زياد دويري
في اقتطاع مشهد الدم من السياق يصير العنف فعلاً همجيا لشعب يدّعي أنه ضحية، وفقط حين يقطع العنف من كل سياق ويرفع إلى مكانة فوق اجتماعية وتاريخية، ويتحول الجميع إلى ضحايا متموضعين في فضاء يسبح بالعدم، يصير من الممكن التنكيل أكثر بالفلسطيني لأنه يصير كائناً لا زماني، نموذجاً نظرياً مجرداً. الحرب التي يعلنها دويري على حركة المقاطعة هي نتاج هذا القطع الكارثي، ونتيجة القول إن لا أحد يحتكر دور الضحية.
شاهدت فيلم «قضية رقم 23»، لست ناقدة سينمائية ولن أتحدث عن أبعاده الفنية والتصويرية، وهو حديث لا أعنى به. ما يهمني هو الفكرة العامة التي يريد دويري إيصالها لي كمشاهدة للفيلم، وهي أنه لا يمكن لأحد أن يحتكر دور الضحية، وأن الجميع ضحايا بشكل ما، وهو ما يقوم به من خلال تفكيك "صورة الضحية" الفلسطينية واستحضار جرائمها في الدامور، مع استخدام صور مرعبة للمجزرة والاستعانة بأحداث أيلول الأسود لإظهار جرم من يدعي أنه ضحية، مقابل إظهار داعمي بشير الجميل كضحية متساوية لا تقل مأساوية. تستدعي هذه الفكرة التوقف عندها لأهميتها وتبعاتها الأخلاقية وأبعادها السياسية والإنسانية وذلك عبر عدة نقاط متداخلة.
أولاً: لا يوجد إنسان قادر على "الفعل" تحت قبة السماء يمكن أن يكون "ضحية كاملة"، فقط الحيوانات والبشر غير المؤهلين للفعل هم من يمكنهم أن يكونوا ضحية كاملة، بمعنى كائنات سلبية مستقبلة غير قادرة على التفاعل مع سياقها لا بالفهم ولا بالفعل. الحيوانات ضحايا كاملة لأنها تنتمي إلى عالم حي يتموضع خارج الثقافة ولا تملك أدوات تفسير وتواصل مع محيطها البشري، وبالتالي يمكن أن تقاد إلى الذبح دون أن تفهم السياق الذي تتواجد فيه، وهي بهذا المعنى تكتسب صفتها كضحية من عدم وجود أي أداة لديها للفهم أولاً والمقاومة ثانياً. أما البشر غير المؤهلين بمعنى عقلي أو بسبب وجودهم في حالة موت سريري، فيمكن أن يكونوا أيضاً ضحايا كاملين لأنهم فاقدون للقدرة على المقاومة. فيما عدا ذلك فإن الإنسان العادي والطبيعي هو ضحية متفاوتة تبعاً لقدرته على الفعل والمقاومة التي قد تكون رمزية بحدها الأدنى، وفعلية عنيفة بحدها الأقصى.
ثانياً: مثلما لا يوجد إنسان ضحية كاملة، فإنه لا يوجد شعب ضحية كاملة، لأن الشعب هو مجموع أفراده ومراكمة ردودهم الفردية والجماعية ومخزن إرادتهم العامة. الشعوب تكون ضحية كاملة فقط في حالة إبادتها وتحويلها إلى رماد بضربة عليا إلهية. وحتى في حالة إبادة هيروشيما بقنبلة نووية لم يكن سكانها ضحايا كاملين لأنهم كانوا جزءاً من "عدو" في حالة حرب، يصارع على رؤية معينة، وذلك بغض النظر عن أخلاقية هذه الرؤية سواء من حيث صدقها أو إجرامها. بمعنى آخر فإن الإنسان أو الشعب يكون ضحية كاملة إذا كان يسبح خارج الإنسانية وليس ضمنها، وخارج القدرة على الفعل.
ثالثاً: هل يعني عدم وجود ضحية كاملة أنه لا معنى للحديث عن ضحايا؟ أو هل يعني هذا أن الجميع ضحايا بشكل أو بآخر؟ بالطبع لا! بل أكثر من ذلك فإن القول إن كل الضحايا تتساوى هو قول مرعب ومخيف إلى حد بعيد، لأنه يلغي المسؤولية الأخلاقية عن الجميع وهذا هو المهم. لماذا؟ لأنه لو كان الكل ضحايا فلا مجرمون كما كتبت حنة أرندت، فالمغتصب ضحية تربية أو بيولوجيا هائجة والقاتل ضحية نزعات أو تاريخ حزين والمستعمر ضحية مطاردة في بلده الأم، وكذا فإن النازي ضحية الدعاية والفاشي ضحية ضحالته والجزار في صبرا وشاتيلا ضحية الدامور!!
رابعاً: القدرة على تحمل المسؤولية الأخلاقية والسياسية والقانونية في حالة كان الجميع ضحايا تصبح غير ذي صلة، حيث يتم تدوير المسؤولية وتحويلها إلى عبث. وغالباً ما كان الاستغراق في هذا التحليل عن أسباب العنف وقوفا في صف القاتل.
خامساً: فيلم «قضية رقم 23» وقبله فيلم «الصدمة»، يعملان على تفكيك "الضحية" الفلسطينية عبر نزعها من سياقها، وإعادة نسجها ضمن عالم متساو من الضحايا، أطفال ونساء يهود مضرجون بدمهم في تل أبيب في فيلم «الصدمة» بفعل عنف فلسطيني بلا سياق، وضحايا الدامور مذبوحون بمشاهد تقشعر لها الأبدان نتيجة عنف مقطوع عن حرب أهلية دامية. يخرج المشاهد بحزن على ضحايا يطالبون بحقهم في "الاعتراف" من دون أن يفهم ما السياق. ولا يعني وجود السياق بالمناسبة التبرير بل على الأقل الفهم. لا عين الرمانة صارت ولا حتى صبرا وشاتيلا، ولا حرب أهلية أكلت الأخضر واليابس في لبنان وتسببت في قتل الأخ لأخيه، فقط فلسطينيون ذبحوا وحرقوا وتلبسوا دور الضحية على غير حق، وفي «الصدمة» لا وطن مسلوب تحول إلى خرائب في عام 1948 ولا شعب كامل تحول إلى طريد سليب يعيش على حافة الإنسانية خاصة في لبنان. فن إنتاج مساواة الضحايا يشترط أن تقتطع الأحداث من سياقها، وأن تضع الجميع على كرسي الاتهام سواسية، ثم تحاكمهم بوصفهم غيلان ليل.
في اقتطاع مشهد الدم من السياق يصير العنف فعلاً همجيا لشعب يدّعي أنه ضحية، وفقط حين يقطع العنف من كل سياق ويرفع إلى مكانة فوق اجتماعية وتاريخية، ويتحول الجميع إلى ضحايا متموضعين في فضاء يسبح بالعدم، يصير من الممكن التنكيل أكثر بالفلسطيني لأنه يصير كائناً لا زماني، نموذجاً نظرياً مجرداً. الحرب التي يعلنها دويري على حركة المقاطعة هي نتاج هذا القطع الكارثي، ونتيجة القول إن لا أحد يحتكر دور الضحية.
وإذا كنا كلنا ضحايا وكلنا مجرمون... فإن لا ضحايا ولا مجرمين ولا مسؤولين ولا مسائلين! أهلاً وسهلاً بكم في جَنغل زياد دويري !!
أولاً: لا يوجد إنسان قادر على "الفعل" تحت قبة السماء يمكن أن يكون "ضحية كاملة"، فقط الحيوانات والبشر غير المؤهلين للفعل هم من يمكنهم أن يكونوا ضحية كاملة، بمعنى كائنات سلبية مستقبلة غير قادرة على التفاعل مع سياقها لا بالفهم ولا بالفعل. الحيوانات ضحايا كاملة لأنها تنتمي إلى عالم حي يتموضع خارج الثقافة ولا تملك أدوات تفسير وتواصل مع محيطها البشري، وبالتالي يمكن أن تقاد إلى الذبح دون أن تفهم السياق الذي تتواجد فيه، وهي بهذا المعنى تكتسب صفتها كضحية من عدم وجود أي أداة لديها للفهم أولاً والمقاومة ثانياً. أما البشر غير المؤهلين بمعنى عقلي أو بسبب وجودهم في حالة موت سريري، فيمكن أن يكونوا أيضاً ضحايا كاملين لأنهم فاقدون للقدرة على المقاومة. فيما عدا ذلك فإن الإنسان العادي والطبيعي هو ضحية متفاوتة تبعاً لقدرته على الفعل والمقاومة التي قد تكون رمزية بحدها الأدنى، وفعلية عنيفة بحدها الأقصى.
ثانياً: مثلما لا يوجد إنسان ضحية كاملة، فإنه لا يوجد شعب ضحية كاملة، لأن الشعب هو مجموع أفراده ومراكمة ردودهم الفردية والجماعية ومخزن إرادتهم العامة. الشعوب تكون ضحية كاملة فقط في حالة إبادتها وتحويلها إلى رماد بضربة عليا إلهية. وحتى في حالة إبادة هيروشيما بقنبلة نووية لم يكن سكانها ضحايا كاملين لأنهم كانوا جزءاً من "عدو" في حالة حرب، يصارع على رؤية معينة، وذلك بغض النظر عن أخلاقية هذه الرؤية سواء من حيث صدقها أو إجرامها. بمعنى آخر فإن الإنسان أو الشعب يكون ضحية كاملة إذا كان يسبح خارج الإنسانية وليس ضمنها، وخارج القدرة على الفعل.
ثالثاً: هل يعني عدم وجود ضحية كاملة أنه لا معنى للحديث عن ضحايا؟ أو هل يعني هذا أن الجميع ضحايا بشكل أو بآخر؟ بالطبع لا! بل أكثر من ذلك فإن القول إن كل الضحايا تتساوى هو قول مرعب ومخيف إلى حد بعيد، لأنه يلغي المسؤولية الأخلاقية عن الجميع وهذا هو المهم. لماذا؟ لأنه لو كان الكل ضحايا فلا مجرمون كما كتبت حنة أرندت، فالمغتصب ضحية تربية أو بيولوجيا هائجة والقاتل ضحية نزعات أو تاريخ حزين والمستعمر ضحية مطاردة في بلده الأم، وكذا فإن النازي ضحية الدعاية والفاشي ضحية ضحالته والجزار في صبرا وشاتيلا ضحية الدامور!!
رابعاً: القدرة على تحمل المسؤولية الأخلاقية والسياسية والقانونية في حالة كان الجميع ضحايا تصبح غير ذي صلة، حيث يتم تدوير المسؤولية وتحويلها إلى عبث. وغالباً ما كان الاستغراق في هذا التحليل عن أسباب العنف وقوفا في صف القاتل.
خامساً: فيلم «قضية رقم 23» وقبله فيلم «الصدمة»، يعملان على تفكيك "الضحية" الفلسطينية عبر نزعها من سياقها، وإعادة نسجها ضمن عالم متساو من الضحايا، أطفال ونساء يهود مضرجون بدمهم في تل أبيب في فيلم «الصدمة» بفعل عنف فلسطيني بلا سياق، وضحايا الدامور مذبوحون بمشاهد تقشعر لها الأبدان نتيجة عنف مقطوع عن حرب أهلية دامية. يخرج المشاهد بحزن على ضحايا يطالبون بحقهم في "الاعتراف" من دون أن يفهم ما السياق. ولا يعني وجود السياق بالمناسبة التبرير بل على الأقل الفهم. لا عين الرمانة صارت ولا حتى صبرا وشاتيلا، ولا حرب أهلية أكلت الأخضر واليابس في لبنان وتسببت في قتل الأخ لأخيه، فقط فلسطينيون ذبحوا وحرقوا وتلبسوا دور الضحية على غير حق، وفي «الصدمة» لا وطن مسلوب تحول إلى خرائب في عام 1948 ولا شعب كامل تحول إلى طريد سليب يعيش على حافة الإنسانية خاصة في لبنان. فن إنتاج مساواة الضحايا يشترط أن تقتطع الأحداث من سياقها، وأن تضع الجميع على كرسي الاتهام سواسية، ثم تحاكمهم بوصفهم غيلان ليل.
في اقتطاع مشهد الدم من السياق يصير العنف فعلاً همجيا لشعب يدّعي أنه ضحية، وفقط حين يقطع العنف من كل سياق ويرفع إلى مكانة فوق اجتماعية وتاريخية، ويتحول الجميع إلى ضحايا متموضعين في فضاء يسبح بالعدم، يصير من الممكن التنكيل أكثر بالفلسطيني لأنه يصير كائناً لا زماني، نموذجاً نظرياً مجرداً. الحرب التي يعلنها دويري على حركة المقاطعة هي نتاج هذا القطع الكارثي، ونتيجة القول إن لا أحد يحتكر دور الضحية.
وإذا كنا كلنا ضحايا وكلنا مجرمون... فإن لا ضحايا ولا مجرمين ولا مسؤولين ولا مسائلين! أهلاً وسهلاً بكم في جَنغل زياد دويري !!