تأثيرات الظرف الموضوعي على القضية الفلسطينية (الخليج والممانعة)

2018-01-19 16:00:00

تأثيرات الظرف الموضوعي على القضية الفلسطينية (الخليج والممانعة)
Jerusalem’s Dome of the Rock viewed from the West Bank village of al-Eizariya, 20 August. Ahmad Al-Bazz ActiveStills

لكن وعلى الرغم من إدراكنا لمحاصرة وخنق المجتمع الدولي لحركات التحرر الوطني، إلا أنه لا يشكل مبرراً للاستسلام والخنوع، بقدر ما يستدعي منا إدراكه وتحليله كضرورة لرسم استراتيجية وطنية ونضالية قادرة على الصمود في وجهه إن لم نقل قادرة على هزيمته. هذه الاستراتيجية التي لم تكترث لها أي من القيادات الفلسطينية المعروفة.

تتصاعد أصوات الجماهير العربية التي تطالب حكوماتها بنصرة القضية الفلسطينية عند كل أزمة أو مصيبة تصيب الفلسطينيين، وهو ما يحدد بصورة سياسية وربما عاطفية أبعاد القضية وحاضنتها الشعبية، فمن ناحية تشير هذه الحالة إلى أهمية دور الجماهير العربية، كما تشير إلى مدى تقصير وإساءة الأنظمة العربية عموماً للقضية الفلسطينية. ونظراً لمدى تراجع مكانة القضية الفلسطينية عموماً -وامتداداً للمقال السابق الذي تناول تفكيك البنية السياسية الفلسطينية- سوف نحاول تفكيك بنية النظام العربي بشكل خاص مع شرح سريع وبسيط لتأثيرات الوضع الإقليمي، لاسيما في الفترة التي تبعت الخروج من لبنان، نظراً لكون هذه المرحلة هي التجسيد الفعلي لنهاية حركة التحرر العربية التقليدية ولبداية مسار المفاوضات الفلسطينية والعربية عموماً، كما شهدنا بعدها تحول العالم إلى هيمنة وسيطرة أحادية القطب، متمثلة في تحكم الولايات المتحدة الأمريكية بمجمل الوضع العالمي، نتيجة لضعف ومن ثم تفكك الاتحاد السوفييتي في بداية التسعينات من القرن المنصرم.

لقد مثلت تلك المرحلة دولياً انتهاء حقبة الدعم السوفييتي لحركات التحرر عموماً والعربية خصوصاً، وبغض النظر الآن عن مساوئ وسلبيات مرحلة الدعم السوفييتي إلا أن انتهاءها قد فرض عالمياً إما السير في الخندق الأمريكي، أو التحول إلى الطريق الآخر المستقل المليء بالصعوبات والتحديات دون أي دعم دولي، وقد اختارت القيادات الفلسطينية خصوصاً والعربية إجمالاً طريق التبعية والرضوخ والخنوع للهيمنة الأمريكية متذرعين باستحالة تطبيق الخيار الثاني آنذاك، وبالتالي أصبح من الضروري تلبية غالبية المطالب الدولية أو الأمريكية تحديداً، من قبيل الاعتراف بالقرارات الدولية التي تجافي الكثير من حقوقنا، وأبرزها القبول بقرار التقسيم الذي تم التمهيد له بتبني منظمة التحرير للبرنامج المرحلي، الذي ساهم في تحول ملف القدس لموضوع قابل للتفاوض أو المساومة، فضلاً عن ملفات الأسرى واللاجئين وعرب 48، ليتم فصل كل منهم قصراً عن القضية المركزية، وكأن لكل منهم وضع خاص وآليات خاصة قابلة للمساومة أو التفاوض وفقاً لمصطلح المستسلمين.

لكن وعلى الرغم من إدراكنا لمحاصرة وخنق المجتمع الدولي لحركات التحرر الوطني، إلا أنه لا يشكل مبرراً للاستسلام والخنوع، بقدر ما يستدعي منا إدراكه وتحليله كضرورة لرسم استراتيجية وطنية ونضالية قادرة على الصمود في وجهه إن لم نقل قادرة على هزيمته. هذه الاستراتيجية التي لم تكترث لها أي من القيادات الفلسطينية المعروفة.

وانطلاقا من وضوح الوضع العالمي يجب أن ننطلق لتحليل الوضع العربي لنكشف عن دور معسكريه المعتدل والممانع -وفقاً للتسمية الإعلامية- في دفع القيادة الفلسطينية لذات خيارها سابق الذكر. ولتكن البداية بالمحور الأكثر وضوحاً وصراحة أي محور الاعتدال أو عملياً محور الخنوع والتبعية للولايات المتحدة الأمريكية ولطفلها المدلل الاحتلال، الذي تتصدر مشهده الإعلامي الأنظمة التي أبرمت اتفاقات أحادية الجانب مع الاحتلال كمصر والأردن، معبرين وبكل وضوح عن تبنيهم السياسي والإعلامي والعملي لخيار الإذعان والاستسلام بغض النظر عن الحقوق المغتصبة وعن رأي الحشود الشعبية المحلية، التي كانت ومازالت تعبّر غالبيتها عن استنكار ورفض التطبيع والسلام مع القوى الغاصبة للحقوق العربية، سواء أكان التطبيع اقتصادياً أم سياسياً أم ثقافياً أم أمنياً. وقد دفعت هذه الأنظمة القيادة الفلسطينية لذات السبيل خدمة لمصالح حماتها وأولياء أمرها الدوليين، عبر إغراء القيادة الفلسطينية باكتساب شرعية عربية ودولية تلامس طموحاتها الذاتية المستقبلية والاقتصادية والجهوية، وعبر ممارسة بعض أشكال الضغط الاقتصادي المتمثل بربط الخيار الفلسطيني بحجم وسرعة ودورية تدفق التبرعات العربية والدولية.

وذلك ما ينقلنا لقادة هذا المحور الفعليين، أي دول البترودولار لاسيما المملكة العربية السعودية التي تسعى دائماً لإخفاء حقيقة موقفها إعلامياً وميدانياً، فها هي اليوم تلجأ إلى أسلوب غير مباشر للإعلان عن جميع خطواتها التطبيعية مع الاحتلال وتحاول تبريرها بذريعة مواجهة العدو العربي واالصهيوني المشترك، إيران، التي باتت وفقاً للإعلام السعودي والمقرب منها العدو العربي الأول والأخطر على مصالح الأمة والشعب، دون أن ننسى تهرب المملكة من تحمل مهامها في الدفاع عن الأراضي العربية المحتلة خصوصاً ما بعد نكسة 1967، على الرغم من ادعائها اليوم بانتماء جزيرتي تيران وصنافير لها وهما اللتين كانتا قد احتلتا في نكسة 1967. لتحاول المملكة بهذه الذريعة الإلتفاف على جوهر سياستها التطبيعية، كما حاولت أن تخفي سابقاً قيامها بتطويع وإخضاع المنطقة لصالح أمركيا والاحتلال متسلحة بقوة نفوذها المالي، عبر التخفي خلف قيادة مصرية لمحور الاعتدال، فتستطيع المملكة تحريكها بكل سهولة، كيف لا ولمصر نصيب من الدعم السعودي.

كما يجب الإشارة إلى تعدد الدول العربية الغنية التي سعت في مراحل لاحقة للتأثير على مجمل الوضع وربما لتبوء قيادة محور التبعية عملياً وعلنياً، مستفيدة من رصيدها المالي الكبير ومن غياب الرغبة السعودية في تصدر المشهد الإعلامي، كقطر والإمارات العربية المتحدة اللتين سلكتا ذات الطريق السعودي لكن بصورة شبه علنية بربط جميع أشكال الدعم المالي والإعلامي لأي طرف كان بسياق نهجهم المهادن والتابع للغرب وأمريكا خصوصاً، وإن حاولت قطر خصوصاً تمويه نهجها عبر خطاب يدعي الواقعية السياسية والمبدئية المبنية على استعادة حقوق الأمة، إلا أن خطواتها التطبيعية والاستسلامية أصدق وأوضح من أي ادعاء إعلامي، مثل المكتب التجاري ودعم وحماية بعض الرموز الفلسطينية والعربية أحياناً المعروفة بعلاقتها مع الاحتلال. فعلى الرغم من تعليق العمل ببعض الأشكال التطبيعية نتيجة لفجاجة إجرام الاحتلال في بعض الأوقات، إلا أن الخط العام لمجمل سياسة محور الاعتدال ذو اتجاه تطبيعي واستسلامي وتبعي واضح جداً دون أي التباس.

محور الممانعة

وعليه فقد تمكنت دول الاعتدال أو الواقعية السياسية من تعزيز ميل القيادات الفلسطينية للرضوخ للإرادة الأمريكية عبر ربط جميع أشكال الدعم المالي بسرعة ووضوح سياسات التبعية والرضوخ، في حين كانت سياسات المحور العربي الآخر والمعروف باسم محور الممانعة أكثر حنكة وخبثاً، لنجاح هذا المحور في تعزيز الخيار الاستسلامي وفي تقويض أي أفق لبناء حركة تحرر عربية أو فلسطينية حقيقية، لاسيما النظام السوري الذي بات النظام العربي الوحيد المنتمي لمحور الممانعة بعد إقصاء دولة قطر منه على خلفية موقفها من الثورة السورية. فقد نجح في استخدام قناع الممانعة وأحياناً المواجهة مع الاحتلال، والذي تم تعزيز حضوره من خلال تسويق مقاومة حزب الله -ما قبل الكشف عن حقيقته الإجرامية في سوريا- كغطاء يخفي خلفه ممارساته الحثيثة لتقويض حركة التحرر. الأمر الذي أدى إلى تخبط في موقف الجماهير العربية من سوريا على اعتبار أن خطابها الإعلامي يعبر عن نهج ومسار أقرب للخيار الشعبي، بينما يصعب تلمس أي آثار لهذا الخطاب في ممارستها العملية بل على العكس تماماً يسهل ملاحظة حجم ضرره على القضية الفلسطينية وعلى مجمل القضايا العربية، سواء عبر التمعن في علاقة نظام الأسد مع الاحتلال، والمستندة إلى قدرة الأسدين الأب والابن على حماية حدود الاحتلال المشتركة مع سوريا منذ حرب تشرين في 1973 وحتى الآن،  أو من خلال نجاح الأسد بعد انطلاق الثورة السورية في طمأنة الاحتلال بالتزامه الكامل باتفاق فض الاشتباك، على الرغم من كل الحشود العسكرية والأمنية التي استخدمها في تصديه لتقدم قوات المعارضة في كل المناطق بما فيها المناطق الحدودية مع الاحتلال حيث طلب النظام موافقة الاحتلال للقيام بعملياته العسكرية ضدها عبر المكاتب الأممية. مما عزز التناقض بين خطاب النظام وممارسته، فمن ناحية يؤكد النظام وحلفاؤه بشكل دائم على كون الثورة السورية مؤامرة أمريكية وصهيونية تستهدف ضرب حركة المقاومة، وأنها بمثابة إعلان حرب على سوريا والمقاومة، مما يفرض الرد بتصعيد المقاومة والمواجهة المباشرة مع الاحتلال، بينما تنحصر ممارسة النظام في التزامه الكامل باتفاق فض الاشتباك، على الرغم من جميع هجمات الاحتلال العسكرية، ليخلص النظام لمبادئه السياسيه الأساسية، من قبيل حماية حدود الاحتلال، والاحتفاظ بحق الرد في المكان والزمان المناسبين إلى أبد الآبدين.

بالإضافة إلى ما سبق يمكن ملاحظة حجم الضرر الذي ألحقته السياسة السورية بالقضية الفلسطينية من خلال النظر إلى علاقة النظام مع حركة المقاومة إجمالاً، لاسيما مجزرة تل الزعتر وما سبقها وما تبعها من أحداث، حيث تعاون النظام السوري والاحتلال على ضرب وإخراج حركة التحرر العربية والفلسطينية خصوصاً من لبنان، بسلسلة من التصريحات والممارسات المتوازية في ثمانينات القرن المنصرم. هذه الأحداث التي أثارت الكثير من الصخب والبلبلة الشعبية بين مؤيديها ومعارضيها، على اعتبارها شراً لا بد منه لحماية لبنان من اندلاع الحرب الأهلية، متذرعين بأخطاء القيادة الفلسطينية آنذاك. إلا أنهم بذلك يتجاهلون الكثير من الحقائق والمعلومات التي لا لبس فيها قبل وبعد مجزرة تل الزعتر، أولها تتعلق ببنية وتنوع حركة التحرر العربية، التي كانت مكونة من تحالف الفصائل والتنظيمات الفلسطينية مع أحزاب وقوى لبنانية وعربية غالبيتها تقدمية، لتعبر في مجملها عن خط تحرري ونوع ما تقدمي عربي نفتقد له اليوم، وثانيها ترتكز إلى نتائج التدخل السوري بل المجزرة السورية، والتي قادت أولاً إلى ضرب حركة التحرر العربي عبر تصفية مجموعة من أهم قادتها مثل كمال جنبلاط ومعروف سعد ورشيد كرامي وغيرهم، كما قادت إلى تصفية حركة التحرر الفلسطينية ودفعها للسقوط في قبضة الأنظمة الرجعية والإمبريالية العالمية من خلال نفيها لتونس، لتتحول بتواجدها بعيداً عن فلسطين إلى مجرد مراقب للأحداث الفلسطينية وبحد أدنى من التأثير عليها. وأخيراً وربما الأهم من ناحية تكذيب الرواية السورية ورواية حلفاء سوريا، نستطيع رؤية نتائج التدخل السوري على الوضع الداخلي اللبناني والذي صان التفكك الطائفي اللبناني ولعب عليه من أجل تمكين مليشياته الطائفية وأصواته المأجورة، لتصبح هي أدوات النظام في قمع وأسر باقي اللبنانيين، أي لم يحم التدخل السوري الوحدة الوطنية اللبنانية بل عمل على تقوية الأطراف المحسوبة على سوريا وسحق أعدائه ومعارضيه إجمالاً، وبغض النظر عن مواقف معارضي النظام السوري الوطنية والقومية.

كما يجب علينا عند الحديث عن دور النظام السوري في تدمير حركة التحرر العربية والفلسطينية الإشارة إلى طريقة تعامله الحالية مع الفصائل الفلسطينية التابعة والخاضعة له، وأبرزها ”الجبهة الشعبية القيادة العامة“ والقسم السوري من حركة فتح المعروف باسم ”فتح أبو موسى“ أو ”المنشقين“، الذين شاركوا النظام السوري في مجزرة تل الزعتر، بينما غابت مشاركتهم في أي فعل مقاوم أو تحرير منذ انتقالهم لحضن النظام السوري، على الرغم من سيطرة النظام على الحدود السورية بشكل مباشر واللبنانية بشكل غير مباشر عبر المليشيات الطائفية وخصوصاً حزب الله، وعلى الرغم كذلك من جميع المعسكرات التدريبة داخل سوريا ولبنان، لتتحول هذه الفصائل إلى مجموعات مرتزقة يستخدمها النظام في جميع حروبه القذرة وآخرها في حربه على الشعب السوري.

وأخيراً يبقى لنا التطرق إلى الدور الإيراني ولو على عجالة كونه لا يختلف كثيراً عن الدور السوري باستثناء امتلاكه لقدرات مالية أكبر جيرها لشراء مواقف بعض التنظيمات والفصائل والقوى الفلسطينية، لينجح في إخضاعها مالياً وفي تحويلها إلى طابور من المصفقين في مهرجاناته الخطابية لا سيما مهرجان يوم القدس السنوي، ليعزز بذلك نفوذ وهيمنة المجموعات الفلسطينية الانتهازية داخل جميع الفصائل المعتاشة على الأموال الإيرانية، مما شكل تحييدا وضربا للمجموعات الوطنية والثورية الجذرية.

وبذلك نكون قد أعطينا صورة وافية عن الظرف الإقليمي الذي دفع القيادات الفلسطينية المتخاذلة أصلاً نحو الخنوع والاستسلام، لتجد هذه القيادات المزيد من الذرائع والحجج التي تبرر بها خنوعها وخضوعها للهيمنة الأمريكية والإسرائيلية كذلك. كما نكون قد وضعنا إصبعنا على جزء مهم من أسباب الأزمة الفلسطينية والعربية الراهنة، التي تحتاج مبدئيا لمجموعة من الخطوات والإجراءات القادرة على تحييد تأثيراتها السلبية الكثيرة على القضية الفلسطينية، ولو مؤقتاً حتى نجاح شعوب المنطقة في إنجاز مرحلة التقدم والتحرر من أنظمة الخيانة والعمالة والخنوع العلنية والمستترة.