في عام 1994 طرد من حضور تدريب للمنتخب البرازيلي، ورفض رئيس الكونفدرالية البرازيلية أن تسند إليه مهمة التعليق على إحدى المبارايات. كما رفض المدرب ماريو زاغالو أن يلقي باربوسا التحية على اللاعبين اتقاء للعنة التي تتلبسه.
١- حلبة اسمها ماراكانا
كان ملعب ماراكانا كناية عن حلبة عملاقة لها مظهر أسطوري، وكأنها خارجة من عمق الميثولوجيا الإغريقية. افتتح الملعب يوم 16 يونيو 1950 مع بداية المونديال. ذاك المونديال الذي حلم به البرازيليون طويلًا إلى حد تخيّل الكأس في حوزتهم منذ بدايته. غذّت صورة ماراكانا المنقولة -بشحّ وقتها عبر وسائل الإعلام في العالم- لدى البعيدين جغرافيًا أسطورة الملعب الذي يمارس سطوته وسحره على اللاعبين والمتفرجين معًا. كانت قدرته الاستيعابية مذهلة، بحيث تبدو لنا حتى اليوم، ونحن نشاهد أفلام الأرشيف، أنها فعلًا مظهر من مظاهر ماراكانا الأسطورة. وكان عدم تصديق معمارية الملعب المدهشة شائعًا بين الناس، حتى تخيّلوا سقوطه يومًا بمتفرجيه. لكن الذي سقط فعلًا بعد شهر من افتتاحه هو منتخب السيليساو.
٢- المباراة التي لا تزال تجري منذ 1950
في 16 يوليو جمع نهائي المونديال بين البرازيل والأورغواي، التعادل كان يكفي للأول كي يحصد لقبه العالمي. سبقت النهائي هيستيريا جماعية ممتدة من أعلى رأس في هرم السلطة إلى آخر ماسح أحذية. انتشرت الهيستيريا في البيوت والمقاهي، وفي الشوارع والمتنزهات العامة. هذا الجنون الخالص جعل منتخب السيليساو متوجًا عن جدارة، لكن في رؤوس البرازيليين فقط.
بدأت المباراة هادئة تحت أنظار المتفرجين الذين بدوا مطمئنين لمجريات اللقاء. الجميع مدرك أن التعادل يعد انتصارًا، والانتصار يعني أنهم صنعوا الأسطورة في ماراكانا. تظهر لقطات المباراة جمهورًا جذلًا، ومفعمًا بروح الانتصار التي تسربت إلى وجوههم قبل أن تتحول إلى واقع.
انتهى الشوط الأول بتعادل سلبي رسخ تلك الطمأنينة المستقرة منذ أيام. لكن هدف البرازيل في الشوط الثاني أطلق كل المكبوتات الدفينة، والمتعلقة بجنون العظمة الكروية، وأعطى للهيستيريا التي سبقت المباراة كل ذرائعها. كانت الكأس الذهبية تكاد تُلمس من كل البرازيليين. ما أجمل القرب من نهاية المبتغى! هذا ما كان يستشعره الجميع. غير أن هدف تعادل الأورغواي جعل البعض يوشوش لنفسه: ماذا لو ...؟
في الدقيقة 72 من المباراة، وهي أشهر دقيقة في تاريخ كأس العالم. دقيقة لم يعرف البرازيليون كيف أتى بها توقيت الساعة، وتمنوا فيما بعد محوها بالكامل. دقيقة عبثت بمصائرهم غير عابئة بما استنزفوا من فرح، وبما استدعوا من احتياطي الحلم لينعموا بالتتويج الملكي في قلب ماراكانا. في تلك الدقيقة بالتحديد، ظهر اللاعب الأورغوياني ألسيديس غيشيا على الجناح الأيمن -وكأنه شبح آت من العدم- أمام باربوسا حارس المرمى البرازيلي. ظن الحارس أن غيشيا يريد أن يوجه الكرة نحو اللاعبين المتمركزين حول المرمى فغادر عرينه. إذاك سدد غيشيا ناحية المرمى، فهزم باربوسا، ومعه كل شعب البرازيل. ومن ثم أسقط ملعب ماراكانا الضخم في صمت تجاوز حدود الملعب ليحل محل تلك الهيستيريا التي استوطنت البرازيليين منذ شهور. في تلك الدقيقة المجنونة تحول ماراكانا الصاخب إلى مقبرة صامتة، مسحوقة تحت ثقل الهزيمة التي حلت بالبرازيل حسب تعبير أحد المعلقين.
٣- صدمة ماراكانا
اعتبرت هزيمة ماراكانا كارثة وطنية حقيقية، هيروشيما برازيلية، وهو التعبير الذي صاغه إعلام ذاك الزمن. ترسخت رمزية الهزيمة في ذاكرة البرازيليين الجمعية، ولم تغادرها إلى اليوم. هزيمة تتوارثها الأجيال كأنما هي ذكرى غير قابلة للنسيان. كأنما هي أيضًا، وقود لسعار الانتصار الذي يملأ منتخب البرازيل في كل مونديال. أخذت الصدمة اسمًا آخر في مجتمع يختلط فيه الدين بالخرافة والمعتقدات الشعبية، وهو اسم اللعنة. وكان لا بد من تشريح هذه اللعنة، وإيجاد من يقف خلفها. في اليوم ذاته، وبعد الهزيمة مباشرة، رفع جميع البرازيليين أشهر كبش فداء في تاريخ كرة القدم، بل في الأزمنة الحديثة. وكان اسمه باربوسا. في صورة التقطت من خلف المرمى بعد هدف الأورغوياني غيشيا، يظهر باربوسا ممسكا بالشباك، وبعينين شاردتين، ومحملًا بكل فجيعة الدنيا. صورة تلخص ما سيأتي لا محالة. كان باربوسا الملقب بإكسبرس الانتصار -ياللمفارقة!- مدانًا بسبب بشرته السوداء. اللعنة لا يحملها البيض، وباربوسا وحده المسؤول عن ضياع حلم أمة: كان هذا منطق الصغار والكبار في مجتمع متعدد عرقيًا، الأمر الذي ترتب عليه إقصاء حراس مرمى سود البشرة مذاك حتى 1999 مع مجيء ديدا.
في مونديال 2014 استعاد البرازيليون ذكراهم السيئة في ماراكانا، وتم الحديث مجددًا عن صدمة 1950. كان باربوسا في عداد الموتى، لكن لعنته لم تغادر رؤوس الناس. بل نسبوا له فيما بعد تلك الهزيمة الماحقة أمام ألمانيا، في منتصف النهائي وفي ماراكانا دائمًا.
٤- عزلات باربوسا اللانهائية
انتهى مسار باربوسا الكروي بعد هزيمة 1950، ودخل متاهة عزلات لا نهائية جديرة ببطل تراجيدي. وجد نفسه منبوذًا، مقصيًا من الجميع، لكن بدون أدنى شعور بالذنب. لم يقبل به في أية وظيفة، وتنكر له الجميع في كل تلك السنوات المديدة بعد الهزيمة، كأن عقابًا جماعيًا حل به. في سنة 1963 حصل باربوسا على عوارض مرماه التي كانت من خشب، وأحرقها في فناء بيته ليزيل معها اللعنة التي ظلت تلاحقه. حكى باربوسا أنه صادف في بداية السبعينيات امرأة مع طفلها في أحد شوارع ريو دي جانيرو، وبمجرد تلاقي أعينهما، قالت المرأة لابنها: انظر ولدي! إن ذاك الرجل هو الذي أبكى كل شعب البرازيل. لكن كلام المرأة أبكى باربوسا بدل طفلها، لأنه كان يعرف طبعًا أن الكراهية ستنقلها أجيال أخرى.
في عام 1994 طرد من حضور تدريب للمنتخب البرازيلي، ورفض رئيس الكونفدرالية البرازيلية أن تسند إليه مهمة التعليق على إحدى المبارايات. كما رفض المدرب ماريو زاغالو أن يلقي باربوسا التحية على اللاعبين اتقاء للعنة التي تتلبسه.
قبل موته بسنوات قليلة صرح باربوسا: في البرازيل تقدر العقوبة القصوى على جريمة بثلاثين سنة، وأنا أدفع منذ ثلاث وأربعين سنة من أجل جريمة لم أقترفها.
هل سيعاد في البرازيل الاعتبار يومًا لباربوسا المنكود الحظ؟ في الأقل دعوني أحلم وحدي بيوم سعيد، يوم تستبدل فيه تسمية ملعب ماراكانا بباربوسا.
هذا المقال هو جزء من ملف "أبطال الملاعب" وهو من إعداد تمّام هنيدي.