القدس في مدونة الشعر العربي المعاصر

2017-12-26 11:00:00

القدس في مدونة الشعر العربي المعاصر
نبيل عناني، بلدي العاصمة، عام 2014، أكريليك على قماش، 112 س 106 سم⁩

وجاءت قصيدة "القدس" لنزار قباني على غرار قصيدة "زهرة المدائن" للأخوين الرحباني من حيث اللغة الشعرية، والإحساس بالمكان، والبحث عن الخلاص، واللجوء إلى الرموز الدينية لتصوير المأساة، وقد برع الشاعر في نقل الأحاسيس والمشاعر، ووصف كل ماله علاقة بالقدس مكاناً له خصوصيته، تاريخياً ودينياً، وسياسياً، وحضارياً، 
يقول فيها: 

حظيت مدينة القدس بأكثر شعر المدائن قاطبة، نظراً إلى ما كانت عليه من قيمة تاريخية ومحورية في الحروب والصراعات في المنطقة، ومكانتها في الديانات السماوية، ولكنها لم تنل هذا الحيز منذ حطين إلا بعد نكبة 1948، ونكسة 1967، حيث اتجهت أفئدة الشعراء إليها، فجاء إنتاجهم غزيراً، من هنا لجأ الشعراء إلى الدين مصدراً هاماً وأساسياً في الشعر العربي المعاصر الذي كتب عن القدس، وشارك هؤلاء الشعراء المدينة محنتها منذ بداياتها مدركين مكانتها الحضارية، ووعيهم بأن نضالهم في سبيل تحريرها هو نضال من أجل تحرير الوطن العربي كله. 

من هنا كانت القدس محل اهتمام الكثير من الشعراء الذين رسموا صوراً لواقع المدينة، تبرز معاني القداسة والطهارة حيناً، وتبين معاني الحزن والألم التي تحياها القدس في ظل الاحتلال حيناً آخر، كما عرض الشعراء صوراً لمعاناة أهل القدس، وكانت بعض القصائد تعرض لنا تاريخ المدينة العريق وحاضرها المؤلم، لتكشف لنا عن عجز الواقع العربي الراهن، وتقصيره تجاه القدس التي تئن تحت وطأة الاحتلال، وحسبنا القول أن ما فاضت به قرائح الشعراء ليس في جوهره إلا روح الأمة وسِفر نضالها.

القدس في الشعر العربي المعاصر

ورد ذكر مدينة القدس في القرن التاسع عشر على استحياء، وفي قصائد محدودة لدى بعض الشعراء العرب ما يدعو إلى القول إن قضية القدس لم تشكل محور ارتكاز في الحقبة التي بعد الحروب الصليبية، وقد ظل الأمر على ذلك الحال إلى أن سقطت المدينة مجدداً في أيدي الغزاة الجدد في الحرب العالمية الأولى، فعندما دخل الجنرال اللنبي القدس عام 1917 في أثناء الحرب العالمية الأولى قال: "الآن انتهت الحروب الصليبية"، وقد ظل الحال على ما هو عليه إلى أن سقطت المدينة في أيدي الصهاينة عام 1948.

 ومنذ سقوط الشطر الشرقي لمدينة القدس عام 1967 لم يعرف العرب محنة أشد ضراوة من هذه المحنة التي أثارت مشاعر الأدباء والشعراء في مختلف بلاد العروبة والإسلام على مر الأيام، فخلفوا لنا تراثاً أدبياً ضخماً في أحداثه، يتسم في معظمه بصدق القول، وحرارة الأداء، وليس هذا غريباً لما تتميز به "زهرة المدائن" وأولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، ملتقى الأنبياء، وبوابة الأرض إلى السماء.

وفي هذه الفترة طالعتنا قصائد لعدد من الشعراء العرب، تصور الصراع الذي دار عن المدينة، فكان الشاعر المصري علي محمود طه، من الشعراء الذين تحدثوا عن القدس، فقال:
 

وكذلك نجد الشاعر السوري عمر أبو ريشة قد تحدث عن القدس في قصيدته التي تحمل عنوان "عروس المجد"، وهي قصيدة ألقيت في الحفلة التذكارية التي أقيمت في مدينة حلب ابتهاجاً بجلاء الفرنسيين عن سوريا، وتعرض فيها الشاعر لذكر القدس، إذ يقول:
 

 ثم يقول في موضع آخر من القصيدة ذاتها: 
 

ومضى الشعراء العرب يخاطبون المسلمين والمسيحيين، مثيرين فيهم المشاعر الدينية، مذكرين بمقدساتهم في القدس، وكثيراً ما كان يقرن ذكر المسيح بذكر الرسول، وكنيسة القيامة بالمسجد الأقصى، ودقات الأجراس بأصوات المؤذنين.

ويصور زاهر الألمعي الذل والهوان اللذين يخيمان على القدس ومقدساتها، والكون لا يسمع، ولا يرى، ولا يتكلم، فيرسل صرخة إلى كل من يهمه أمر القدس ومقدساتها، من الغيارى على الدين والحرمات، فيقول: 
 

ويتساءل بدوي الجبل: هل درتْ أمته العربية التي يرمز لها بعدن بما حل بمسجدها الأقصى، ومسرى البراق، وكنيسة المهد، ويكرر التساؤل باستحضار الشخصيات التاريخية التي لها علاقة بمعارك المسلمين والعرب الخالدة، يقول من قصيدة عنوانها "من وحي الهزيمة“:
 


وتهز القدس مشاعر الشاعر المصري علي محمود طه الذي ترك كرنكه وجندوله، وهبّ يدعو لنجدة القدس في قصيدته الشهيرة "أنشودة الجهاد في يوم فلسطين"، والتي يقول فيها: 
 

وفي إحدى قصائده يدعو الشاعر المهجري إيليا أبو ماضي نفسه وأمته إلى حمل هم التحرير، ويستحثها للعمل له من دون تمييز بين ديانات، ويخاطب فيها اليهود بقوله: 
 

وهناك قصائد كثيرة تناولت حدثاً ما في القدس، كالإسراء والمعراج، وذكرى المولد النبوي، وأعياد الميلاد المجيد، أو موقعة ما كحطين واليرموك وغير ذلك، وتعد قصيدة "زهرة المدائن" للأخوين عاصي ومنصور رحباني التي غنتها فيروز، وكان لها صدى كبير في الشارع العربي، من أكثر القصائد التي قيلت في القدس قرباً إلى الوجدان العربي، والتي جاء فيها:

لأجلكِ يا مدينةَ الصلاة أصلّي

لأجلكِ يا بهية المساكنْ، يا زهرةَ المدائنْ، يا قدسُ، يا قدسُ، يا قدسُ

يا مدينةَ الصلاة، أصلّي

عيونُنا إليكِ ترحلُ كلَّ يوم، تجـولُ في أروقـةِ المعابدْ

تعانقُ الكنائـسَ القديمـة، وتمسحُ الحزنَ عنِ المساجدْ

يا ليلةَ الإسراءْ
يا دربَ من مرُّوا إلى السَّماءْ

 
ويبدو أن قصيدة زهرة المدائن للأخوين الرحباني كانت رداً على سيرورة القصيدة العبرية المغناة: "أورشليم من ذهب" JERUSALEM of GOLD للشاعر اليهودي (نعومي شيمر)، وللنص علاقة بالديانة اليهودية والموروث اليهودي في التوراة وشعائر اليهود في الزواج، ورؤية اليهود للقدس، ومكانتها في نفوسهم، فهم يعنون بالقدس من ذهب: (تاج الزواج)، أي إكليل الزواج الذي يوضع على رأس العروس عند اليهود، وقد ربط الشاعر بين سور القدس إكليل الزواج المصنوع من الذهب على سبيل الاستعارة. 

وجاءت قصيدة "القدس" لنزار قباني على غرار قصيدة "زهرة المدائن" للأخوين الرحباني من حيث اللغة الشعرية، والإحساس بالمكان، والبحث عن الخلاص، واللجوء إلى الرموز الدينية لتصوير المأساة، وقد برع الشاعر في نقل الأحاسيس والمشاعر، ووصف كل ماله علاقة بالقدس مكاناً له خصوصيته، تاريخياً ودينياً، وسياسياً، وحضارياً، 
يقول فيها: 

بكيتُ حتّى انتهتِ الدموعْ

صلّيتُ حتّى ذابتِ الشموعْ

ركعتُ حتّى ملّني الركوعُ

سألتُ عن محمدٍ فيك، وعن يسوعْ

يا قدسُ، يا مدينةً تفوحُ أنبياءْ
يا أقصرَ الدروبِ بينَ الأرضِ والسماءْ

يا قدسُ يا مدينةَ الأحزانْ

يا دمعةً كبيرةً تجولُ في الأجفانْ

مَنْ يوقفُ العدوانْ

عليكِ يا لؤلؤةَ الأديانْ! يا قدسُ يا مدينتي

يا قدسُ يا حبيبتي


توظيف التراث ومعانقة المستقبل

نظر الشعراء إلى القدس بكونها المدينة الحلم والرمز، والمعادل الموضوعي والهوية كفكرة الوطن والدين، الذي يترامى بظلاله على كل شيء.

وقد وظف خليل حاوي التراث الأسطوري في شعره توظيفاً ناجحاً، دل على عمق الرؤية المستقبلية، والاستيعاب النقدي للماضي في عمل فني مكتمل، يتجاوز التعبير عما هو كائن إلى معانقة المستقبل، لقد حمل هم القدس صليباً، فكتب بعد هزيمة حزيران 1967 قصيدة "الأيام الحزينة" التي جاءت صورة لذهول حزين أمام واقع مرعب، استعار الشاعر عنوان قصيدته من التراث المسيحي، حيث كانت العذراء مريم أم المسيح رمزاً للقدس والطهارة هي الأم الحزينة، التي عانت آلام موت ابنها، وإذا كانت العذراء الحزينة قد شيعت مسيحاً واحداً، فإن القدس الحزينة شيعت ألف مسيح ومسيح، ماتوا في أجواء قاحلة ومظلمة، توحي بموت أبدي، لا يتلوه انبعاث بحسب قول الشاعر.

 ومن الملاحظ أن القصائد العربية التي عرضت لذكر القدس في هذه الحقبة قليلة، وأنها لم ترق إلى مستوى أهمية المدينة وقدسيتها، وفي هذا السياق يشير الباحث الفلسطيني الدكتور عاطف أبو حمادة إلى أن اهتمام الشعراء العرب المحدثين حتى نهاية النصف الأول من القرن العشرين بمدينة القدس لم يكن يوازي أهمية المدينة، فقلما نجد حضوراً لها في الشعر العربي، ليس بالقدر المطلوب، فهي ليست في أولوياتهم، ولعل ذلك راجع إلى تغلغل الفكر الشيوعي بين المثقفين العرب، ومنهم الشعراء، إذ أن المد اليساري أضعف الصبغة الدينية للمدينة المقدسة، ما جعل الشعراء العرب يعرضون لها من منطلق قومي في الأكثر الأعم، لكن الشاعر الفلسطيني أعاد التوازن إلى هذه المدينة، فركز على الوجهين الديني والقومي لها.

القدس في الشعر الفلسطيني

أما على صعيد الشعر الفلسطيني المعاصر فالأمر مختلف، إذ قلما نجد شاعراً لم يولِ اهتماماً للقدس، فالقدس لدى الشعراء الفلسطينيين رمز عزة وكرامة، وهي كذلك مركز الصراع العربي الصهيوني الذي يعد امتداداً للصراع التاريخي الذي شهدته المدينة على مر العصور. 

وقد حاول الكثير من الشعراء إضاءة المعنى الديني للقدس، ومنهم الشاعر الشهيد عبد الرحيم محمود يخاطب الأمير سعود منبهاً إلى الخطر الذي يحيط بالقدس ومسجدها الأقصى فيقول:
 

 ويقول شاعر فلسطين إبراهيم طوقان:
 

وهو ما يؤكده الشاعر أحمد دحبور في قوله: 

أنتِ مهدي، صخرتي

ميلادُ إسرائي

****

فإذا الليلُ تهادى

خرجَ الحارسُ منْ خاصِرةِ الصخرةِ

والتفَتَ على المهدِ ونادى

يايبوسُ

أورشليمُ

إيلياءُ

قدسَ الأقداس، قداسَ الضياءْ


وعند قراءتنا للشعر الفلسطيني الذي قيل في القدس نرصد إشارات كثيرة إلى قضايا اجتماعية جديدة كالاستيطان، والتمييز العنصري، والحصار، والهجرة، وهي من القضايا الاجتماعية التي برزت في السياق الاحتلالي للمدينة، وتأثر بها الشعراء، فبرزت في أشعارهم بوضوح، فها هو الشاعر أحمد فرح عقيلان يشير إلى العنصرية الصهيونية فيقول:
 

أما اغتراب الإنسان عن مدينته فيعبر عنه محمود درويش قائلاً:

أنا لا أنا في حضرةِ المعراجِ 
قلتُ قتلتْني . .. ونسيتُ مثلَك أنْ أموتْ
 
ويؤكد درويش هذا الشعور بالغربة عندما قال: 
 حنيني إليكِ . . اغترابٌ
ولُقياكِ . . مَنْفى !
 

فقد أصبحت القدس غريبة عن أهلها، فهم يحنون إليها، لأنهم يشعرون بالبعد عنها، وهم على ترابها، لأن كل شيء فيها أصبح غريباً بعد الاحتلال. 

ويمكن النظر إلى القدس على أنها أحد المراكز الهامة للحضارة البشرية، فهي مدينة موغلة في القدم، تعاقبت عليها حضارات وإمبراطوريات متعددة، أضف إلى ذلك أنها كانت مهبطاً للديانات السماوية. 

وهو ما شكل نسيجاً حضارياً متناغماً، طغى عليه الطابع العربي الإسلامي، وزركشته بألوانها الديانات والقوميات الأخرى، وهو ما أنتج حضارة مميزة، امتزج فيها الروحي بالمادي، والعلمي بالفلسفي، والشرقي بالغربي، من هنا فإن الحديث عن الوجه الحضاري إنما يؤكد الانتماء العربي الإسلامي لهذه المدينة، ويشير إلى التعايش الديني من جهة والصراع الوجودي السياسي من جهة أخرى، وهي قضايا كان لها حضور واضح في الشعر الفلسطيني المعاصر.

ويجسد الشاعر محمود درويش هذا التعايش بين الأديان المختلفة، فيقول:

 في القدسِ، أعني داخلَ السورِ القديمْ،
 أسيرُ من زمنٍ إلى زمنٍ بلا ذِكْرى
تُصوِّبني، فإن الأنبياءَ هنا يقْتسِمونْ
تاريخَ المقدسِ . .، يصْعدون إلى السماءْ
ويرجِعون أقلَّ إحباطاً وحزناً، فالمحبةُ،
والسلامُ مقدَّسانِ وقادمانِ إلى المدينةْ


ويزخر الشعر الفلسطيني عموماً بالإشارات الإنسانية التي تنفتح على قضايا الإنسان ومشكلاته وهموم أهل القدس وأحزانهم، وكذلك في تطلعاتهم نحو الحرية، فها هو الشاعر عبد اللطيف عقل يقول:

عاشقُ القدسِ ليس يحسِبُ يوماً

إنْ أتاها أقاتلاً أم قتيلاً؟

****

آخِ يا قدسُ أنهكتْكِ المواويلُ

وأودتْ بروحِكِ الأشعارُ

 
وربما يكون ذلك ما دفع الشاعرة سامية الخليلي إلى القول:

أتلو صلاةَ بعضِ العابرينَ إليها

المتسرِّبين دونَ تصريحِ زيارةْ
...
دونَ حُجّةِ العلاجِ

وختم تأشيرةِ المهاجرْ

يصلّي
على عتبةِ قنْصليةْ


ويبقى الشعار الذي رفعه إبراهيم طوقان في وقت مبكر شعاراً لكل فلسطيني يردد معه:

لنا البُراقُ والحرمُ لنا الحِمى، لنا العَلَمْ

أرواحُنا، أموالُنا فِدى البُراقِ والحَرَمْ