها نيغاتيفاً، تحيل الموضوع كله إلى حقل ”النفي“ و“الإنكار“ و“الحظر“. وهي ثلاثة عناصر ما زالت تشكل جوهر الدراما في هذه المنطقة من العالم. ولنعد إلى اللغة التي تضيء مشروع ديبي عن ”المنفى بصفته عملاً شاقّاً“، لأن ديبي، مستنداً ربما إلى بعض أسس الفن المفاهيمي (conceptual art) يستخدم الكتابة والنص المكتوب المرئيّ بصفته هو نفسه صورةً: فالنفي بمعناه الواقعي ضدّ الإقامة، وهو الطرد وعدم الاستقرار، ومجازياً هو الجحد والتبرؤ. أما الإنكار فهو ضدّ التعريف، والنكرة ليست معرفة، وتنكير الهوية ليس إثباتها، والمنكر خلاف المعروف، وإنكار الأمر هو الجهل أو زعم الجهل به. أما الحظر فهو الحَجْرُ، وهو خلاف الإِباحَةِ. والمَحْظُورُ هو المُحَرّمُ والممنوع. ماذا بقي لكي نَصِفَ الواقع، المنفى الذي يتقدّم إلينا في هذا المعرض بهيئة "نيغاتيف" وليس صورة واضحة في الأقلّ.

إن مشكلة ”تمثيل representation الوطن" في شرط كالشرط الذي يشتغل به ديبي، تقدّم معضلة أخرى، في آن واحد، تشكيلية ودلالية. ليست الذاكرة إلا عنصراً واحداً من عناصر المشكلة، وهي تخلط المتخيّل بالواقعيّ، والذاتيّ بالحقيقي، والحلميّ بالكابوسي، والوطنيّ بالكولونيالي، والإقامة بالترحال، والحرب بالسلم. ثم إنه تمثيل عليه الإمساك بالممحو، بالمطموس، بالمخرّب، باستعادة مستحيلة للمكان المستباح والمنظر المهجور أو المشهد المحتل. في حالة فلسطين فإن المنظر الطبيعيّ لا يغدو بَعْدُ موضوعاً للاستراحة والتأمّل والاسترخاء إنما موضعاً للدراما. ليُقدّم بالتالي لتاريخ الفن نوعاً فنياً جديداً، إذا لم نكن نلقي الكلام على عواهنه، هو "المنظر الطبيعيّ المحتلّ" الذي لعل ترجمته الإنكليزية (occupied landscape) ترفعه إلى شأنه الموضوعيّ البارد أكثر من الشحنة العاطفية في التعبير العربيّ. المفارقة ضاربة في جوهر التعبير الذي نقترحه، فالمنظر الطبيعي الذي هو صورة تُمثّل رؤية العين لمشهد داخليّ من الطبيعة، وفنّ تمثيل هذا المشهد، لم يعد يمتلك الدلالة نفسها بعد تشويهه والتدخّل عليه وتغيير ملامحه وتزويره. "المنظر الطبيعيّ المحتلّ" إذنْ يُعارض ”وطن الأمهات“، يسائله، ويجعله يتلفع بمسحة من الرماد.

هذا الخطاب عن ”الوطن“ له علاقة بالهويّة العميقة وليس ”الوطنية“ الشائعة. ومن باب محض تشكيلي يرتفع هذا الخطاب إلى مستوى التنقيب وإعادة موضعة الفن ضمن علاقة مغايرة بالمؤسسة الثابتة، وببنيالات الفن التشكيلي. المؤسسة أولاً ترغب بفن متأسّس، معروف، مقبول ويُلبي وظائفها المباشرة، نافياً الوظائف المُرْبِكة للفن إذا لم يكن مُستخفاً بها. إن خطاباً تشكيلياً معاصراً عن الوطن كالذي يحاوله ديبي، لا يتفاهم مع الخطاب التشكيلي التقليدي، خاصة في بلدان ذات قضايا ملحة، وأرض تُشنّ الحرب عليها بشكل متواصل بالأدوات جميعاً. خطاب مفاهيمي يتعارض مع الخطاب ذي البعد الواحد والوظيفي، مُنتهي الصلوحية حال انتهاء المناسبة. 

وبمنظور أعرض تتطابق بعض الشيء، وفي بعض الأبعاد، المؤسسة مع البينالي الفنيّ الذي يصير رويدا رويداً قريباً للظاهرة المُتأسّسة. فالبيناليات هي "مؤسسات" قائمة على قواعد راسخة وثوابت أيضاً، توحي أنها ليست بثوابت قط طالما تعلق الأمر بفن معاصر مطلق الحرية ومنفتح التعبير. تقوم البيناليات، كقاعدة، على أساس ”انتقائيّ“ صارم لمن يُمثّل البلدان، وغالبيتها على أساس انتقاء الأعمال ”التجريبية“ في المقام الأوحد. وإذا أضفنا إلى ذلك أن خبراء بعض هذه البيناليات يتمسكون بدوغما ثابتة عن الفن المعاصر، يعني دون موقف نقديّ، وإن رأس المال هو المتحكم (كما يتحكم بغاليرهات ومتاحف الفن المعاصر في العالم) فإن الظاهرة تتعقد كثيراً. مؤسسة معاصرة مهمومة بالفن المعاصر لا ينفي عنها طابعها المؤسساتي أن خطاب عيسى ديبي يذهب، مُداوَرة، إلى تقليب ذلك كله، مفيداً منه بالطبع، مستخدماً على سبيل المثال ”الفيديو آرت“، من أجل أعادة إنتاج ”خطاب“ تاريخيّ يضرب بجذوره في ذاكرة الفنان الحيفاوية، مستعيداً سيرة ومسيرة المناضل والشاعر داود تركي، اليساري والمناضل والناشر الأول لمحمود درويش. لكنه يعيد إنتاج الخطاب في أفق آخر، ومتطلبات أخرى وجمهور مغاير. وفي هذا الفيديو نعود قليلاً إلى ”النص؛ و“الذاكرة“ عبر عدد قليل من المؤدّين، وبشروط الحدّ الأدنى، لنبني ”جماليات محايثة“ عن الموضوع الأثير على قلب الفنان.

وفي الحقيقة، على المهتمّ بفن عيسى ديبي الحَذَر، كما أفعل هنا، من مفردات ”الجَمَال“ و“الجماليات“ وربطها بـ“المنفى“ كما فعل معرض الفنان ذات مرة، في زيوريخ السويسرية عام 2016، حيث منحه عنوان ”جماليات المنفى“. صحيح أن هناك محاولة شجاعة لربط المصير الشخصيّ للفنان بصفته منفياً جوّالاً، بالشأن العام، السياسيّ خاصة، لكن الصحيح أن رؤية تستوجب استجلاب جماليات ما، تتطلب استرخاء لا يوفره تجوال المنافي ويتضاد معها.

إعادة صياغة المنفى، هو اشتغال ديبي العميق ربما، لكي يمكن الاستمرار في المعترك الفكري والسياسيّ والجمالي. وهو ما نراه. لماذا يعود ديبي إلى بريخت؟ هل لأن المسرحيّ والشاعر الألمانيّ، فنان، يساري؟ أم لسبب آخر؟ نستبعد اليسارية هنا خاصةً. ونرى في جداريات ديبي الفوتوغرافية الحالية علاقة مُضْمرة بين مبدأ ”تغريب“ مسرح بريخت الملحميّ وذاك النيغاتيف التغريبيّ الموصوف أعلاه: ازدواجية المشهد الفوتوغرافيّ (السالب يُخفي الموجب) مثل ازدواجية الشخصية المسرحية البريختية الموضوعة أمام المتلقي، وذلك من أجل أعادة تأمله بدرجات تناقضاته الكروماتيكية (اللونية) كلها، وبالتالي من أجل وضع الأمور في نصابٍ معين. هنا يمارس المُشاهِد النقدَ للمنظر المرئيّ.

ما الذي يفعله المنفى جوهرياً؟ إنه يُسْقط الأيديولوجيات، الجامدة خاصةً منها. لكن "الأوتوبيا" تبدو ضرورة للمستقبل، فبإمكانها جعل بلد محتل كفلسطين "يوتويبا المستقبل" المحلوم به: تأبيدها بشكلٍ ما ودمْجها في حلم البشرية الأقصى. لا يكفّ عيسى ديبي عن تذكيرنا أن المشي في أرض الأمّهات هو مسير شاق من أجل الحلم، كما أنه يُذكّرنا بأنه مُهتم بطريقةِ تَشَكّلِ هذه الأيديولوجيا. وهنا يجد مُفارَقة بين وعي "اليمين" وقدرته الضعيفة على التخيّل، خلافاً "لليسار" الذي يستطيع، في أقسى الظروف أن يحلم ويتخيّل ويقيم "أوتوبياه"، حتى أن بعض مرجعيات هذه القدرة اليسارية التخيّلية يجدها عيسى في مغامرات اليسار المتطرّف الأوربيّ، كـ "بادرماينهوف" مثلاً المأخوذ دليلاً على المشقّة والتخيّل والعمل الأصعب، وعلى أنه حفر في الموت والمستحيل.

"المنفى عمل شاق"، يقول ديبي، فهو كالحياة التي هي مهنة شاقة. المنفى ليس ذا بُعْد واحد. وأن الفنان ينظر له، بصفته فكرةً ومهنةَ ومُهمّةً للمرئيّ وللذهن كليهما، ثلاثيّ الأبعاد (3D). وبهذه الثلاثية المُلازمة له، للمنفى، لا يمكن لمفهومات البلاستيكيّ أن تتقلص إلى أنين أو رثاء على المستوى المفهوميّ، أو إلى تذكارٍ للمكان ونوستالجيا له على المستوى التشكيليّ الخالص. هكذا تتداخل مشكلات الفكر والفن والسياسة والعذاب الجمعيّ كما الشخصيّ، لتتمظهر في بنية جماليّة عصيّة على التلخيص. وهنا تُطرح، مباشرة، إشكاليات ”الفن المفهوميّ“ الذي يمنح الفكرة الأولوية والأفضلية على التنفيذ العمليّ لها، وهو أمر استدعي دائماً التأمّل العميق، وعدم القبول في بعض الأحيان. فالفن بنية مرئية وليس فكرة تجريدية، رغم الاندغام الكيميائي غالباً بينهما. لذا فللمرئيّ الحصة الأوفر في معرض عيسى ديبي الراهن، وهو يُضْمر إمكانيات المفاهيم على التجلّي للبصر والبصيرة.

يبقى أن نقول إن فناً مفهومياً بالمعنى الذي نستطرد به هنا، وبالمعنى الذي قد يكون ديبي يَنطلق منه، يتصادم بشدة، مع مفهومات ”الفن الجميل“ المشحون بالرسائل الجاهزة، المُغْوِي للعين، المألوف في ثقافاتنا المحلية، وهذه فضيلة أخرى من فضائل هذا المعرض: إنه يستدعى التأمّل والحوار وليس المرور سريعاً. 

تأمّلُ الفن يعيد بناء العالم في ذهن المتلقي.