مانيفيل... عندما ينعي الوطنَ رجلٌ آلي!

2018-09-22 11:00:00

مانيفيل... عندما ينعي الوطنَ رجلٌ آلي!

​​​​​​​سيرة مانيفيل أقرب إلى سيرة نجم يقبع خارج الزمن والتاريخ، يبني في خياله مجدًا وهميًا كان ليتحقّق لولا الحرب الأهلية، يحاول بطلنا المهزوم مواجهة عجزه وشيخوخته، وعندما يخرج إلى شوارع بيروت يحيّي بحنين إلى الماضي تمثال الرئيس الأول للجمهورية بشارة الخوري في بيروت ما بعد الحرب زمنيًا،

من النادر جدا أن يكتب الناقد أو الباحث السينمائي عن رجل آلي ظهر في شريط عربيّ، فلم نعرف إلّا القليل من الأفلام التي حاولت أن تتعامل مع الخيال العلمي كصنف فني (جانر) من خلال  فكرة الآلة/الماكينة في ”أزمنتنا الحديثة“ التي  تفوّقت على الإنسان، أو عن الحبكات التي تدور حول علاقتنا بالكائنات الفضائيّة، من هذه النماذج القليلة فيلم ”رحلة إلى القمر“ (١٩٥٩) لإسماعيل ياسين أو ”خطيئة ملاك“ (١٩٧٩) بطولة حسين فهمي ونيللي، لكن الأشدّ ندرة وغرابةً، أن ينعي رجلٌ آليّ متفكّك، وطنًا عربيًا يشبهه في حاله إلى حدّ كبير داخل سرديّة فيلميّة! هذا ما قدّمه المخرج اللبناني فادي باقي في طيّات شريطه الروائي القصير ”آخر أيّام رجل الغد“ (٢٠١٧)،  حيث يرسم دهشةً واستغرابًا على وجوه مشاهديه ويطرح رزمةً من الأسئلة، منها سؤال جوهري في تعاملنا مع التاريخ المؤرشف بصريًا: هل ما نراه من صور ومقاطع تاريخية، هو وثيقة بصرية حقيقية أم أرشيفًا مفبركًا؟

علامات الدهشة نفسها رُسمت على وجوه حشود في ساحة الشهداء في لبنان عام 1945، بحضور الرئيس اللبناني بشارة الخوري والجنرال الفرنسي شارل ديغول، عندما أعلن الأخير عن هدية خاصة قدّمتها فرنسا إلى الجمهورية اللبنانية حديثة العهد يوم إعلان استقلالها، تتمثل برجل آليّ أطلق عليه اسم: Le nouvel homme - الرجل الجديد، أو كما سمي فيما بعد ”مانيفيل“.

ينال مانيفيل شهرة واسعة ويدخل القصر الجمهوري ليقدّم القهوة ويحضر الاجتماعات الرئاسية، ويتشرف بحضوره الزعماء الذين يلتقطون معه الصور الفوتوغرافية، إلى أن يحضر مانيفيل إحدى المفاوضات العنيفة إثر ما يعرف بأزمة عام 1958 في قصر القنطاري في بيروت، ويتعطّل بعد دلق الرئيس كميل شمعون عليه القهوة التي نفذت إلى جهازه الداخلي وأفسدته.استدعت هذه الحادثة مهارة إحدى الشخصيات الأعمدة في بناء الفيلم روائيًا، وهو فارتان أوهانيان، مصلّح ماكينات، لإنقاذ ”الرجل الجديد“، يرافق فارتان مانيفيل رحلة صعوده في المجتمع اللبناني ويستغرب لتحوّل مانيفيل ناطقًا باللغة العربية بعد هذه الحادثة، وأول ما نطق به كان شتيمة من العيار الثقيل بروح لبنانية أصيلة يظهر بعدها مانشيت صحفي قديم: ”إذا شتم باللبناني، فهو لبناني!“ ومُنح بعدها مانيفل الجنسية اللبنانية دون أن نعرف  بالتحديد ما هي طائفته كما أشارت صحف تلك الفترة وفقًا للفيلم!
 


يحسب  للمخرج ذكاؤه في اختيار شخصيّاته ”الوثائقيّة“ المتواطئة معه في صناعة أسطورة مانيفيل، من منّا كان يتصوّر أنّ الكاتب والمثقّف فوّاز طرابلسي الذي أدلى في الشريط بما بدى على أنّه شهادته وقراءته للتاريخ السياسي اللبناني الحديث، جزءٌ من سرديّة روائيّة مختلقة، تتمحور حول شخصيّة مانيفيل، أو أنّ مشاركة الناقد السينمائي محمد سويد غطاءٌ لأسطورة مانيفيل، من خلال تعقيباته على مغامرات الرجل الآليّ في المجتمع الفني اللبناني. تعود المصداقيّة العالية التي يتمتّع بها الشريط إلى الخدع البصرية والفبركة عالية المهنيّة لصور وفيديوهات مانيفيل، بدءًا من وقوفه في ساحة الشهداء، إلى تواجده بالقصر الرئاسي، مرورًا برقصه مع الشحرورة صباح، ولعبه البريدج مع عمر الشريف في إحدى الكازينوهات، وصولًا إلى انتسابه لبعض الفصائل المسلّحة في  الحرب الأهلية سيئة الذكر. تلك الحرب التي أجهضت حلم مانيفيل بالمجد السينمائي كما قضت على الدولة اللبنانية بأسرها.

سيرة مانيفيل أقرب إلى سيرة نجم يقبع خارج الزمن والتاريخ، يبني في خياله مجدًا وهميًا كان ليتحقّق لولا الحرب الأهلية، يحاول بطلنا المهزوم مواجهة عجزه وشيخوخته، وعندما يخرج إلى شوارع بيروت يحيّي بحنين إلى الماضي تمثال الرئيس الأول للجمهورية بشارة الخوري في بيروت ما بعد الحرب زمنيًا، حيث نرى في هذه المدينة بناياتٍ شاهقة، هي جزء من عشوائية بصرية مدنيّة، تزيّنها بمفارقة لافتات مرشّحين انتخابيين، هم أنفسهم كانوا أطرافًا في الحرب الأهلية، أمّا الناس في الشارع فتتراوح ردود أفعالهم  عند رؤية مانيفيل ما بين البلادة والاستغراب، وكأنّ المخرج يصرّح أنّ اللبنانيين أصابهم تكلّس ما، قد يكون  حالهم كحال مانيفيل، ولعل الخيال العلمي هو الطريقة الأقل ضررًا وإيلامًا لمعالجة ما لم يندمل من جراحٍ وشروخ جماعيّة في لبنان.

بطاقة الفيلم: آخر أيّام رجل الغد - روائي قصير - لبنان  (٢٠١٧) - كتابة وسيناريو: فادي باقي، لينا منذر، عمر خوري - مدة الفيلم : ٢٩ دق - إخراج: فادي باقي.