الرواية الأولى بعد 3 دواوين شعرية

«منبوذ الجبل».. عبد الله ناجي يكشف الوجه الآخر لمكّة

2018-06-20 12:00:00

«منبوذ الجبل».. عبد الله ناجي يكشف الوجه الآخر لمكّة
Ahmed Mater. Workers’ Camp, Mecca, 2015. C-print, 20 x 30 in. (50.8 x 76.2 cm). Courtesy of the artist. © Ahmed Mater

الحب أيضاً موضوعة رئيسية ضمن محاور «منبوذ الجبل»، عدّة تجليات للعنة الحب تحضر في دراما الرواية، الحب الأول، الحب السري، الحب الصامت، الحب من طرف واحد، وأخيراً الحب القاتل، الذي يؤدي إلى خراب البيوت، الحب الحرام بين رجل وامرأة متزوجة، في مجتمع أصولي تماماً

يقْدِم اليمني عبد الله ناجي على مغامرة فنية جريئة، في روايته الأولى «منبوذ الجبل»، والصادرة مؤخراً عن دار مسكيلياني للنشر في تونس، عندما يجعل من مدينة مكة، قدس أقداس المسلمين، فضاءً مكانياً رئيسياً لروايته، ليس ذلك فحسب، بل ويعرض حياة الشوارع الخلفية والليل، حياة الصعاليك في حارات مكة والمغامرين المتشردين الذين يحصلون على أقواتهم يوماً بيوم.

مكّة.. من الداخل

لمدينة مكة عدة وجوه، وجه مؤمن متدين سماوي، ووجه تجاري بحكم موقعها المميز، ووجه مكة الثقافي بشعرائها وكتّابها وندواتهم، ثم هناك الوجه السرّي، الوجه العاشق، مكة المغرمة المحبة التي تمارس هذه المشاعر سرّاً بعيداً عن العيون، في الغرف المظلمة أو عبر فضاء الإنترنت.. هذا ما يحكيه البطل (أحمد بن يحيى الحداد) الشاعر المطمور في النسيان، لصديقه الفنان التشكيلي (بندر) والذي يُقبَض عليه لاحقاً بسبب تواجد فتاة في مسكنه.. وهذا ما يقدمه الكاتب في روايته.. إذ يحفر ناجي في الميراث المكّي، ويعرض صورة جديدة مغايرة لأم القرى، صورة لا يعرفها إلا المكّيون على طريقة "أهل مكة أدرى بشعابها". وبهذا يكون ناجي قد مهّد فضاءً مكانياً مميزاً لروايته، فضاء مكاني يعرفه هو جيداً بحكم الميلاد والنشأة.

يرد في الرواية: "على عكس ما كنت أتصور، فقد بدأ الضجيج الذي بداخلي يقل، وبدأت روحي تهدأ، بينما كان ضجيج المدينة وصخبها آخذاً في العلو والازدياد، بدأت مكة تتكشف لي عن مدينة أخرى، المدن لا تتعرى إلا لأبناء الشوارع، وأنا أصبحت ابن شوارعها. لم يكن يزعجني ذلك الصخب بل كنت أؤلف من خليط الأصوات موسيقى للحياة، الحياة هي الصخب، وبإمكانك أن تمارس عزلتك وسط الضجيج". (ص 169)

يحفر ناجي أيضاً في مسألة الهوية، عبر بوابة الجنسية وجواز السفر، فأحمد بن يحي الحداد، وُلِد لأب يمني وأم سعودية من الجنوب، وبفضل هذه الأم، حصل أبناؤها على الجواز السعودي فور بلوغهم سن الثامنة عشر، إلا أحمد، الذي كان ضحية لإلغاء القانون الذي يسمح للأم بمنح جنسيتها السعودية لأبنائها.. فبقي يمنياً وسط عائلة سعودية، بل وسط مجتمع سعودي كامل، الأمر الذي تسبب في شرخ بينه وبين أسرته أولاً، ثم بينه وبين محيطه ثانياً. وقد عايش البطل لمواقف كان عرضة فيه للترحيل، الترحيل إلى بلد لا يعرفه ولم يره ولا علاقة تجمعه به عدا جواز سفره اليمني!

الحب أيضاً موضوعة رئيسية ضمن محاور «منبوذ الجبل»، عدّة تجليات للعنة الحب تحضر في دراما الرواية، الحب الأول، الحب السري، الحب الصامت، الحب من طرف واحد، وأخيراً الحب القاتل، الذي يؤدي إلى خراب البيوت، الحب الحرام بين رجل وامرأة متزوجة، في مجتمع أصولي تماماً

أدوات الكاتب

اعتمد ناجي بناءً دائرياً لروايته، فالبداية هي النهاية، في إشارة (تقنية) بين السطور للمتاهة التي نعيش فيها والمسماة بالحياة، وقام الكاتب بتخصيص الرقم 0 (صفر) للفصل الذي يفتتح الرواية، فصل يمكن حذفه وقراءة الرواية دونه، ويمكن اعتماده ليصبح مفتتحاً صفرياً لمتتالية سردية من الفصول تشكل متن "منبوذ الجبل"، حيث تتشكّل الرواية من ستة فصول هي: "التفاحات المتساقطة". "الحب لا يقع صدفة". "الكتابة شأن إلهي". "صعاليك المدينة". "أحاديث الجبل". "قربان الشعر". ويرسم كل فصل منها مرحلة من حياة البطل، بدءاً بالطفولة ثم الصبا والشباب وتفتح ملكة الشعر، ثم الحب الأول والخذلان الأول، الطرد من البيت والاستقلال والعمل كسائق أجرة غير قانوني بسيارته الخاصة. عطفاً على صداقته مع إبراهيم، صديقه ومعلمه وأبيه الروحي. مروراً بقصص حب سريعة وفاشلة لكنها تنعش الحياة. ثم تعرض البطل للسجن وتهديده بالترحيل قبل تدخل إخوته من أصحاب الجواز السعودي. وأخيراً هجرانه للشعر.

تبدو لغة عبد الله ناجي كما لو كانت موسيقى، ربما مرد ذلك إلى قدومه إلى عالم السرد عبر بوابة الشعر، فقد سبق له أن أصدر ثلاثة دواوين شعرية: «أتصاعد في صمت»، «الأرواح»، «منازل الرؤيا». لم يجد صعوبة في إيجاد صوته السردي وأسلوبه، إذ لا حاجة حقيقية في الرواية لتقمّص أصوات أخرى، لأن «منبوذ الجبل» كُتبت بالضمير السردي الأول (الأنا)، وهي أيضاً رواية تدخل بشكل أو بآخر تحت تصنيف ”التخييل الذاتي“ وفقاً للفرنسي سارج دوبرفكسي (1928 – 2017). حيث يتكئ ناجي على ذاته، على معارفه الشخصية وخبراته الحياتية، لذا جاءت لغته الذاتية الآتية من خلفية شعرية متسقة مع موضوع السرد. ويجدر بنا هنا التنويه إلى أن لغة الرواية، ورغم الخلفية الشعرية للكاتب، لم تكن لغة شعرية، مزخرفة بالمجازات والتشبيهات والمبالغات كقطعة حلوى تحمل سكّراً أكثر من المطلوب، بل هي لغة بسيطة انسيابية متدفقة في سلاسة مدهشة، سلاسة السهل الممتنع. وهذا السهل الممتنع ليس سوى الصوت الكتابي لعبد الله ناجي وبصمته الأسلوبية.