«خيوط السرد»: الثوب الفلسطيني كمفتاح للذاكرة

2018-02-17 15:00:00

«خيوط السرد»: الثوب الفلسطيني كمفتاح للذاكرة

تعمدت المخرجة اختيار سيدات فلسطينيات من مختلف الطبقات، ومن خلفيات ثقافية متنوعة كلٌ حسب مجالها. فهناك السيدة الأرستقراطية، وهناك المثقفة، والحقوقية، وهناك السيدة الكادحة التي تعيش في المخيم. هذا التنوع أغنى الفيلم، وقدّم فكرة مغايرة، وبعيدة عن التنميط  ضمن قالب واحد للمرأة الفلسطينية. لكن ما كان يميز هؤلاء السيدات، ذاكرتهن الحية، وإيمانهم بأنه سيأتي يوم ويعودون فيه لفلسطين. 

نادرًا ما يتم عرض فيلم في المراكز الثقافية الأجنبية بالقاهرة مرتين، لكن يبدو أن أهمية «خيوط السرد» استدعت أن يُعلن مؤخراً المركز الثقافي الهولندي بالمدينة عن عرضه، والفيلم للمخرجة اللبنانية من أصل فلسطيني كارول منصور، فحضور العرض الأول للفيلم، الذي جرى في الرابع من الشهر الجاري، تجاوز تسعين شخصًا. 

«خيوط السرد» فيلم تسجيلي، يحكي قصة 12 سيدة فلسطينية من مختلف الأجيال، الرابط المشترك بينهم، هو حرفة التطريز الفلسطيني، أو ما يربطهم أو يذكرهم بـ «الثوب الفلسطيني»، وعلاقة كل سيدة بهذا الثوب، كمدخل للذاكرة الفلسطينية، ومفتاح لما تختزن ذاكرة كل سيدة عن فلسطين. 

يُفتتح الفيلم بيدين لسيدة تُحضّر بكرات من الخيوط الملونة، والقماش، لتصميم الثوب الفلسطيني، لا نرى هنا المرأة، إنما تتبّع الكاميرا يديها فقط، وهي تغرز الإبرة والخيط، في القماش بادئة بحياكة الرسمة المطرزة على القماش. هكذا ستبدأ حكايات النساء، وحياكة الثوب، التي ستستمر على طول خط الفيلم كثيمة له.

إحدى السيدات هي الفلسطينية ليلى خالد. ليلى مازالت تقوم بالتطريز الفلسطيني، وتعتبر أن الحفاظ على هذا التراث نوع من أنواع المقاومة، إذ أنها روت قصة زيارتها لمدينة برلين، لحضور مؤتمر للمرأة، وكانت قد حرصت هي ومن معها من فلسطينيات، على ارتداء الزيّ الفلسطيني، لتفاجأ أن هناك إسرائيليات مشاركن في المؤتمر، ويرتدين الزيّ الفلسطيني ويدّعون أنه من تراثهم، وما كان منها إلا أن نعتتهم بالسارقين داخل المؤتمر. أما الثوب الفلسطيني فله قصة أخرى مع ليلى خالد، إذ أنها في يوم من الأيام التقت أماً لشهيد؛ فما كان منها سوى أن أهدتها ثوب عرس فلسطيني، وتقول لها أن هذا الثوب كان قد جهزته لعروسة ابنها المستقبلية، وأنها هي الوحيدة التي باستطاعتها الحفاظ عليه بعدما فقدت ابنها الوحيد. لكن الفاجعة المحزنة أن ليلى خسرت الثوب أثناء الاجتياح الإسرائيلي للبنان في سنة 1982.

في حين أن سيدة فلسطينية أخرى تبلغ من العمر 85 عامًا، ما زالت ذاكرتها حاضرة بتفاصيل حياتها بفلسطين، لتروي قصة ظلت محفورة بذاكرتها عن أمها، عندما أصرت الأم أن تزور بيت والدها القديم بالقدس، وهي تبلغ من العمر 75 عامًا، ولتقول للإسرائيليين القاطنين بالمكان، أنها تريد الدخول لتطمئن على بيت والدها، وتتذكر الأماكن التي كان يجلس فيها، أما هي وبقية العائلة فلم يجرؤا على مغادرة سيارة الأجرة، خائفين، ويبكون من القهر.

أما السيدة التي تعيش في مخيم مار إلياس في لبنان، فقد ورثت حرفة التطريز من أمها التي تولت تربيتها هي وتسعة أولاد، لأن الأب كان في جيش المقاومة في الأردن آنذاك، واختفى ولن يعرفوا عنه شيء حتى الآن. لتقول أنها أحيانًا تعمل لثماني ساعات في التطريز، وأحيانًا أخرى تنشغل في التزاماتها في أمور البيت، من تنظيفه، وتحضير الطعام لعائلتها، ومتابعة واجباتهم المدرسية، لكنها تعود في الليل لتكمل عملها في التطريز، تحب التطريز في الليل فهو يساعدها على التأمل والتفكير بنفسها، وبماضيها، وبآلامها، وهمومها، وأحيانًا كثيرة  تفكر أثناء عملها بالأشخاص الذين فقدتهم، كتساؤلها عن مصير والدها؛ هل مات فعلًا؟ أم أنه عاش عمرًا طويلًا؟ وحتى لو عاش عمرًا طويلًا، قد يكون الآن ميّتًا أيضًا؟!

تعمدت المخرجة اختيار سيدات فلسطينيات من مختلف الطبقات، ومن خلفيات ثقافية متنوعة كلٌ حسب مجالها. فهناك السيدة الأرستقراطية، وهناك المثقفة، والحقوقية، وهناك السيدة الكادحة التي تعيش في المخيم. هذا التنوع أغنى الفيلم، وقدّم فكرة مغايرة، وبعيدة عن التنميط  ضمن قالب واحد للمرأة الفلسطينية. لكن ما كان يميز هؤلاء السيدات، ذاكرتهن الحية، وإيمانهم بأنه سيأتي يوم ويعودون فيه لفلسطين. 

رافقت أيضًا حكايات السيدات، رسمة لخريطة تعرض الأماكن والبلدان التي تنقلت وعاشت فيها كل سيدة بعد الخروج من فلسطين، راسمة بذلك صورة الفلسطينيين وشتاتهم من خلال خيوط تحريك بصرية على خريطة العالم، مثّل حضور هذه الخريطة رمزية تُظهر التهجير الذي دفع الفلسطينيين للترحال حول العالم منذ بداية النكبة وحتى الآن. فلم يكن هناك أي سيدة ممن شاركن بالفيلم لم تضطر للتنقل ما بين ثلاثة أو أربعة بلدان. لكن كل ما كان في بالهم أن أياماً أو شهوراً تكفي ليعودوا لمنازلهم، منهن من مضى على انتظارهن 33 سنة ومنهن 65 سنة!

فيلم «خيوط السرد» من إخراج كارول منصور، وبحث منى خالدي، وسيناريو سحر مندور. إنتاج «فوروود فيلم بروداكشن» مع «مؤسسة التعاون ــ لبنان»، ومؤسسة «إنعاش» 2017.
 
المخرجة كارول منصور