محطّات من الأغنية السياسيّة الفلسطينيّة

2018-06-09 18:00:00

محطّات من الأغنية السياسيّة الفلسطينيّة
فدائيون

مع بداية الانتفاضة الشعبيّة الأولى في العام 1987 وإدراك الفلسطينيّين أن المواجهة مستمرة وعارمة، تبلورت أشكال لمواجهة الاحتلال، فبدا بعض الموسيقيّين علنًا وسرًا بنشر أغان وطنيّة توصف الحالة الجديدة غير المسبوقة. أغان تحثّ على التحرك المواجهة والصدام، وقامت قوات الاحتلال باعتقال العديد من الموسيقيّين لقمع الأغنية الوطنيّة التحريضيّة التحرريّة. برز من بين هذه الاعمال: شريط كاسيت "حجر بلادي مقدس"،

لعبت الموسيقى العربيّة دورًا في حياة الفرد والجماعة، وساهمت الموسيقى العربيّة في تعبئة الحيز السياسي للحراك القوميّ واليساريّ العربيّ على امتداد تاريخه بنماذج موسيقيّة هامّة تستحق التوقف عندها. وعرفت الموسيقى انتقالات ما بين التعبير عن روحانيات الفرد إلى التعبير عن طموحات الجماعة. وقد عرفت الموسيقى العربية أيضًا، كمعظم أشكال الموسيقى في العالم، تعابير طبقيّة ودينيّة تعكس المباني الاجتماعيّة والدينيّة للبلدان العربيّة.

النكبة وتشريد الموسيقى الفلسطينيّة

فلسطينيًا، شهدت الموسيقى تحولات وأحداث هامّة على المستويين الفردي والجماعي، الروحاني والوطني. كانت الموسيقى الفلسطينيّة، كغيرها من مركبات البناء الفلسطيني، ضحية الاستعماري الذي حلّ على فلسطين، ويمكننا الحديث عن النكبة التي حلت بالموسيقى الفلسطينيّة، حيث شكّلت فلسطين مساحة هامة للموسيقيّين الفلسطينيّين والعرب، وكانت على وشك تحقيق انطلاقات كبيرة لكن أدماها وقوع النكبة. مع تأسيس الكيان الكولينالي رسميًا عام 1948 و"تثبيت" حالة التشرد والتشتت، غاب حضور الموسيقى الفلسطينيّة إلى حد كبير مع بقاء مساهمات لموسيقيّين كبار على مستوى الموسيقى العربيّة والعالميّة: سلفادور عرنيطة، روحي الخماش، أوغسطيوس لاما، رياض البندك ويوسف خاشو في المنفى، ريما ناصر ترزي وأمين ناصر في بير زيت. وحضرت بالأساس الموسيقى العربيّة، ببعض انتاجاتها، لتعبّر عن الفقدان الفلسطيني من خلال أغاني قوميّة ووطنيّة تعبر عن حالة الصراع والاشتباك.

مع انطلاقة العمل الثوري الفلسطيني، الذي عُرف باسم "العمل الفدائي" في أواسط الستينيات، من أجل استعادة الأرض المسلوبة، بدأت حراكات موسيقيّة لبعض الموسيقيّين والشعراء؛ حراكات موسيقيّة سياسيّة، التحمت مع الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة بانطلاقتها. بعدها، وعلى مدار فترات متباعدة، وبإعداد محدودة، ازدادت الإنتاجات الموسيقيّة الغنائية السياسيّة الفلسطينيّة، وصولًا لتكثيف الإنتاج الموسيقي السياسي في فترات متأخرة. تحاول هذه المقالة تقديم قراءة مختصرة لمحطات مركزيّة في الأغنية السياسيّة الفلسطينيّة ومكانتها في الحيز الوطني والثقافي العامين.

عن الأغنية الثوريّة

تأتي الأغنية لتعمّق ارتباط الإنتاج الثقافي الموسيقي بالحدث الملحمي، فالكلمة الشعريّة والجملة الموسيقيّة تصقلان المعاني ويعملا على ترتيب مفردات الارتباط بالأمكنة وبالهوية وموضعتهما في مشاريع مطلبيّة نضاليّة. يمكن للأغنية أن تبلور المعرفة والوعي وتحولهما لشكل من أشكال الإدراك الهوياتي الجمعي. تحوّل الأغاني السياسيّة التعابير الحسيّة الفرديّة والجماعيّة من آلام، أحزان، غضب، شعور بالقمع، بالإذلال، الفقدان أو التمييز إلى تعابير خطابيّة تُختصر بالشكل الموسيقي. توثّق الأغنية لذاكرة جماعيّة تتوارثها الأجيال وتبلور عمليات المعرفة بالتفاصيل العامّة والخاصة وتحوّلها لشكل من أشكال الإدراك الهويّاتي والـ "نحن" الجماعيّة.

لا يقتصر دور الأغنية على التمجيد للفعل الثوري والتحريض عليه، بل هي بالأساس بمثابة بيان سياسي نضالي، وفي الحالة الفلسطينيّة هي جزء من الخطاب التحرري. وهي أيضًا مخزون للذاكرة الجمعيّة في واقع شهد ويشهد رداءة في الحالة السرديّة التوثيقيّة، فتقوم الأغنية بوظيفة تثقيفو تعبئة والتفاف الجماهير حول الخطاب السياسي. انتشرت في صفوف الفدائيّين والطلبة والأعراس والمناسبات الوطنية. كانت الأغنية الوطنيّة الفلسطينيّة رافدًا مساهمًا في إعلاء قضية فلسطين عربيًا.
 

 

"طلّ سلاحي من جراحي" والانطلاقة

مع مرور حوالي خمسين عامًا على انطلاقتها، لا تزال أغنية "طلّ سلاحي من جراحي" هويّة ووثيقة تاريخيّة لحقبة هامّة في تاريخ الأغنية الثوريّة الفلسطينيّة، لحقبة في تاريخ النضال السياسي والعسكري الفلسطينيّ وكذلك هي تؤرخ للسياق الشعري والموسيقي الفلسطيني لفترة ستينيات وسبعينيات القرن الماضي.

كانت "طلّ سلاحي" إلى جانب مجموعة مهمّة من الأغاني نتاجًا لنشاط موسيقي وشعري لمجموعة الكورال التابعة لحركة فتح مع انطلاقتها. من الأغاني المعروفة : يا شعبي كبرت ثورتي، يا شعبنا هز البارود، ما بنتحول، مدي يا ثورتنا مدي، عهد الله ما نرحل، ع الرباعية، جر المدفع، ابن فتح، ويا جماهير الأرض المحتلة"، وكان من أهم الشخصيات المساهمة في نتاج الفرقة: من الشعراء أبو الصادق الحسيني، محمد حسيب القاضي، سعيد المزين، ومن الملحنين مهدي سردانة ووجيه بدرخان.

انطلاق كورال الثورة سجّل المحطّة الرئيسية للغناء الفلسطيني المقاوم بعد النكبة. كانت هذه الأغاني متأثرة بالأغنية الوطنيّة المصريّة التي تصاعدت في فترة المواجهة بين مصر ناصر والدول الاستعماريّة. كانت الألحان والكلمات منسجمة انسجامًا تامًا مع مناخ وتفاصيل العمل الفدائي، محرّضة على الانضمام والالتحام بصفوف الثورة، ألحانًا يطغى عليها الطابع العسكري والتغني بمواجهة العدو. كانت الأغاني سريعة سهلة الترديد وجمل شعريّة موسيقيّة مباشرة.

كانت أغاني الثورة تبثّ من صوت العاصفة ولاحقًا من صوت فلسطين في القاهرة بعد دمج الوسائل الإعلامية التابعة لمختلف الفصائل في إطار سُمي بالإعلام الموحد.

هناك ضرورة للتطرق لحقيقة أن هذه الأغاني هي أغاني المنفى واللجوء، لم يكن الداخل الفلسطيني مؤثرًا في إنتاجها الشعري والموسيقي خصوصًا أن قيام إسرائيل أجهز على الحالة الموسيقيّة داخل مناطق الـ 48 والحركة الشعريّة لم تتسلل للعالم العربي بشكلها الحالي إلّا بعد الستينيات. كذلك فإن وصول أغاني الثورة الفلسطينيّة كان متاحًا عبر إذاعات صوت فلسطين من بغداد والقاهرة، الأمر الذي شكّل صعوبة في التقاطها وترويجها تحت الحكم والقمع العسكري الإسرائيلي في الداخل.
 


السبعينيات: مرحلة أغاني العاشقين

بعد منتصف السبعينيات كان هناك ازدياد في الحراك الموسيقي والشعري لناشطين داخل منظمة التحرير الفلسطينيّة، وازديادًا في عدد الشباب الفلسطيني في مجالي العزف والغناء، والتفتت الدائرة الإعلاميّة لهذا النبض وللحاجة لوجود فرقة موسيقيّة تمثيلية للمنظمة. كان لقاء الملحن الكبير حسين نازك مع الشاعر الكبير الراحل أحمد دحبور نقطة انطلاق فكرة الفرقة المركزيّة الفلسطينيّة.  تأسّست في العام 1979، وغنّت لشعراء فلسطينيّين: توفيق زيّاد، سميح القاسم، محمود درويش، حسين حمزة، نوح إبراهيم وأبو الصادق صلاح الحسيني. وقد لحن معظم أعمال الفرقة حسين نازك، وفي الغناء حسين منذر وكانت أيضًا مشاركة  الانطلاقة مع الموسيقار المغني السوري سمير حلمي.

أحدثت أغاني العاشقين وقعًا في الفضاء الفني الفلسطيني وفي المزاج الشعبي، فكانت بمثابة فعلًا جماليًا يستفز الذاكرة، يستذكر التاريخ والمكان بلغة الفعل الحاضر، وكانت الكثير من الأغاني انعكاسًا للألوان الغنائيّة الشعبيّة التراثيّة مع بصمات حسين نازك الموسيقيّة التي صقلت وطوّرت اللون الشعبي، مما سهل على تواجدها في الوجدان الجماهيري العامّ من جهة، وحضورها الموسيقي الجاد المتميّز من جهة أخرى. هذا التواجد باختلافه عن الفترة السابقة لكورال الثورة دخل أكثر في تفاصيل النكبة وما قبلها، حيث نجحت الأغاني بالتوثيق لشخصيات هامّة بالنضال الفلسطيني ضد الانتداب البريطاني والحركة الصهيونيّة. حملت أغنية العاشقين السياسيّة أيضًا تطرقًا للحركة العماليّة الفلسطينيّة وخلدت لوقائع عسكريّة وفدائيّة في التاريخ الفلسطيني. وكانت هناك محطّات غنائية هامّة للفرقة قدّمت من خلالها ألحان موسيقيّة مركبة ومتطورة، أذكر منها غنائيّة "سرحان والماسورة" للشاعر توفيق زيّاد التي خلدت قصة نضال سرحان العلي ضد الاستعمار. غنائيّة "الأرض" لمحمود درويش التي خلدت شهيدة يوم الأرض خديجة شواهنة وأغنية "من سجن عكا". وكان للشاعر أحمد دحبور دورًا مركزيًا بانتشار أغانيها، بداية من "اللوز الأخضر" وصولًا لأغنية الفرقة الشهيرة "اشهد يا عالم" ومجموعة أغاني "الكلام المباح".
 


لغة العاشقين هذه الجراح    من فلسطين أرسلتها الرياح

هبت النار والندى حملتها    والعتابا والميجانا والسماح

الكلام المباح ليس مباحاً      ونغنيه فالاغاني سلاح

سرنا راية على راس رمح     فاذيعي أسرارنا يا رياح

من يلتفت إلى تاريخ العاشقين بمجمله يلحظ التحولات في انتقاء الألحان والنصوص والمضامين، وأحد أهم تلك التحولات هو دخول شعراء الأرض المحتلة إلى فضاء أغنية المنفى السياسيّة الثوريّة بشكل خاص والأغنية السياسيّة العربيّة بشكل عام. هذا الدخول أحدث تغييرًا نوعيًا في التعابير الشعريّة والحسيّة للأغنية السياسيّة التي تعكس صورة الإنسان العادي وليس المقاتل فقط.

أعطت فرقة أغاني العاشقين زخمًا ثقافيًا للتواصل الفلسطيني الفلسطيني بالشتات، حيث عرضت الفرقة في عدة دول عربيّة وأوروبيّة ولاتينيّة، وازداد حضور العاشقين في المشهد الثقافي الفلسطيني أيضًا داخل الأرض المحتلة خصوصًا بعد المدّ الوطني الذي أحدثته انتفاضة يوم الأرض 1976. لعبت الفرقة دورًا سياسيًا ثوريًا مركزيًا في الأغنية السياسيّة لغاية العام 1993 وتوقيع اتفاقيات أوسلو، حيث شهدت تراجعًا وتشتتًا لأعضائها، وإن كانت حاولت استجماع تركيبتها لبعض العروض. ظلّت مضامين أغاني العاشقين حاضرة بخطابها الوطني التحرري وخطاب العودة، كحالة فنيّة نقيضة لحالة أوسلو، واشتد حضورها خصوصًا في الفترات التي تشهد تصعيدًا في المواجهات مع الاحتلال.

لم تكن فرقة العاشقين الظاهرة الغنائيّة الثوريّة الوحيدة في تلك الفترة، فقد كان هناك عدد من الفرق والمغنيّن، لكن في هذه المقالة نحاول رصد أهم المؤثرين على تلك الحقبة. من الفنانين الكبار الذين ساهموا في ترك بصماتهم على الأغنية السياسيّة، كان الزجال الشعبي محمد إبراهيم صالح المعروف بأبو عرب، ابن قرية الشجرة المهجرة، قرب طبريا.
 


بعد مساهمات متفرقة في الأغنية الوطنيّة، انضم أبو عرب في العام 1978 إلى إذاعة صوت فلسطين ليركز على عطائه الموسيقي الثوري. في العام 1980، أسس فرقة فلسطين للتراث الشعبي، التي أصبح اسمها لاحقًا فرقة ناجي العلي، بعيد اغتياله. كانت الأغنية الشعبيّة لأبو عرب سهلة الانتشار للونها الشعبي المألوف، الزجل الشعبي الفلسطيني، المميز بآلة اليرغول. فغنى أسطورة  "ظريف الطول" وحملها تعابير سياسية فدائية انتشرت في القرى المدن والمخيمات وفي أوساط التنظيمات الفلسطينية. وكان الزجال الشعبي، أبو عرب من الرياديّين الذين حملت أغنيتهم السياسيّة انتفاضة يوم الأرض في الجليل، فخلّدها ووثّقها بأغنية "كرمالك يا يوم الأرض". ومن أغانيه المشهورة والمنتشرة لغاية اليوم، أغنية "هدي يا بحر"، "ما نسيتك يا دار أهلي"،" يا يمّا في دقة عبابنا". لم تبتعد أغاني أبو عرب عن المضامين التي عملت عليها الفرق الوطنيّة الفلسطينيّة، ظلّت هي تلك الأغاني التي تتحدث عن الحلم الجماعي بالتحرير والعودة للديار.

لا يمكن التحدث عن الأغنية السياسيّة الفلسطينيّة دون ذكر تجربة فرقة صابرين المقدسيّة. حيث أسّست تلك الفرقة للون موسيقي جديد في الأغنية الوطنيّة يقودها الملحن سعيد مراد والمغنية كميليا جبران. وغنّت لشعراء نذكر منهم محمود درويش وسميح القاسم وحسين البرغوثي، أحد المزودين المركزيّين لأغنيتهم السياسية. بدت موسيقى سعيد مراد متأثرة بألوان شرقيّة وغربيّة متداخلة، التي أعتبرها برأيي إحدى التجارب المهمّة التي أحدثت تحولًا في اللون الموسيقي للأغنية السياسيّة الفلسطينيّة. فكانت ألبومات "دخان البراكين" و"موت النبي" و"جاي الحمام" مساهمة نوعيّة للموسيقى الفلسطينيّة خاصّة، والإنتاج الثقافي الفلسطيني عامّة. وكانت أغنياتهم تحولًا من حيث إحداث العلاقة بين معاناة الشعب ومعاناة الفرد، موسيقى صابرين تعمّقت في تفاصيل الإنسان الفلسطيني، تراثه، وحتى تقديم نصوص شعرية مغناة ترسم شخوص ومجموعات مركبة للمجتمع الفلسطيني: "عن إنسان"، "أبو حبلة" و"النوري"، وخطاب إنساني وعاطفي لهموم الإنسان الفلسطيني، مثل أغاني "وصلّي علي"، "ثلاثين نجمة" و"يماي". انتهت تجربة صابرين مع مغادرة المغنيّة كاميليا جبران لمتابعة مشوارها الموسيقي خارج فلسطين في حين استمرت مؤسّسة صابرين بالعمل في مجال التربية والتثقيف الموسيقي. تركت أغنية "صابرين" السياسيّة بصماتها في الموسيقى الفلسطينية وما زالت تردد في أوساط شبابيّة وأوساط المثقفين والموسيقيّين.
 


تجارب أخرى والانتفاضة الأولى، 1987

في أواسط الثمانيات، تأسست فرقة الفنون الشعبيّة من قبل مركز الفن الشعبي في رام الله، وقد قدّمت الفرقة الرقص ممزوجًا بالكلمة السياسيّة. ومن المساهمين في التلحين والكتابة الشعرية للفرقة؛ الموسيقار سهيل خوري والشاعر وسيم الكردي، قدّمت أغاني التراث في أعمال "مشعل"، "وادي التفاح" و"زريف"، والمميز في هذه التجربة للأغنية السياسيّة، هو إدخال التراث الشعبي في قوالب وأشكال موسيقيّة جديدة لم تعهدها موسيقى التراث.

مع بداية الانتفاضة الشعبيّة الأولى في العام 1987 وإدراك الفلسطينيّين أن المواجهة مستمرة وعارمة، تبلورت أشكال لمواجهة الاحتلال، فبدا بعض الموسيقيّين علنًا وسرًا بنشر أغان وطنيّة توصف الحالة الجديدة غير المسبوقة. أغان تحثّ على التحرك المواجهة والصدام، وقامت قوات الاحتلال باعتقال العديد من الموسيقيّين لقمع الأغنية الوطنيّة التحريضيّة التحرريّة. برز من بين هذه الاعمال: شريط كاسيت "حجر بلادي مقدس"، وهو مجهول هوية الموسيقيّين والمغنّين والمؤلفين، وبرز المغني الزجال ثائر البرغوثي بمجموعة أغاني أبرزها "شدي انتفاضة" ونزلوا صبايا وشبان". كذلك انتشرت مجموعة أغاني الفنان الموسيقي وليد عبد السلام وابرزها "نزلنا عَ الشوارع".
 


في أواسط ثمانينات القرن الماضي، ما قبل وبعد الانتفاضة، كان هناك حراك للأغنية السياسيّة في أوساط فنيّة إضافية. برز الفنان المقدسي مصطفى الكرد بأغانيه الوطنيّة. وقد تميّز الكرد بربط الأغاني الوطنيّة بمعاناة الإنسان الفلسطيني. وقدّمت أغنيته السياسيّة الأغاني الطبقيّة اليساريّة التي خاطبت جماهير العمال والفلاحين فاشتهرت أغانيه ومنها "هات السكة"، "عادل" و"منتهى". برز كذلك في الأوساط اليساريّة الفنان جميل السايح الذي قدّم أعمالًا غنائيّة هامّة من ألحانه، ركزت أغانيه على قراءة أوجاع المكان والإنسان وتفاصيل المدن فغنى مثلاً أغنيته الشهيرة "رصيف المدينة" و"يمّا القدس عريانة".

الداخل الفلسطيني

في الوقت الذي مارس شعراء الداخل الفلسطيني دورًا مركزيًا حاسمًا ومتقدمًا في تزويد الأغنية الفلسطينيّة بالنصوص، سواء كان ذلك في الشتات أو في الضفة الغربية فقد كان المشهد الغنائي السياسي الوطني في أراضي الـ 48 متخلفًا إلى حد كبير مقارنة بالحالة الشعرية. حتى أواخر السبعينات، لم تظهر الأغنية السياسيّة إلّا لدى بعض الحالات التي من المهم ذكرها، حيث وضعها زجّالون كسعود الأسدي وعوني سبيت، اللذين قدما أغاني الالتصاق بالأرض والصمود والثبات. ويمكن ذكر الأغاني والأهازيج الشعبيّة الفولكلوريّة التي حملت مضامين وطنيّة وأُنشدت في الأعراس، واشتدت أكثر بعد يوم الأرض. ويمكن أن نرجح انتشار هذا النوع من الغناء السياسي لمصادره الشعبيّة الفطريّة كحالة عضويّة أساسيّة للتراث الغنائي الفلسطيني، وكونها أغاني الأعراس والحارات والحواكير التي كان من الصعب محاصرتها وملاحقتها بشكل دائم باختلاف الأغاني الوطنية التي تؤدى في النوادي الحزبيّة والقاعات، ويُسهل لأجهزة المخابرات ملاحقتها.

شهدت ثمانينيات القرن الماضي نهوضًا ملحوظًا في الأغنية السياسيّة داخل مناطق الـ 48، عُرفت تلك المرحلة بصعود فرقة "يعاد" من قرية الرامة في الجليل، التي قدّمت أغاني شعراء الداخل وأغاني فرقة العاشقين. هذه الفترة شهدت بداية صعود ثلاث فنانات شابات ليتحولن لثلاث مغنيات مركزيات في الأغنية السياسيّة الفلسطينيّة خلال العشرين سنة التالية. ونتحدث عن الفنانة الراحلة ريم بنّا، الفنانة أمل مرقص والفنانة ريم تلحمي. وإن تحدثنا عن نساء مغنيات في مجال الأغنية السياسيّة، فإننا نستطيع أن نشير بذلك إلى مركزيّة الداخل الفلسطيني في مجال الغناء النسائي، حيث افتقدت الساحة السياسيّة الفنيّة العنصر النسائي في الغناء الوطني كعنصر ريادي على المسرح. بالإضافة لهؤلاء الثلاث، يمكن إضافة مغنية فرقة صابرين، الفنانة كميليا جبران، ابنة الرامة الجليليّة، ليتحوّلن بذلك إلى رباعي نسائي أثّر على حاضر الأغنية السياسيّة الفلسطينيّة.
 


إن محاولتي لتحليل أسباب تأخر انطلاق الأغنية السياسيّة الفلسطينيّة في الداخل يفترض وجود عدة أسباب؛ السنوات الطويلة لأيام الحكم العسكري التي قمعت النشاط الثقافي كانت عاملًا معيقًا للنهضة الفنيّة، في بداية الثمانيات ازدادت اللقاءات السياسيّة والحزبية بين الفلسطينيّين من الـ 48 والضفة الغربية، التي تخللتها أنشطة ثقافيّة حفزت تطوّر الأغنية السياسيّة في الداخل. توجّه الشباب العرب للدراسة في القدس والالتقاء مع الحيز الثقافي الفلسطيني، دفع أيضًا نحو تطوّر الإنتاج الموسيقي السياسي.

جواز سفر

تحاول المقالة تسليط الضوء على محطّات مركزية في تاريخ الأغنية السياسيّة الفلسطينيّة وموضعتها في سياقها الفلسطيني الأدبي، السياسي والوطني، لكن برأيي هناك ضرورة للتحدث عن أغنية فلسطينيّة تحمل "جواز سفر" عربي، أيّ حال الأغنيّة العربيّة الوطنيّة منذ منتصف السبعينيات التي أدّت نصوصًا فلسطينيّة. غنّت أصوات غنائيّة عربيّة لفلسطين وارتبط اسمها بفلسطين رغم أنها ليست فلسطينيّة، وهنا أتحدث على سبيل المثال للحصار عن مارسيل خليفة، أحمد قعبور، خالد الهبر وفرق عربيّة أخرى كفرقة الطريق العراقيّة، حيث تحوّلت أغانيهم إلى بوصلة الجماهير العربيّة نحو فلسطين. وكانت أغانيهم ذات حضور مركزي في التاريخ الطويل للأغنية الثوريّة الفلسطينيّة.
 


لم ينته المشوار...

رغم النكسات السياسيّة العميقة التي تعرضت لها حركة التحرر الوطني الفلسطيني، ما زالت الأغنية السياسيّة الثوريّة تلعب دورًا في الحراكات الوطنيّة والثقافيّة. ورغم اختلاف شكلها الموسيقي، واختلاف تطورها، فهي ما زالت صاحبة دور في تثقيف أجيال موسيقيّة. ونشهد في القرن الواحد والعشرين نشاطًا غنائيًا متميزًا بلغات موسيقيّة وتعبيريّة وحسيّة متعددة. أذكر مثلًا فرقة "ولعت" التي تطرح أغنية سياسيّة تركز على مدينة عكا، كما وفرقة "دام" التي تحترف موسيقى الراب ذات الأصول الأمريكيّة مقدّمة أغاني الاحتجاج السياسي. وبالتأكيد هناك الكثير من المغنّين والفرق التي لم آت على ذكرها، والتي تلعب دورًا في الصورة الكليّة للأغنية الوطنيّة السياسيّة.

أخيرًا، وعن الموسيقى الفلسطينيّة، من المهم أن لا نبالغ في وصف الموسيقى الفلسطينيّة كموسيقى صمدت رغم النكبة، وأن نتجنب الأوصاف الرومانسيّة التي تحولها لبقاء بطولي وأسطوري. علينا أن نتعامل بجدية مع الأذى الاستعماري والجريمة الثقافيّة التي سببها الاستعمار الكولنيالي لفلسطين، وأن نتحدث عن دوره بقطع أوصال النمو الطبيعي للموسيقى الفلسطينيّة وتشتيت قدراتها، هذه الجريمة الكولنياليّة الثقافيّة التي دفعت نحو نشوء الأغنية السياسية الثائرة المقاومة.


مراجع:
- سهيل خوري: الموسيقى الفلسطينية. امتزاج الموسيقى الشعرية بعنفوان الشعر (مقالة الكترونية).
- صفحة الموسيقار حسين نازك.


هذا المقال هو جزء من ملف "الأغنية الفلسطينيّة، سردية الناس والمكان" إهداء لذكرى الفنانة الفلسطينيّة ريم بنّا. وهو من إعداد رشا حلوة.