راجي بطحيش: ليس على الكاتب أن يكون حكواتياً يسلي القراء، بل فناناً

2018-04-03 11:00:00

راجي بطحيش: ليس على الكاتب أن يكون حكواتياً يسلي القراء، بل فناناً

بالتأكيد، وهذا ما أشدد عليه دائماً في اللقاء الأول من ورشات الكتابة التي أوجهها، في الظروف الاجتماعية والسياسية الراهنة لا مفر سوى من تحرير اللغة وإزاحة الحدود وتوسيعها، أنا أقول لهم عليكم خيانة القارئ المتخيل والمنظومة التي تربض على أكتافكم، وبالأساس خيانة لغة وكتابة المدرسة الثانوية واستفزاز معلم/ة درس الإنشاء في المدرسة، قد يكون النص الأول صادماً وفظاً، ولكن التراكم الفردي والجماعي هو ما يخلق لغة جديدة وبالتالي واقعاً كتابياً جديداً.

راجي بطحيش ابن الناصرة، صوت أدبي مُتفرد، له نبرته الخاصة على خارطة الأدب العربي عموماً والفلسطيني منه خصوصاً. صدرت له عشرة أعمال تنوعت بين أجناس أدبية مختلفة، وله مساهمات في أنطولوجيات جماعية بالعربية، والعبرية، والإنكليزية، والفرنسية.

"رمان" أجرت معه هذا الحوار الذي دار حول روايته الأولى «يولّا وأخواته»، وتجربته في الكتابة الانتهاكية.. الكتابة التجريبية العابرة للأجناس الأدبية المعتادة، كما دار حوارنا عن خصوصية مشروعه الكتابي الإبداعي.

حدثنا عن روايتك الأولى «يولّا وأخواته»، وكيف تم استقبالها من قبل القراء والنقاد؟

بعض النقاد أشاروا إلى أن كتابي «بر حيرة بحر» هو روايتي الأولى، أي أنها رواية ذاتية مكتوبة بتقنيات ومبنى ما بعد حداثي خالص، وهذا ما يربكني قليلاً إذ أنني لا أتعامل مع يولّا كونها الرواية الأولى، «يولّا وأخواته» هي محاولة لسرد سيرة عائلة فلسطينية من الطبقة المسيحية الوسطى في مدينة حافظت على المبنى الطبقي بفعل عدم تهجيرها في عام 1948، مع التجاهل التام لذلك في خطاب الثقافة الفلسطينية. خلافاً لما اعتقدت تم استقبال الرواية بحب وحفاوة على الرغم من فضائحيتها المجتمعية، وأعتقد أنها من الناحية النقدية حتى الآن استقبلت بإيجابية شديدة، فقد تناول كل ناقد الرواية من جانب آخر يخصه هو، فـ «يولّا..» عمل مركب جداً ويحمل على عدد صفحاته القليلة محاور عدة ومواضيع شتى للتناول، أعتقد أن الاستقبال الإيجابي عامة نبع من عدم محاولتي السرد بفظاظة واستعراض للعضلات التحررية، بل جاء السرد ناعماً ويشدد على البعد الفني للكتابة على حساب السرد. فالكاتب في عصرنا هذا ليس مطلوب منه أن يكون "حكواتياً" يسلي القراء، بل فناناً. أضيف هنا أن الحفاوة جاءت على صعيد النخب فقط، فقد توجهت إلي بعض مجموعات القراءة لاستضافة الرواية ولكنهم ألغوا البرنامج بشكل دبلوماسي بعد قراءة الرواية، وأنا أتفهم ذلك تماماً.

بعد مجموعتين شعريتين وثلاث مجموعات قصصية وثلاثة كتب نثرية. ما الذي حفزك للتوجه إلى الرواية؟ ومن ثم أين تقع «يولّا وأخواته» من مشروعك الإبداعي بشكل عام؟

منذ بداياتي كنت متيقناً بأنني أتجه للنثر والسرد، وإذا لاحظت فإن الأعمال تتصاعد من الشعر القصير، إلى الشعر النثري ثم القصص القصيرة جداً ثم الأطول ثم السيرة ثم الرواية، ينبع ذلك برأيي من العمر والتجارب الحياتية والتراكمية في الكتابة، فنادراً ما نجد من يكتب رواية كاسحة بجيل 25، أعتقد أن تراكم الوجع الحياتي ووجوب إعادة إنتاجه من جديد بأشكال إبداعية مختلفة هو ما يقود هذا التسلسل، المنطقي برأيي.

هل استفدت من الشعر، وأنت تكتب روايتك الأولى؟

بالتأكيد، الشعر بالنسبة لي هو اللبنة الأساسية التي أبني عبرها كل عمل حتى قبل يولّا، معظم قراءاتي هي شعرية وليس على صعيد الكتب والمجموعات فقط، بل بشكل يومي عبر الانترنت وبطبيعة الحال بواقع كوني محرر لموقع فيه الكثير من الشعر غير المفهوم ضمناً، فأنا أقرأ الشعر طيلة النهار وأجزم بأنني أتذوقه بشكل جيد وأدخله في نصوصي بشكل عضوي وواضح وكأنها علاقة مفروغ منها بين نصي والشعر. في يولّا هنالك السرد بضمير الأنا والسرد بضمير الغائب، معظم مقاطع السرد بضمير الأنا هي شعرية، مبناها شعري وصورها شعرية، وهذا ما أخافني بصراحة من يولّا قليلاً فقد خفت أن يتم تلقي العمل كمجموعة نصوص غير مترابطة وليست رواية، ولكن القراء وأيضاً النقاد تعاملوا مع النص كرواية ومزجوا النصوص الشعرية بالعمل بشكل طبيعي في إطار عملية القراءة والتحليل.

أنت أيضاً مترجم، فهل أثرت ترجماتك في كتاباتك الأدبية؛ أو لنقل: هل استفدت من الترجمة في نصوصك الشعرية والنثرية؟

أنا بالأساس مترجم لنصوص فنية، دعائية وتقنية ولست مترجماً أدبياً مع أنني خضت هذا المجال مؤخراً... تتميز هذه النصوص التي أترجمها كمصدر رزقي أحيان كثيرة بالعبثية والكذب وبيع الأوهام إضافة إلى كونها جافة ورسمية جداً في أحيان أخرى، وأنت تسألني هذا السؤال أعتقد أن هذا المزيج العجيب من النصوص وخاصة في عصرنا التي تتحكم فيه ديانة الاستهلاك بجدارة بمصائر البشر، أفاد نصوصي كثيراً، فنصوصي وخاصة السردية منها تتميز بالفكاهة السوداء والميلانكوليا وما يسمى بالباستيش، وأعتقد أنني استخدمت واستخدم كثيراً هذه الأدبيات لخلق توتر بين العالم الداخلي للشخصيات والنصوص والرسائل المحيطة فيها وقد استخدمت ذلك بالأساس في كتب «ملح كثير أرض أقل»، «بر حيرة بحر» وأخيراً في «يولّا وأخواته» وإن لم يكن بنفس القدر، فقد استفدت من عنف هذه النصوص في فصول مختلفة للرواية، مثلاً عندما تجلس جانيت في وكالة السفر في حيفا باحثة عن رزمة سياحية مناسبة لمعسكرات الإبادة النازية في بولندا.

أسألك عن العلاقة بين الكتابة والمحرمات/ التابوهات (الدين- الجنس-السياسة) في الثقافة العربية. هل تراها ضرورية وبالتالي هل أنت ممن يفضلون الكتابة عن المحرم والمسكوت عنه في مجتمعاتنا العربية؟

أنا لا أتعامل مع هذه المواضيع بشكل مقصود وعن عمد بغرض الاستفزاز أو استعراض العضلات، ولكن سؤالي هو، وسط كل هذا العنف الديني والجنسي والسياسي المحيط بنا في المنطقة والعالم، كيف تظل هذه المحرمات أو المواضيع تابوهات، عن ماذا نكتب إذاً؟ لقد سئمنا الرومانسيات والبكاء على "أيام الزمن الجميل"، نحن محكومون بالقوى السياسية التي باتت تستخدم العنف الجنسي والعنف الديني بشكل مفضوح وعادي، الشخصيات المحتملة لأعمالنا محكومة بهذه الثلاثية، لا شيء آخر يحكمها، الجيوش النظامية تستخدم العنف الجنسي لقمع معارضيها بشكل غير مسبوق وكذلك الميليشيات المختلفة والمنظومة الأبوية المجتمعية، أضف ذلك إلى الخطاب الديني الذي يستخدمه جميع هؤلاء لتبرير جرائمهم، تلك هي المنظومة التي نعيش داخلها والسؤال هو كيف نقدمها وكيف نطرحها، فكما ذكرت في البداية... الكاتب الذي يطرح تلك الأمور بفظاظة ونرجسية وكأنه يكتشف العالم ويقول لقرائه أنا جريء أنا متمرد أنا ثوري... سيفشل حتماً. أشكال العنف هذه كما ذكرت، تتحكم في حياتنا ومن الطبيعي جداً أن تكون عاملاً أساسياً في نسيج النصوص، ولكن السؤال كيف؟ النص الادعائي والاستعراضي سيفضح نفسه بنفسه، ثمة تقنيات عديدة ومتداخلة لتناول هذه الأمور.

في مشروعك الإبداعي تمرد على المفاهيم السائدة وعلى سلطة الأب/الدولة، وتميز بكتابة طازجة تطرح تساؤلات مستفزة حول السردية الوطنية الفلسطينية.. كتابة صنفها النقاد بـ(مابعد الوطنية/القومية) والتي بشرت بحراك شعبي عارم في عدد من البلدان العربية، وكانت الحامل الفكري لما اطلق عليه اصطلاحاً (الربيع العربي). هل ترى الأمر كذلك؟ وما انعكاس ما حدث ويحدث من حولنا على المسألة الفلسطينية؟

لا أعتقد أن الرؤى الكتابية التي سبقت الربيع العربي كانت متشابهة أو أنها أدت إليه بالتأكيد، كانت هناك عدة اتجاهات فرزت بعد الثورات المضادة بالتحديد وبعد انفجار الوضع في سوريا ليصبح نزاعاً مسلحاً، برأيي أن سوريا تحديداً فرزت الأشخاص بين من كانوا يدعون للحرية بشكل شعاراتي فقط بينما هم منغمسون في تأليه الدولة القمعية التوريثية بحجة الحفاظ على ”الدولة“ وفلسطين وما إلى ذلك... نقطة الضوء في كل هذا هي أنه خلال سبع سنوات من الصراع لم يغير معظم الكتّاب الذين وقفوا مع الشعب السوري وحريته موقفهم، وهذا عامل هام جداً. لا زالت القوى الفكرية الحقيقية في العالم العربي تقف ضد القمع بحجة الوطنية، على الصعيد الفلسطيني هناك انقسام واضح وحاد بين الطرفين، ولكن المسألة الفلسطينية تحمل حسابات مختلفة، فالصراع يبقى ضد احتلال إحلالي أجنبي، وليس ضد دولة وطنية فلسطينية، أصبح مشككاً فيها بعد الربيع العربي، وبعد الانقسام بين فتح وحماس، ولكن أعتقد أن بعد الويلات التي شاهدها الفلسطينيون في البلدان المجاورة لم يعد التمسك بنموذج الدولة على مثل قوته مقارنة بالماضي، فلسطين بأكملها تتواجد في مرحلة ما بعد وطنية، أي القطيعة بين الوجود الحضاري على الأرض وبين الدولة، سواء دولة إسرائيل أو فلسطين، الدولة أصبحت مجرد وزارات ومصارف ومكاتب بريد تسيّر أمور الأشخاص أو تعقدها دون أي بعد رمزي أو وطني لها، فبينما تتوحش الدولة الوطنية الإسرائيلية وتزداد عزلة وخوف مواطنيها اليهود، لدي شعور أن الفلسطيني من النهر للبحر وبدافع قوة الحياة والبقاء أصبح متحرراً أكثر وأكثر من النموذج الوطني والسيناريوهات المفروضة من فوق وأصبحت هناك حالة مستدامة من المناورة في اللا-دولة قرب الدولة من أجل البقاء.

أتوقف معك عند مسألة هامة في مشروعك ككاتب صُنف أيضاً كواحد من الكتّاب العرب القلائل الذين تميزوا بما أُطلق عليه ”الكتابة الانتهاكية“. لأسألك عن تجربتك في الاشتغال لسنوات على نشر ”نصوص كويرية“ في موقع "قديتا"، ومن ثم الإشراف على موقع "أنبوب"، وارتباط ذلك بالمفهوم الأوسع لثورات الربيع العربي؟

جاء إطلاق النصوص الكويرية في "قديتا" في شهر آب/ أغسطس من عام 2010، بعد أن كان هذا التصنيف الكتابي غائباً تماماً عن الكتابة العربية، وإن كانت أجسام الدفاع عن حقوق المثليين والمتحولين جنسياً قد انطلقت قبل ذلك بأعوام، وبعد الأشهر الأولى من انطلاق الربيع العربي اكتسبت تلك الكتابات دفعاً قوياً وأصبحت وبشكل رمزي تواكبه ولنقل إحدى مخرجاته، أعتقد أن تلك السنوات أي 2011 وما قبلها وما بعدها بقليل ستؤرخ ليس لكونها شهدت انطلاق الثورات على السلطة الأبوية وحسب (وإن كانت قد أُجهضت بمعظمها) بل أيضاً ثورات مفاهيمية شاملة في الوعي الشبابي العربي وثورة على الأجيال التي سبقت ووصايتها الأخلاقية والتوازنات التي كانت تعقدها مع السلطات، الأعمال التي صدرت بعد 2011 تختلف جذرياً عما صدر قبلها لجهة انتهاك سلطة الدولة والسلطة الأبوية وتفكيكهما، وأنا شخصياً اختلفت كتابتي بين الفترتين، أشعر أنني اخترقت سقفاً ما كنت أضعه لنفسي وهذا الاختراق هو ما يمنحني متعة الكتابة بصراحة. على الرغم وكما ذكرت من استهداف الثورات السياسية واجهاضها إلا أن اختراق السقوف استمر وبقوة كتابياً، وهو مستمر حتى الآن لسبب بسيط أن الأنظمة وطغاتها لا يقرؤون الكتب بل ينتقمون من دعاة الحريات بشكل عشوائي وعبثي من حين لآخر وبشكل موسمي، ما يبقي الكثير من الشقوق مفتوحة في السقف، وعلينا ألا ننسى أن الكتابة الفنية تبقى نخبوية في نهاية الأمر وهي حكر على نوادي وصالونات ومجموعات بعينها، ويبقى تأثيرها على القاعدة بسيطاً جداً ومحدوداً للغاية، مع أنني استبشر خيراً مما يحدث في بلدان مثل مصر وتونس حيث لدي شعور أن الكتابة الانتهاكية آخذة بالتغلغل أكثر في قطاعات أوسع من نخب الصالونات وذلك نتيجة لطبيعة النشر المستقل في مصر مثلاً وانخراط صناعة الكتاب ضمن اقتصاد السوق، وعشوائية النظام هناك كما ذكرت.

بأي معنى ترى وجوب إزاحة حدود الكتابة وتحريرها، خاصة حدود اللغة التي يستخدمها الكاتب؟

بالتأكيد، وهذا ما أشدد عليه دائماً في اللقاء الأول من ورشات الكتابة التي أوجهها، في الظروف الاجتماعية والسياسية الراهنة لا مفر سوى من تحرير اللغة وإزاحة الحدود وتوسيعها، أنا أقول لهم عليكم خيانة القارئ المتخيل والمنظومة التي تربض على أكتافكم، وبالأساس خيانة لغة وكتابة المدرسة الثانوية واستفزاز معلم/ة درس الإنشاء في المدرسة، قد يكون النص الأول صادماً وفظاً، ولكن التراكم الفردي والجماعي هو ما يخلق لغة جديدة وبالتالي واقعاً كتابياً جديداً.

كيف ترى أهمية قراءة التراث للروائي، وإلى أي مدى يمكن الاستفادة منه أو التناص معه؟

لم أفهم بالضبط ما القصد بكلمة تراث، هنالك عدة أنواع من الكتّاب وأنواع مختلفة من التراث.. ولكن الكاتب وفي مرحلة متقدمة من سيرته يظل نتاجاً لتراث ما، مسرحي، أدبي، سينمائي، الكاتب الذي لا يعتمد على تراث ما يقدم نصاً ناقصاً دون تاريخ ودون طبقات، في يولّا أجريت تناصاً واضحاً مع الأعمال السينمائية المصرية التي تربيت عليها وكذلك تناصاً مباشراً مع تاريخ ومعاني المسرح الرحباني في السبعينيات وتأثيره المباشر على وجداننا كأطفال حينها وصياغته بمواضع كثيرة، لا يمكن للكاتب أن يأتي ويطرح نفسه ورؤياه بدون تاريخ فني وثقافي ما، حيث يتضح الفراغ من السطور الأولى من النص.

انشغلت منذ البداية في الكتابة عن الرغبة والجسد بمفهومهما الأوسع والأشمل، واستهوتك دائماً الكتابة الإباحية أو البورنوغرافية التي تبدأ من حالة شبق ونهم جنسي خالص لتنتهي بمقاربة نفسية ما تحمل قدراً كبيراً من التعاسة البشرية. ألم يسبب لك ذلك عنصر قلق أثناء الكتابة؟

الموضوع الجنسي ليس موضوع ترف وبالذات للكاتب، فالشخصيات الأدبية تظهر أصدق أبعادها وطبقاتها عندما نحشرها في زاوية الشبق والشهوة، وخاصة أن للشهوة ثمن غالباً باهظ حيث تدخل الشخصيات في أنفاق معتمة وخطرة لبلوغها وتحقيقها، التعاسة هي عندما لا يجد المرء وبالتالي الشخصية المفترضة التي يداعبها، من يتبادل معها سوائله، من ينبش روحها أو من ينفخ داخلها أنفاس جديدة.. السعي لتحقيق الشهوة محفوف بالمخاطر والمتعة والتعاسة.. الكثير من التعاسة ولكنه عبارة عن رحلة تستحق التجربة... أما بالنسبة للكتابة الإباحية فهي تستهويني جداً وخاصة أنها تضم قماشة واسعة للوصف، والتفاصيل الصغيرة والتشريح الجسدي وهي كتابة سيزيفية لها أسرارها تعتمد في أحيان كثيرة على الوصف البارد والتقني جداً وغير المتواطئ عاطفياً والإلحاح ما قد ينسج نصاً خاطفاً دون فذلكات كثيرة. مثل هذه النصوص لا تقلقني ولا تتعبني ذهنياً ونفسياً، على العكس، فهي تحررني كثيراً من عبء الكتابة الأكاديمية، ربما أصبحت أمتلك أدواتها وحرفيتها بشكل ما، ما يرهقني بالفعل هو تحرير مثل هذه النوعية من النصوص للآخرين، فمن بين عشرة نصوص تصلني لأنبوب يرضيني نص واحد بالكاد (باستثناء نصوص الكتّاب المكرسين في هذا المجال بالطبع) وذلك بعد عملية ترميم شاملة، للأسف مفهوم الكتابة الإباحية لا يزال مشوهاً لدى الكاتب العربي المبتدئ.

من يقرأ نصوصك قبل نشرها؟

بالنسبة للنصوص القصيرة، لا يقرأها أحد، عادة أفاجئ من حولي بنصوصي إثر نشرها، وحدها رواية «يولّا وأخواته» عرضتها على بعض الأصدقاء الفنانين من خارج الحقل الأدبي قبل إرسالها للناشر.

أنت كثير الأسفار، هل تتقاطع لديك أفكار الانتقال والسفر والتجريب مع الكتابة بشكلٍ ما؟

لدي علاقة جدلية مع السفر فمن جهة واحدة أنا أحب السفر كفكرة دائمة وكمحطات بين فترة وفترة خلال السنة، ولكن عندما يقترب موعد السفر أخاف وفي بعض الأحيان أفكر حتى بإلغاء الرحلة قبل السفر بساعات، وخاصة إن كنت مسافراً لوحدي ولا ينتظرني برنامج ما كمؤتمر أو قراءة أدبية، أخاف من الشعور بالوحدة عند وصولي إلى المكان، ولكنني أسافر في نهاية الأمر وأكرر نفس الأمر بعدها بأشهر، لماذا أروي كل هذا؟ لأن هذا الإقبال على السفر والخوف منه في ذات الوقت هو ما يجعلني في النهاية أجرب أيضاً في الكتابة وخاصة عندما أسافر، نحن نعيش في حرب أهلية متواصلة مع هدنات طويلة، الشعور الدائم بالتوتر يجعل الروح تتآكل، هنالك شعور دائم بالضيق والتوتر وبأنك في مكان غير طبيعي وهو كذلك، من الوهم أن نعتقد أن مثل هذه الأجواء تحفز على الإبداع والكتابة، السفر لأماكن مختلفة بضغط هواء مغاير يجعلك تشعر بإنسانيتك والتفكير بالجماليات، الحياة المتوترة الدائمة تعلمك القيام بأمور تافهة لتمرير الوقت.

تكتب المقالة الثقافية والاجتماعية والشعر والقصة والرواية. بين كل هذه الأجناس الأدبية، أين هو الولاء الحقيقي؟ وأين المستقر الأكثر دفئاً وأماناً لك؟ وكيف تعلل هذا التنوع الكبير في إنتاجك الأدبي؟

سؤال محير، لأنني ببساطة لا أفضل نوعاً، يتعلق ذلك بالفترة التي أعيشها، توقفت فترة عن كتابة المقالة الثقافية وذلك لإنجاز الرواية ولكني بصراحة اشتقت لهذه الكتابة كثيراً، وها أنا قد عدت إليها وأنا سعيد بذلك جداً، أثناء كتابة يولّا وبعد نشرها مباشرة شعرت أنني أعيش في مأتم عائلي طويل لا ينتهي، سيستغرقني الأمر وقتاً كي أعود إلى الكتابة على طريقة يولّا، أحياناً أتفرغ للكتابة الإباحية... وهكذا... أنا لا أفصل بين هذه الأجناس فهي متداخلة بالنسبة لي وأحبها جميعها، وأحب دمج عدة ملامح منها في نص واحد، ولكنني أكره الكتابة في مواضيع تطلب مني وتحدد هويتها مسبقاً ولحسن حظي هذا نادر جداً.

صرحت في حوار سابق أنك "معني بالأنا والشهرة والتميز". سؤالي: ألا تخشى "الزهو الخادع" حسب تعبير الكاتب النمساوي توماس برنهارد؟

أنا أبعد ما يكون عن الزهو، حتى أن من حولي يلومونني على تواضعي وعدم سعيي للشهرة، حتى أنني فاشل جداً بالتشبيك وبناء العلاقات "المفيدة" فأنا من أقل الكتّاب الذين تتم دعوتهم للمهرجانات العالمية والمحافل الأدبية بسبب عدم إتقاني لمثل هذه العلاقات، ولست نادماً على ذلك على فكرة، فهنالك شاعر فلسطيني واحد يحتكر كل سوق الدعوات هذه ولا رغبة ملحة لي بمصادقته للوصول إلى هذه الأماكن، فأنا بالكاد أذكر له بيتاً شعرياً واحداً. لا أذكر بأي سياق قلت ما ورد بالسؤال، ولكني على ما يبدو أقصد بأنني لا أؤمن بالكتابة للجوارير إن كنت موهوباً، فقد يصل الكاتب لسن الخمسين دون أن يحقق شيئاً، على الكاتب أن ينشر كل ما يكتبه وأن يتعلم من أخطائه وأن يتفاعل مع القراء، ويتواصل مع منصات النشر الجدية والمتميزة ويبني لنفسه رؤيا تتعدى الكتابة المقتطعة، والأهم أن يخلق تراكماً نصياً ينطلق منه قدماً. وهنا علي أن أشدد أن التقرب ومنافقة من هم في أماكن مفصلية تساعد على انتشار الكاتب بغض النظر عن موهبته كما ذكرت في بداية الإجابة لكنها  ليست جزءاً من تطوير الذات الكتابية والتواجد بل أحياناً تتناقض معها.

لمن تكتب؟ وما الذي يدفعك إلى الكتابة؟ ما الذي يحفزك؟

باختصار شديد هنالك أمور في حياتي تنتشلني من هاوية الكآبة التي تنتظرني في الأسفل فاغرة فاها، منها الأبوة والجنس ومن أهمها الكتابة.

كيف تعيش مع الزمن الرقمي؟ وإلى أي حد غيرت الوسائطية من طقوسك في القراءة والكتابة؟

جعلني هذا العصر أكتشف بأنني ربما ولدت مع لابتوب في حضني، لا أحب الإمساك بالكتب الورقية كثيراً، خلافاً للنظرة الرومانسية السائدة، طقوس فتح الكتب والاستلقاء على الأريكة والتهامها لا تستهويني كثيراً، قد تجدني طيلة اليوم محتضناً للابتوب، أترجم وأكتب وأقرأ عشرين مقالة مثلاً وعشرة نصوص وبالطبع ”الفيسبوك“ وهو الوسيط الوحيد الذي أستخدمه، فهو يتيح لي الاطلاع على كل ما يحدث ضمن دائرة معارفي الحقيقيين والوهميين، والأهم من ذلك كتابة الستاتوسات السريعة  (والنارية غالباً) ففي التسعينيات حين بدأت بكتابة النقد كنا نصيغ ألف كلمة حول فكرة يمكن كتابتها اليوم بستاتوس متوسط الطول، ثم نبيّضها ونرسلها بالفاكس وننتظر لتنشر في صحافة نهاية الأسبوع (هذا إن نشرت)، الزمن الرقمي جعلني استثمر بحق في الفكرة التي أرغب بالكتابة عنها وإحاطتها بالكثير من المعرفة لفائدة القارئ، أعتقد أنه من أهم منجزات العصر الرقمي أنه قضى على أهمية "كلمة المحرر" ومقالات الثرثرة والهراء التي كانت تملأ الصحف الورقية، وإن كانت وللأسف قد انتقلت إلى التلفزيون وهذا موضوع آخر.

أخيراً، أين ستكون الخطوة الجديدة في مسارك الإبداعي؟

أكتب منذ أشهر معالجة لرواية جديدة، ولكني أتوقف وأعود، لم "أسكب" النص الفعلي داخلها بعد، فكما قلت سابقاً أحتاج لفترة "نقاهة" من الكتابة الجنائزية التي ميزت «يولّا وأخواته».

يُشار إلى أن راجي بطحيش شاعر وقاص وروائي وكاتب مقالة في الشأن الثقافي والاجتماعي، من مواليد الناصرة عام 1970. صدرت له حتى الآن عشرة كتب تراوحت بين الشعر والقص والنثر والمسرح والرواية، وهي: «الظل والصدى»، (شعر)، الناصرة 1998. «العري وقصائد أخرى»، (شعر)، دار الشروق، رام الله/عمّان 2002. «حديقة للشتاء .. ظل ربيع ضاع»، (يوميات نثرية)، دار الشروق، رام الله/عمّان 2003. «بدل الضائع»، (قصص قصيرة)، 2005. «غرفة في تل أبيب»، (قصص قصيرة)، ٢٠٠٧، «ملح كثير .. أرض أقل»، (قصص قصيرة )، 2009. والمجموعات الثلاث صادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر.

وفي العام 2011 صدر له «بر - حيرة – بحر»، (بورتريه منثور)، دار أزمنة، عمّان، وبعدها بعامين أصدر مجموعته السردية «هنا كانت تلعب روزا». وفي العام 2017 صدرت روايته «يولّا وأخواته»، عن منشورات المتوسط، ميلانو 2017. هذا بالإضافة لمقالات عديدة في مجال الجنسانية والسينما والأدب في العديد من الصحف والمواقع الالكترونية الثقافية العربية. قدم راجي العديد من والورشات للكتابة الإبداعية للأطفال والشبيبة أبرزها في توسكانا - ايطاليا وجبل المكبر القدس، له مسرحية واحدة بعنوان «فقدان» وهي عبارة عن ورشة فنية تدمج بين الرقص المعاصر، الشعر والفيديو آرت. شارك عام 2007 في فيلم «غرفة في تل أبيب» للمخرجة ابتسام مراعنة، ودرّس السينما الفلسطينية والإسرائيلية والكتابة الإبداعية في الجامعة الإسرائيلية المفتوحة. وهو يدير ويحرر حالياً موقع "أنبوب" وهو موقع مكرس للكتابة التجريبية العابرة للأجناس الأدبية المعتادة التي تواجه وصاية الأنظمة العربية السياسية والأخلاقية على الثقافة. وكان أن أسّس وحرّر زاوية ”كويريات“ الرائدة على موقع "قديتا" الفلسطيني، وهي تعد أول زاوية مخصصة للكتابة الكويرية في موقع ثقافي عربي.

ننشر غداً فصلاً من «يولّا وأخواته»