الأغنية الفلسطينيّة... نافذة النضال السوري الأوّل

2018-06-11 13:00:00

الأغنية الفلسطينيّة... نافذة النضال السوري الأوّل
Palestinian singer Rim Banna performs during a concert in Damascus on January 8, 2009

وقد اعتدنا كسوريّين أن نمارس نضالنا الثوري من خلال القضية الفلسطينيّة، فلم يكن لدينا مكان آمن سواه لنعبر عن غضبنا ورفضنا للعنجهيّة، كما لم تكن لدينا سبل كثيرة للتعبير عن عواطفنا وغضبنا سوى الموسيقى، في بلد كانت تخضع لقانون طوارئ تعسفي، حيث يُمنع فيه تجمع أكثر من خمسة أشخاص دون تصريحات أمنيّة.

واكبتُ في طفولتي الانتفاضة الفلسطينيّة الأولى، من خلال ما سمعته والتمسته في عيون عائلتي وحولي في المجتمع، ورغم صغر سني، كان الأمر هامًا جدًا.

أذكر أننا في ليلة صيفيّة مع عائلتي وأعز أصدقائهم وهي عائلة فلسطينيّة، قد جلسنا حول أبي وعوده في دمشق، حيث بدأ يدندن بكلمات لمطلع أغنية أخذ يؤلفها خلال السهرة.

التففنا نحن الصغار الأربعة حوله، وبدأنا نردد معه: "يا أرض اشتدّي ويا دار، يا أرض جدودي الأحرار، زرعناكِ ليمون وفل، زرعناكِ زيتون وغار، يا أرض اشتدي ويا دار".

مع نهاية السهرة كنا جميعًا نردد أغنية وليدة اللحظة والعاطفة والحالة، وكنت وقتها في الرابعة من عمري، أصغر الحاضرين، وعندها تعرفتُ للمرة الأولى على القضية الفلسطينيّة، وعن عُمق الصلات بيننا وبين أهل فلسطين، عن أمنيات الأرض المسلوبة، وعن الرغبة التي لا تتوقف لدى الجميع بمواجهة الظلم.

كان ارتباطنا كسوريّين بالقضية الفلسطينيّة غير محدود بالشروط السياسيّة أو النشرات الإخباريّة، فقد كان ارتباطًا اجتماعيًا وثيقًا، مُمثلًا بتشابك المُجتَمعين، ولطالما كانت الموسيقى وسيلة تعبير صادقة بيننا وبين الفلسطينيّين.

حيث عمّ في الثمانينيات نبض ثوري وعنفوان نضالي لا يشبه ما أتى بعده من انكسار، وكنا صغارًا وكبارًا حينئذٍ نُغني مِلء حناجرنا مُنشدين: "أناديكم أشد على أياديكم، وأبوس الأرض تحت نعالكم، وأقول أفديكم". وقبل أن أفهم المعنى تمامًا كنتُ كطفلة صغيرة، أكوّن مشاعري الأولى ورأيي تجاه القضية الفلسطينيّة.
 


يا ليل ما أطولك

احتضَنَت سورية تجارب موسيقيّة فلسطينيّة أصيلة ابتداءً بالموسيقي حسين نازك، الذي أسّس "فرقة أغاني العاشقين"، والتي حازت على شهرة عربيّة واسعة، في السبعينات والثمانينات، ومَثلت الفن الفلسطيني المُلتزم الذي يغني القضية، فجاب بها الوطن العربي منطلقًا من دمشق، كما أسس لاحقاً فرقة "أشبال التحرير" في مخيم اليرموك السوري، والتي ظلت تقدّم أنشطتها الفنيّة الحيّة على مدى ستة عشر عامًا، على مسارح دمشق، من خلال أغانٍ وأناشيد للأطفال.

كما استقبلت سورية المغنية ريم بنّا، التي قامت بأداء أول حفلاتها في دمشق من داخل منزلها الفلسطيني، عبر شاشات السكايب، وبُثّ في إحدى مقاهي المدينة القديمة، قبل أن يتم منحها إذن الدخول إلى الأراضي السورية فيما بعد لتُقيم حفلاتها وسط جمهور متعطش للمس كل من هو قادم من تلك الأرض المحجوبة عن البصر، الملموسة في القلب والبصيرة.

وقد اعتدنا كسوريّين أن نمارس نضالنا الثوري من خلال القضية الفلسطينيّة، فلم يكن لدينا مكان آمن سواه لنعبر عن غضبنا ورفضنا للعنجهيّة، كما لم تكن لدينا سبل كثيرة للتعبير عن عواطفنا وغضبنا سوى الموسيقى، في بلد كانت تخضع لقانون طوارئ تعسفي، حيث يُمنع فيه تجمع أكثر من خمسة أشخاص دون تصريحات أمنيّة.

فحَفِظ السوريّون كل قصائد النضال الفلسطيني، وقرؤوا الأدب وغنوا أناشيد الحرية، بحثًا عن صوتهم المخنوق، وحلمهم بعودة حق من الحقوق الإنسانيّة المسلوبة.
 


وين.. عَ رام الله

أعادت الفرقة السورية المعروفة "كلنا سوا" أغاني النضال الفلسطيني إلى الساحة السوريّة، وقدمتها للجيل الناشئ منذ أواخر التسعينات وحتى 2008 بصورة مُحَدثة، أحيَت المشاعر النضالية لدى جيل كان قد تعرض للانكسار والقمع أكثر من سابقه، وكان لأغنية "أم الشهيد" التي كُتِبت بالأساس للشهيد الفلسطيني، وَقع مؤلم لدى السوريين، الذين عادوا لمُشاركتها عند ذكر شهداء الثورة السوريّة فيما بعد، فاختلَطت المأساة السوريّة والفلسطينيّة وجمعهما دم الشهداء.

الأغنية من تأليف الشاعر الفلسطيني محمد الريماوي وألحان ابنه الموسيقي إياد الريماوي، وتقول في مطلعها:

يا إم الشهيد اطلعي عالباب لاقيلو

جابوه محمّل على الكتاف شالوه

قومي افرشي فرشتو وهاتي مخداتو

نام العريس وغفي وتغمضوا عيونو

يا أم الشهيد اجمعي شعره وجدليه

وأغلى عطر عالراس يا يما رشيله

اليوم عرسه حبيب الروح المدلل

هاتي تياب العرس هاتي مناديله
 


كما غنى بعض الفلسطينيّين للشام وسوريا وحلب وغيرها من المناطق، خاصة في سنوات الحرب الأخيرة، وشكّلت الأغنية التراثيّة "يا نجمة الصبح فوق الشام عليتي"، والتي أعادت غنائها واعتبارها الفنانة الفلسطينيّة سناء موسى، جسرًا جديدًا عاطفيًا يجمع سورية وفلسطين، ويخلق خيطًا من التواصل الذي لم ينقطع يومًا بين الشعبين.

ورغم كل الألم، لم ترتبط الأغنية الفلسطينيّة في سوريّة بالمناسبات الحزينة أو الذكريات المشؤومة، بل كان لها حضورها في الأعراس والاحتفالات وكل السهرات الراقصة، وكان يتوجب على الحاضرين النهوض للرقص عندما تبدأ أغنية "وين عَ رام الله"، التي غنتها فرقة "كلنا سوا" أيضًا.

غير أننا مؤخرًا أصبحنا أكثر تأثرًا بالواقع السوري والفلسطيني، وبات مُلفتًا كيف بتنا نلتف حول أصدقائنا الفلسطينيّين في سهراتنا القليلة في دمشق، عندما نسمع أغاني "يا ظريف الطول" وغيرها من الفلكلور الفلسطيني المُحدث، فنعانقهم ونرفعهم أحيانًا فوق الأكتاف، ونرقص الدبكة معًا في احتفال صارخ في وجه كل أشكال العنف والتعسف التي تواجهنا معاً، نرقص بكل ما أوتينا من حياة لنواجه ألمنا المشترك.
 


هذا المقال هو جزء من ملف "الأغنية الفلسطينيّة، سردية الناس والمكان" إهداء لذكرى الفنانة الفلسطينيّة ريم بنّا. وهو من إعداد رشا حلوة.