فيلم الافتتاح في مهرجان "أيام فلسطين السينمائية"

"البرج"... مخيّم اللاجئين على طريقة الرسوم المتحرّكة

2018-10-18 04:00:00

يتناول شريطه التحريكيّ قصّة وردة، فتاة تبلغ من العمر ١١ عامًا، تحاول أن تبحث عن الأمل الذي فقده والد جدّها المحتضر، الذي يناولها مفتاح العودة المعلّق على عنقه منذ سبعين عامًا، ويقصّ لها أحداث النكبة المروّعة. تنتقل وردة  في مسكن عائلتها، لتصعد من طابق تلو آخر في البناء العشوائي الخانق،

عند التأريخ والرصد للأفلام غير العربيّة التي تناولت القضية الفلسطينية ثيمةً رئيسيّة لسرديّتها نلحظ عددًا لا بأس به من هذه الأفلام، لصانعين أجانب، وجدوا في فلسطين أرضًا خصبةً للسرد، منطلقهم الأساسي ومحركهم هو عدالة القضيّة الفلسطينيّة وبعدها الإنساني الكوني، قد يكون أشهر هذا النوع من التعاونات مشاركة المخرج الفرنسي الكبير جان لوك جودار مصطفى أبو علي في فيلم "هنا وهناك“ عام ١٩٧٤ في أوج حراك  اليسار العالمي وازدهار مؤسسة السينما الفلسطينية تباعًا، أو شراكات إنتاجية بين منظمة التحرير الفلسطينيّة  وجمهورية ألمانيا الشرقيّة، لكن بعد الانهيارات الكثيرة التي لحقت بالقضيّة الفلسطينية وتراجع حركات التحرر عالميًا، دأب عديد من صنّاع السينما الملتزمين ببوصلة إنسانية وقيمية في عملهم السينمائي وضع الفلسطيني في المركز، في تجارب  مخرجين أمثال كوستا غافراس (حنا ك) وسافيريو كوستانزو (برايفت)، نيكولاس فاديموف (عايشين، أبولو غزّة)، قد لا يعني ذلك بالضرورة حضور الجماليات الفنية الأكثر قوّةً، لكن يعكس رغبة حقيقيّة في إسماع صوت من لا صوت لهم في السينما العالمية، وهذا أمر يستوجب الثناء والتقدير.

قدّم المخرج النرويجي ماتس جرورد مؤخّرًا الفيلم التحريكي ”البرج“، ٢٠١٨، بعد أن عمل كمدرّس للرسوم المتحرّكة في مخيّم اللاجئين ”برج البراجنة“ في لبنان وعايش الظروف الصعبة التي يعيشها أهل المخيم، وتأثّر بالأحاديث التي دارت بين الكبار والصغار حول حلم العودة. المخيّم الذي تبلغ مساحته الخانقة كيلومترًا مربّعًا، ويعيش فيه ما يقارب الـ ٢١ ألف طفل، حيث يشكّلون ما يزيد عن ٤٠ بالمائة من سكّان الـ “جيتو“ المنكوب، ألهمَ جرورد الذي حضرت بقوّة في طفولته القضيّة الفلسطينيّة من خلال عمل والدته كممرضة في لبنان في الثمانينات، وزار بنفسه غزّة والقدس في الانتفاضة الأولى عندما كان طفلاً، ولم تغب عن مخيّلته إشارات النصر التي رفعها أطفال تلك الانتفاضة البهيّة.
 


يتناول شريطه التحريكيّ قصّة وردة، فتاة تبلغ من العمر ١١ عامًا، تحاول أن تبحث عن الأمل الذي فقده والد جدّها المحتضر، الذي يناولها مفتاح العودة المعلّق على عنقه منذ سبعين عامًا، ويقصّ لها أحداث النكبة المروّعة. تنتقل وردة  في مسكن عائلتها، لتصعد من طابق تلو آخر في البناء العشوائي الخانق، ويقصّ لها كل قاطن في كل طابق، مرورًا بثلاثة أجيال فلسطينية متتالية، عمّا عايشه من واقع صعب، ابتداء من فقدان الأرض في وطنهم، وانتهاء بفقدان الكرامة الإنسانية في المخيّم في لبنان وآثار ذلك على حياتهم اليوميّة.

دمج جرورد بين ثلاثة أنواع من التقنيات، فقد دمج الصور والفيديوهات الحقيقيّة، الرسم الثنائي الأبعاد، والدمى المتحرّكة، محاولا أن يخلق توازنا بين هذه المركّبات الثلاثة، التي قد تبدو متداخلة أو صاخبة بصريًا، مستوحيًا ذلك من صخَب وعشوائية الحيّز الذي يشغله المخيّم وكذلك من تداخل الذاكرة التي أظهرها برسوم ثنائية الأبعاد على طريقة الفلاشباك، مع الواقع الراهن الذي ظهر على الشاشة ثلاثيّ الأبعاد، لم يختر السينما الروائية الاعتيادية، أو التوثيقية، وراهن على الرسوم المتحرّكة إيمانًا منه كمّا صرّح في حوارات  أجريت معه على أنّها طريقة شاعريّة سهلة الوصول وليست موجهة للأطفال فقط.
 


يلازم كل صنّاع الأفلام الفلسطينية ومشاهديها على الدوام، لدى صدور أي شريط سينمائي  فلسطيني الصنع أو الهويّة، تساؤلات حول قدرته على التحديث في طريقة تناول فلسطين أو الفلسطيني/ة ، والابتعاد عن الرموز التي باتت مكرّرة في الكثير من السرديات السينمائية، وقد كان الأكثر نجاحًا في تفكيكها بلا شك المخرج إيليا سليمان في جنحه إلى الفانتازيا للتمكّن من إظهار تعامل مختلف مع رموزنا ومع رموز المحتلّ على حدّ سواء، وعلى الرغم من لجوء جرورد إلى الرسوم المتحرّكة التي من المفترض أن تكون  عالمًا محرّرًا للجمود في التعامل مع الأيقونة، لم يطرح ما هو جديد في هذا المنحى، لذا بالإمكان النظر إلى هذا النوع من  السينما بشكل وظيفيّ (ولا يقل عن السينما المحدّثة) لها هدف واضح في حفظ ونقل الرواية إلى العالم، في حرب من نوع آخر على الوعي والوجدان والعقل، لاسترجاع ذاك الإحساس الأوّلي بفقدان الوطن داخل الإنسان، وعدم حصره على الأرض أو شجرة الزيتون، تمامًا كما فعل والد جدّ وردة ناقلًا لها مفتاح العودة، وحاثًا إياها على النبش في التاريخ والذكرى، رغم سلسلة الصدمات والمعاناة التي رافقت الأجيال الأربعة منذ عام ١٩٤٨. لذا، طبيعة السينما التي يقدّمها جرورد هي أقرب بمكوّناتها إلى السينما المستوحاه من الجانر الوثائقي أو الإعلاميّ الذي يذكّر بأجوائه بسينما الثورة الفلسطينية أو السينما التوثيقية لجان شمعون ومي المصري على الرغم من كونه روائيّا على طريقة الرسوم المتحرّكة.

يضمّ الفيلم في نسخته العربية والذي اختير فيلم افتتاح مهرجان ”أيام فلسطين السينمائيّة“ تزامنًا مع الذكرى السبعين للنكبة، كوكبة من أبرز نجوم السينما الفلسطينيّة مثل محمد بكري، صالح بكري، مكرم خوري، عامر حليحل، منى حوا، وشادن قنبورة مع حضور صوتيّ متميّز للطفلة ليلى نجّار التي أدّت الشخصيّة الرئيسيّة في الفيلم.