قهوة صباحية مع الرفيق ستالين

2017-12-12 09:00:00

قهوة صباحية مع الرفيق ستالين
Stalin’s monument was torn down on October 23, 1956, by enraged anti-Soviet crowds during Hungary’s October Revolution.

تلبيسي مدينة محببة بسيطة، إن فتحت لها قلبك؛ معقّدة، إن أعملت فكرك في ماضيها وحاضرها ومستقبلها. قلب العاصمة خليط من الشرق والغرب: أبنية تاريخية ساحرة، تشبه أبنية العواصم الأوربية بحجمها وفخامتها وتسلّطها؛ تجاورها المدينة القديمة، التي تشبه مدننا الضئيلة الضالة الحزينة؛ يحيط بها ضواح حزينة تتفجر أسى لا يكبحه حتى نظرة ستالين المرعبة.

أشرب القهوة مع الرفيق ستالين، أمام نافذة تطل على شارع خال: صورة الرفيق بشاربه الكث ونظرته الحازمة الجدية ترسم على وجهي ابتسامة مشفقة على البروباغندا وأهدافها ونواياها. شاحنتان لجمع القمامة: إحداهما مخصصة للقمامة التي يُعاد تدويرها؛ ينزل الرجال منهما بهمة ونشاط؛ يتعثر أحدهم، ليتلقفه صديقه سريعاً. بصفتي تقدّمياً نسوياً يسارياً ثورياً، أواظب على فصل أنواع القمامة المختلفة بدقة موسوسة مهووسة، كأنني سأنقذ الكوكب وحدي. أنا، وقمامتي، وظلمة الفجر، ننتظر ما قد لا يأتي: شمس الشمال البارد. صفحة الوورد على الحاسوب ممتلئة بملاحظات لمقال طويل لا يبدو أنني سأنجزه قريباً، عن مفهوم الحقيقة والأفعال الكلامية. رسائل كثيرة على الإيميل لا أفتحها: تتراكم فوق بعضها، في مكان لا مادي، كالروح الديكارتية، دالة على كسلي، وقلة تفاعلي الاجتماعي، وإحباطي، وخوفي المتعاظم من التكنولوجيا التي تقتحم حياتي الشخصية الفقيرة المنعزلة في كوبنهاغن المعتمة.
 
وأنا بالطبع، لم أخطط لتناول القهوة مع الرفيق القائد جوزيف ستالين كل صباح؛ على العكس، أحاول قدر الإمكان الابتعاد عن القادة والعسكر والسياسيين والمتنفّذين والرفاق المثقفين الملاعين اللذين يشبهونني جدّاً؛ ولكنّ الأقدار جمعتنا: لم أستطع مقاومة الفناجين المندهشة، القابعة بحزن، مع وجه ستالين الفذ، يعلوه الغبار، في تبليسي عاصمة جورجيا، التي ينتمي إليها الرفيق. كان وجه الرفيق ضائعاً ضمن المنتوجات السياحية التي تتوزع بين قبعات شتوية صوفية وأوان فخارية وحلوى محلية وأيقونات رخيصة الثمن وإكسسوارات نسائية متنوّعة، بالإضافة إلى عرانيس مسلوقة وبيرة بادرة وبيبسي وبيبسي زيرو: يعلوه الغبار، غبار تاريخ يبيعه الفقراء لسيّاح يملؤون المكان بجلبة تشبه جلبة الجنود المنسحبين من معارك خاسرة: ملولين، مكسورين، مستعجلين، يريدون العودة إلى مدنهم وقراهم، لينسوا كل ما خبروه في تلك الأماكن المزدحمة.

احترت بين ثلاثة فناجين: الأول يصور وجه الرفيق مع خلفية للحرب العالمية الثانية، والثاني صورته في المكتبة، واقفاً يقرأ، أو، بالأحرى، يخترق ذهنه الكتاب وحدوده ليكتسح العالم بعمقه وفرادته، والثالث، صورة تقليدية على المكتب، ينظر ستالين مباشرة إلينا منها: في وجهه مسحة محبة وإنسانية. يخيفني الفنجان الثالث؛ ويثير مللي الثاني: بما أنني كاتب، وأعيش حياتي في المكتبة، ولها، لا أشعر بأي تعاطف مع أية صورة في أية مكتبة: كل ما أريده، وأهواه، وأسعى إليه، يقع خارج المكتبة. في النهاية، أشتري الفنجان الأول، فيما البائعة تأكل بطيخاً وتبتسم بسعادة لتخلصها من فنجان لا إقبال عليه.

لم أرَ الرفيق جوزيف في زيارتي القصيرة إلى جورجيا، قبل أن ألمحه هنا في الكشك الصغير على باب الكنيسة التائهة في الجبل: يختلط ماضي إحدى أقدم البلدان المسيحية في العالم، مع سياح من كل أقطار العالم، في كشك بائعة في منتصف العمر، على باب كنيسة لا تسمح للنساء بالدخول إلا إن احتشمن. أدخل الكنيسة، أقف أمام أيقونة ضخمة، حزينة، قاتمة الألوان؛ لا أصلّي، ولكنني أرقبها بخشوع.
 
أدعو الله شيئاً ما في سرّي، وأغادر.
 
تدخل أمامي سائحتان تضحكان بصخب، بملابس صيفية لا تستر الكثير.

زرت جورجيا لألتقي أهلي، في بلد ما زال يسمح لحاملي جوازات السفر السوريين، وللاجئين، بدخوله، دون فيزا: مما يعني فرصة لعشرات آلاف السوريين للقاء في أرض محايدة، أو تبدو محايدة: ملجأ أخير لبرجوازية سورية تتراجع قدرتها على الحركة باستمرار، فيما بقية السوريين مكبّلون تماماً بالأصفاد.
 
في المطار، عشرات السوريين ينتظرون تسجيلهم بشكل غير رسمي مع المخابرات: سوريون، وأيضاً هنود وباكستانيون وعراقيون، وجنسيات مختلفة من العالم الثالث. يقبض الشرطي على جواز سفري، ويقلّبه بسرعة، ثم يرميه فوق كومة جوازاتنا.

يقفز قلبي رعباً، وأنا أراقب الوثيقة تغرق بين الوثائق الأخرى، تافهة صغيرة وضيعة، وفيها مستقبلي وسبيلي الوحيد للعودة إلى الشمال البارد مع زوجتي وابني. أقف محبطاً أراقب السوريين: يتشابهون في كل المطارات: مكسورين، ذليلين، حاقدين، تائهين، خائفين من كل شيء: من الحكومات ومن شركات الطيران ومن السوريين الآخرين ومن موظفي الهجرة ومن الجو العام والخاص ومن الانتخابات التركية والأمريكية والفرنسية والنمساوية، ومن الاحتباس الحراري، ومن المتأسلمين والمتعلمنين والمتدينين والملحدين؛ خائفين خائبين كأنه يوم الحشر: كلمة من الموظف ستنهي كل أمل في لقاء أهل قد لا نلتقيهم مرة أخرى: ابتسامات ميتة، نصف منافقة، تتحوّل إلى شحوب فرح صادق تماماً مع ختم الدخول: أطفال يبكون، ورجال يبكون، ونساء يبكين: لقاءات قصيرة  مقنّعةُ غير مقنعةِ: أطفال يتعرّفون على أجدادهم وجداتهم وعماتهم وأخوالهم، وأمهات لا يعرفن هل سيلتقين أبناءهن مرة أخرى، وآباء وأبناء لا يكادون يتفقون على شيء، إلا الرغبة المشتركة بسترة لا تتوفر لنا، والجميع يجد الوقت الكافي في الأيام القليلة التي سيقضونها هنا لانتقاد بعضهم البعض بقسوة معتادة، لا مهرب منها.

تلبيسي مدينة محببة بسيطة، إن فتحت لها قلبك؛ معقّدة، إن أعملت فكرك في ماضيها وحاضرها ومستقبلها. قلب العاصمة خليط من الشرق والغرب: أبنية تاريخية ساحرة، تشبه أبنية العواصم الأوربية بحجمها وفخامتها وتسلّطها؛ تجاورها المدينة القديمة، التي تشبه مدننا الضئيلة الضالة الحزينة؛ يحيط بها ضواح حزينة تتفجر أسى لا يكبحه حتى نظرة ستالين المرعبة.

 باعة جوالون على أرصفة ممتلئة عن بكرة أبيها، الشارع الرئيس يمتلئ بالماركات العالمية: شعار ماكدونالدز يرتفع عالياً، على أحد أقدم وأجمل المباني، ليطل على ساحة فيها نافورة شرقية. طبيعة ساحرة عذراء تحيط بالعاصمة. صحف وإذاعات وتلفزيونات تلعن روسيا الاتحادية ليل نهار: احتل الأعداء أجزاء من البلد في حرب سريعة؛ إعلانات عن زيارات سياحية لمسقط رأس ستالين، مع رحلات في جبال ساحرة باهرة؛ ألحان شرقية من بزق حزين، وأيقونات صغيرة لقديسين لم يحموا البلد الصغير من مصائب لم تفارقه يوماً.


أجلس في مقهى فخم، أتبادل الإشارات مع النادلة، التي ترحّب بنا بصدق لا يوجد إلا في أماكن ساذجة كهذه، تلك التي لم تستعمرها الصناعة السياحية بعد. ليلاً، أجلس على باب البرلمان مع ابنة أخي، التي تحدثني بالإنكليزية عن طموحاتها ومخاوفها ومشاكلها. بائعة الأيقونات النادرة تحمل ابني الصغير، لتقبّله وتضمه: تهدينا زيتاً مقدساً، تقول إنه سيحميه من نوائب الدهر. أفكر في ستالين الصغير القابع في حقيبتي الصغيرة المهترئة: لماذا أجلبه إلى كوبنهاغن؟ ربما بسبب توتري الدائم من خلفيتي البرجوازية الممتزجة بسلاسة مع إيماني النظري اليساري الصارم العميق، ولكن المتزعزع عملياً: فوضوي أتى من الفلسفة إلى السياسة: لم أنتم يوماً لحزب أو حركة أو جماعة، ولا أفهم كثيراً في التاريخ السياسي: يشدني كروبوتكين إلى إيمان بأخوّة فطرية بين البشر، وبتنظيم ذاتي لا تفرضه السلطات من أعلى. ربما جلبت مع الرفيق القائد إلى كوبنهاغن ليؤنسني في وحدتي، وأحك وجهه، وأمسّد شاربه، وأداعب أنفه المرسوم بدقة، وليذكرني بفشل ذريع، فشل سابق على فشلنا العام الكبير العميق الحالي: وحده ستالين أنهى حلم اليساريين في عالم عادل: حلم اليساريين جمعياً، على تنوّعهم، وربما، إلى الأبد. ستالين السياحي في بلد فقير أنهكته حروب المافيا، بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، لينتعش الاقتصاد بعدها على يد الليبراليين، الذين ما لبثوا أن لوّثوا بلدهم بفساد فاحش: لا يثير ستالين أية مشاعر هنا، فقد مات الضحايا، ومات أولادهم، ومات ستالين، ومات خلفاؤه، وسقط الاتحاد السوفييتي، و"انقضت تلك السنون وأهلها، كأنها وكأنهم أحلام"، كما يقول أبو تمام، ولم يبق إلا غبار يملأ مقاه شبهَ فارغة، فقيرةً، مليئة بالحنان والحميمية، في العاصمة الحزينة الجميلة: يأكلون الفول المدمس، والمصقعة، والكباب، ويكرهون روسيا بعمق: أبناء عمنا، المسيحيون المتدينون، شاربو القهوة التركية بإدمان.

أحمل طفلي، وكتاب الصف الثالث في اللغة الدنماركية، مبتعداً عن النافذة. يرمقني الرفيق بنظرة ثاقبة، عالمة بما يدور في داخلي. أزيح الفنجان كي لا أرى عينيه. هل أخطأت بجلبه معي إلى منفاي في الشمال البارد؟ فحص اللغة الدنماركية بعد ساعات. أدندن مع عبد الوهاب "كل ده كان ليه"، وطفلي يتابعني بحذر. أفكر في السوري الكسول، ذلك الذي يتحجج بالحرب ليل نهار: كلما فشل، أو قصّر، يلوم الحرب التي تبعد آلاف الكيلومترات عنه. بعض الدنماركيين يرتبكون حين نتكلم الدنماركية: هل سوري بالدنماركي هي "سورا" أم ”سوريسك“؟

 ينقسم الدنماركيون أنفسهم، ونسكت نحن محرجين. "احترت أشوفه فين، وإن شفته أقله ايه؟" أغني بنشاز مزعج، لتختفي ابتسامة الطفل وهو يزداد حذراً: ما الذي أصاب هذا الرجل المشعر في السادسة صباحاً؟ أفكر بصديق استشهد تحت التعذيب، ثم أطرد الفكرة سريعاً من رأسي. انتحار امرأة في ريف إدلب، خبر عادي على الفيس بوك. صورة بالأبيض والأسود لبيلي هوليداي على الجدار. سورا، وليس سوريسك. ماشي.

تقول زوجتي إن علي أن أكوي قمصاني المتراكمة في غرفة الجلوس. ألبسهم دون كوي، مدعياً أنني كاتب مثقف لا أهتم بالشكليات. تعلّق بالدنماركية، بل أنت كسول. تعتقد زوجتي أنني لا أفهم لغتها، ولكنني أفهم كل شيء؛ أي والله، أنا أفهم كل ما يُقال، وكل ما لا يُقال؛ أفهم، وأراقب، وأصمت، منتظراً إشارة من الرفيق ستالين.
 
أقترب من رف الكتب، حيث تسقط أشعة الشمس الأولى لتنير غبارنا: غبار مرئي على الرف الذي يضم كتباً متنوّعةً لم أقراها بعد: مختارات شعرية لإدجار آلان بو ودراسات في الفلسفة اللغوية لجون سيرل ومراسلات ديكارت وأعمال نقدية لفوزي كريم والترجمة العربية لقصص هانس كريستيان أندرسن. كان دوري الأسبوع الماضي في تنظيف غرفة الجلوس: لم أقم بواجباتي المنزلية. غبار مرئي يعلو أوراق النبتة اليتيمة في عشنا الصغير، على ما يقول الرومانسيون الحالمون، ويعلو المصباح القديم والساعة الإلكترونية الرخيصة: غبار لا يزول عن الأشياء والكلمات، ولا عن الزمن، ولا عن الفنجان اللامع.

تشرق الشمس أخيراً، وأنا أشرب قهوتي الصباحية بفنجان رخيص من جورجيا، عليه صورة القائد الخالد جوزيف ستالين: هكذا، أجلب الضحايا، والسياح، والباعة الفقراء، والمنافقين الذين برّروا جرائمه، وأولئك الذين ارتكبوها، وستالين نفسه، إلى في الشمال البارد، لنشرب قهوتنا الصباحية معاً، ونتابع أخبار سوريا، حيث يتراكم الغبار، فوقنا، وتحتنا، وحولنا، وداخلنا، الغبار الذي يتسرّب من مسامات الجلد إلى أرواحنا التي أنهكها الانتظار، والعجز، والأمل الغامض المحسوس الصلب، الحزين، العميق، الذي يتجدّد كل صباح، كابتسامة البائعة التي نفضت الغبار عن وجه ستالين، سعيدةً بتخلّصها من فنجان لا إقبال عليه!