ميرا صيداوي: المسرح انتشلني من التّصنيف

2018-05-23 11:00:00

ميرا صيداوي: المسرح انتشلني من التّصنيف
من عرض: أيوبة

وعلى سيرة الهوية، فإن ميرا تعتبر أن "مظلوميتي هي التي شكلت هويتي، ولكن تجميلها عبر الأدب والعديد من الأسماء الأدبية، جعل لها شكلاً جلياً واضحاً في الممارسات الفنية المسرحية والسينمائية والكتابية"

عادة ما يلتقي صحافي بفنان لإجراء حوار حول تجربته وحياته، لكن اللقاء مع الفنانة ميرا صيداوي يبدو أنه حمل بعداً آخر، هو كيف ينتمي الفنان لمجتمعه ويقدمه جميلاً أو قبيحاً، المهم أن يقدمه بمقولته الكاملة. وبالفعل بدأنا الحديث بجمل عادية عن يومياتنا، وسرعان ما ذهب الكلام بينما نشرب قهوتنا عن مطر بيروتي بدأ ينهمر للتو.

شردت ميرا قليلاً، سألتها ما بها. وكان أنها تتذكر بيتها الذي كانت تسكنه مع أسرتها. ظننت أنها تتحدث عن بيت في أحد مخيمات اللاجئين الفلسطينيين الممتدة على طول الخارطة اللبنانية، لكن المفاجأة كانت، أن البيت الذي نشأت به ميرا يقع على تلة في منطقة بشامون قرب بيروت، البيت كان يقوم على جدران وسقف من التوتياء، كما أن البيت لم يكن عادياً، كان جيران هذه العائلة الفلسطينية غير عاديين، فالأشجار وبعض الحيوانات بتلك البراري هم جيران عزلتهم في ذاك المكان القصي.

ربما صدمتي بوصفها "منزلها" اكتملت عندما قالت ميرا إن الحياة فيه استمرت نحو 22 عاماً، فعلياً انتهت قبل سنوات قليلة، عام 2009.

نشأة ميرا صيداوي

والدا ميرا، هما حكايتها الأولى، الحرب أرض الحكاية المستمرة حتى هذا اليوم، تقول: "عايشت الحكاية الفلسطينية من خلال أبي الفلسطيني جداً، وكان واحداً من الفدائيين ضمن حركة فتح، وإخوتي كانوا ضمن قوات الـ 17"

حلمُ والدها تجلى بها، كان يريد أن يكون كاتباً، ويبدو من كلامها أن ملامح الكاتب كانت متوافرة في شخصيته لكن الحياة دارت دورتها عليه، فأصبح كما تقول: "ناطوراً لبناء في حين كان حلمه أن يكون كاتبا". خلال هذه التراجيديا في حياة والدها بدأت الفنانة الفلسطينية ميرا صيداوي تدرك اللاعدل عبر تحولات والدها المعيشية.

والدها كان يعمل في توصيل الطلبة إلى مدارسهم صباحاً، وإعادتهم بعد انتهاء الدوام، كانت له طقوسه، وميرا كانت تراقبها كونها كانت بين هؤلاء الطلبة، كان يضع في أذنه قطعة نقدية من فئة "500 ل.ل" ويستمع لعبد الباسط عبد الصمد صباحاً، والكوفية تلف عنقه، وحين يعيد الطلبة، تكون أم كلثوم في صدارة الصوت داخل "الفان". ومع ذلك لم ينج هذا الوالد من صلف الناس الذين ما كانوا ليقدّرون كدحه، فشاهدت صاحبة مسرحية "قفص" والدها يُضرب.

اللاعدل ظل قصة صاحبة "أيوبة" للمخرج الفلسطيني عوض عوض، وتمثيلها ومساهمتها بكتابة النص؛ المتابع لهذا العمل يكشف تفاصيل مرعبة في حياة المرأة الفلسطينية، وهنا تتجلى ميرا ببحثها عن حقوقها ليس كإمرأة فحسب، بل كفلسطينية تتعبها الحياة يومياً بتفاصيلها الكثيرة في التنقلات والدخول والخروج، ومحاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه، كذلك البحث عن مكان طبيعي لموت طبيعي يشبه موت الآخرين. في فيلمها "مخيم على دواليب أربعة" سؤال مفتوح عن الموت، أو بالأصح سؤال مفتوح عن الحياة ورغبة البقاء، وصولاً لحلم البلاد التي تبدو في إجابات اللاجئين في المخيمات عند سؤالهم "أين تحب أن تموت“، فتكون الإجابة عفوية وسريعة "في البلاد"، ولماذا فتاة في مطلع الثلاثينات من عمرها تفكر بالموت وسؤاله الكبير، تجيب: "الشيء الذي شكل روحي أكثر حدة، الألم من وفاة أبي، معه اكتشفت فكرة الموت، وهنا تجلت فكرة الرفض التام"

معضلة البحث الطويلة للاجئ الفلسطيني في لبنان عن منابت العيش الطبيعي، خلق عند الممثلة الفلسطينية ميرا صيداوي، فكرة الرفض التي تعتبرها: "رفضي للواقع أتعبني وأوجعني.عدم الرضا بالظلم جعلني أعي فكرة المظلومية، كنت أنام بلا عشاء.. صورة المجتمع التي وُضعنا بها جعلتني رافضة".

هذا الرفض لحياتها في "بركس" لسنوات طويلة مع والد شاهدته يهان أمام أعينها رغم طيبته وكرمه وعمله الدؤوب من أجل عيش كريم أدخلها في سؤال جديد "ماذا يجب أن أفعل؟" وكان: "الذي أنقذني من هذا الواقع، الفن. فكرة أنه ليس لدي بلد، بت أخلقه وأحلم به".

بين النشأة والحضور

استمرّ المخيم بحضوره في حياتها الفنية والشخصية حتى اليوم، فما من مشروع تعمل عليه ميرا، إلا والمخيم هو الحاضر الأول، ولعل آخر أعمالها الذي لم يخرج للنور بعد يعبر عن ذلك واسمه "المخيم الذي طار"، كذلك نقلت المشاركات المسرحية والتجارب إلى المخيمات ضمن مشروعها الفني المؤمن بالطاقات الكامنة في صدور أبناء المخيمات، ولا سيما من لديه موهبة إبداعية في الكتابة والتمثيل والإخراج، وهذا ما فعلته حين نقلت مع المخرجة الفلسطينية عليا الخالدي مسرحية "قدم" إلى مخيم برج البراجنة قبل شهرين، وكذلك سعيها مع فريق مسرحية "أيوبة" لإقامة عروض داخل المخيمات.

المخيم وقبله البركس، عمقا شعور الرفض لديها، فخرجت من منزل "التوتياء والخشب" وتقول هنا: "رفضي تطوّر إلى أن خرجت  من البيت سنة 2008، جئت إلى المدينة، إلى بيروت، وعرّتني، ضعت في بيروت والمدينة"، وفي هذه السنة أيضاً "التحقت في الجامعة اللبنانية، ودخلت قسم المسرح ليس حباً بالمسرح والتمثيل، ولكنني كنت بحاجة للتعبير عن الذات.. وفي الجامعة كنت أشعر بالوحدة والغربة بسبب ذاكرتي الثقيلة، المبنية في بيت في الطبيعة والعيش مع الحيوانات". وتضيف ميرا: "قبل تركي بيت أهلي، كنت أرسم وكنت متأثرة بناجي العلي، فأقمنا أنا وصديقتي معرضاً في ”الأونيسكو“، حمل اسم ”نبض“ ، وقمنا بمعرض ثان ”نبض 2“ ، وهذه كانت بدايتي مع التعبير، وإحدى رسوماتي كانت تقول "يما ليش معناش سقف، يما لأن معناش أرض"، وهذا مرتبط بأننا نمنا أربعة أيام بلا سقف".

ميرا وبيروت

هذه التفاصيل بنت شخصية ميرا صيداوي الفنية وأضافت لشخصيتها تحديدا مع رفض المدينة لها كما قالت: "المدينة كانت صعبة ووجهت لي العديد من الصفعات، خلال كل الوقت كنت بحاجة لاعتراف من المدينة بمظلوميتي".

المدينة اعترفت ولم تعترف بمظلومية الفنانة ميرا صيداوي، فاكتشفت أن بيروت "على مقدار واحد لا من الحب ولا من الكره، والأشخاص في بيروت من المثقفين بقدر ادعاء حبهم لك كفلسطيني بقدر أنهم لا يفهمونك". وتضيف حول الثقافة والمثقفين "التحرر الذي يدعيه المثقف بالثقافة، هو غطاء مصطنع وغير حقيقي، وليس موجوداً. الشكل الثقافي الذي تنتجه المدينة لا ينتج هوية واضحة".

هذا الواقع أيضا رفضته ميرا صيداوي، ورفض إثر رفض تتحدث ميرا من خلال فيلمها "مخيم على دواليب أربعة": "كنت رافضة اللامنطق واللاعدالة. أي احترام للإنسانية حين يتحول والدي من مشروع كاتب إلى ناطور. رفض النظام الذي في كل الوقت يكذب عليّ. نحن الفلسطينيين نبذل جهداً كبيراً لنكون لطيفين" وهذه الأوضاع جعلتها تخلص لنتيجة "الفلسطينيون مجموعة قضايا بقضية واحدة اسمها فلسطين".

هذا الرفض الطويل، والهزائم الكثيرة، كان لا بد له من علاج وتقليم حتى يستقيم، فكان المسرح: "بدأت العمل في المسرح، وأعتبر أنني من خلال المسرح والكتابة، بدأت أخذ ثأري من التصنيف، وبعد ذلك بدأت أشعر بنصري، بدأت أرتاح، مثلت في المسرح تجارب أعتبرها جريئة، وعلمتني الخشبة تبني قضايا لا تمت لي بصلة، والكتابة أيضاً جعلتني وتجعلني قادرة على خلق عوالمي، والأفلام تعلمني المحاربة".

حين أصبحت ميرا.. ميرا

بدأت مع المخرج اللبناني ناجي فراتي بمسرحية "في قلب أحد ما" وهو عمل تجريبي، تقول عن هذه التجربة: "طردني من العمل بعد العرض الأول بذريعة أني ممثلة فاشلة" لم تشعر بالهزيمة هذه المرة، واستمرت، فعملت بالرقص التعبيري مع فهد العبدالله، واستمرت: "عملت بالأفلام القصيرة مع غنى عبود "بتول شايفتني" وفيلم "تصريح"، وأفلام طويلة كـ " طريق بيروت - مولهولند 150 ألف كيلومتر" مع فجر يعقوب، وفيلم فرنسي لبناني ”اذهبي" مع الممثلة الإيرانية غولتي شيفه فرحاني".

وعن عملها المسرحي تسرد بعض أعمالها: الأعمال المسرحية هي "مذهب" مع لينا خوري، ومع لينا أبيض "قفص"، و"سيستاميكل" لبديع أبي شقرا، و"كاماسوترا" مع مخرجة ألمانيا وكان العرض جسدياً. و"أيوبة" مع عوض عوض.

كتبت مع جريدة "الأخبار" اللبنانية، وساهمت ضمن ورشة كتابة أقامها معهد غوتة في بيروت، وأخيرا كتاب "11 حكايات من اللجوء الفلسطيني".
 

من عرض: قفص


صراع من أجل البقاء

ليس لمبدع في أي مجال إبداعي كان، أن يكون وليد نفسه ووليد تجربته، وميرا تبدي بوضوح أن الروائي اللبناني المعروف إلياس خوري هو الأكثر تأثيراً بشخصيتها، وساهم بشكل كبير بمعرفة هويتها الفنية التي هي ذاتها هويتها الشخصية.

وعلى سيرة الهوية، فإن ميرا تعتبر أن "مظلوميتي هي التي شكلت هويتي، ولكن تجميلها عبر الأدب والعديد من الأسماء الأدبية، جعل لها شكلاً جلياً واضحاً في الممارسات الفنية المسرحية والسينمائية والكتابية"

وتحديداً تجد ميرا أن هذا التعبير الفني عن الهوية يمرّ بمراحل كما تقول، مع إضافة: "الإبداع دائماً يتوالد، ولا ينتهي، وطالما أن هناك مبرراً سيكون هناك حساً للإبداع ولخلق الجمال. التحدي يساعدني في تشكيل إبداعي. وبعفوية اكتشفت أن لا فصل بين الإبداع والإنسان، فالحب والأرضية التي يشكلها هي سبب من أسباب الإبداع. بلادي هي سؤالي المستمر، ماذا أفعل؟ اكتشاف النفس هو جزء من اكتشاف البلاد".

فلسطين ميرا

البلاد ربما هو السؤال الأبرز لميرا اللاجئة والتي أصبحت فنانة باكتشافها موهبتها الإبداعية فتقول أن فلسطين "ليست جغرافيا"، بل: "فكرة قيامي بوجه الظلم، والمقاومة من أجل العدالة".

لكن الفن يبدو أنه وضح لميرا أمراً يقوله الفلسطيني بعفوية المنتمي لأرضه، لكنها في حوارها معنا توضح "أنا وفلسطين واحد، أنا وهي نؤمن معاً ونعمل معاً ونسقط معاً وننتصر معاً. وفلسطين ليس سهلاً أن ترضى، والبلاد التي ترضى ببساطة هي حالة من الاستسلام، هل أرضى بجنود يقسمون البلاد، بمجتمع يصنف الآخرين. فلسطين لن ترضى بالظلم".

ولماذا فلسطين وهي مع تلك البلاد صنوان لا يفترقان؟ تحاول الإجابة من خلال تجربتها المسرحية: "عبر المسرح، أبحث عن خصوصيتنا كفلسطينيين" وفي مسرحية ”أيوبة" تحديداً تفصّل: "أحمل أمي ونساء المخيم معي خلال العرض. أحمل الناس حين أكتب، حين أؤدي، القباحة التي نعيشها جميعاً، أصبحت جزءاً من جمالنا".

العلاقة المنسجمة بينها وبين فلسطين وبين الفن، لا يجمعهما سوى الحب، الحب الذي ألحدت وآمنت به ميرا، مع استرسال لها: "الحب العظيم يدعك تتجلى حتى آخر لحظة. يجعلك تعيش التناقضات، ويخبرك في لحظة أنك لم تكتشفني بعد، فحاول. أدرك الآن أن الحب هو سلاحنا، هو انتصارنا، وفقدانه هزيمتنا".

المسرح الفلسطيني

ميرا صيداوي اللاجئة الفلسطينية ابنة مخيمات لبنان، لم تستسلم لغياب المسرح الفلسطيني في لبنان، وتشير أن المسرح الفلسطيني في الداخل موجود وحاضر ويصنع مكانته على خشبته الفلسطينية، بينما في لبنان تقول: "هناك محاولات جادة وحقيقية لإعادة الاعتبار للمسرح في الشتات، ولعل من بعض هذه الأسماء، رائده طه، عليا الخالدي، عوض عوض، أحمد العربي، لينا أبيض اللبنانية، أبرز دليل على صناعة مسرح فلسطيني حقيقي يعبر عن هموم فلسطين واللجوء معاً.“

وتشير ميرا لطعم المسرح الفلسطيني في بيروت بأنه صاحب نكهة خاصة: "لقدرته على صنع مصالحة بين ذاكرتي الحرب الأهلية والثورة الفلسطينية".

وعند هذه النقطة تضيف حول هوية المسرح الفلسطيني وخصوصيته في لبنان ومواطن اللجوء عموماً حيث تقول إن على المسرح الفلسطيني: "أن يكون موضوعه فلسطينياً، ممكن أن نخرج بمسرح فلسطيني حداثي خارج الكليشهات. نحن نبحث عن مسرح جديد حداثي غير مباشر، وأرى أن هذا المسرح لكل الناس، وهنا تترتب مسؤولية أخرى وهي إنتاج أدب مختلف وجديد، لأننا كفلسطينيين علينا أن ننتج عملاً غير عادي، لأننا غير عاديين.“

بعد نحو ساعتين ونصف انتهى الحوار في ذلك الصباح البيروتي، وكانت ميرا تجيب على اتصالات مختلفة تحضيراً لعرض جديد لمسرحية "أيوبة" في الجامعة الأميركية ببيروت.
 

من عرض: أيوبة