إلى الراقص الفلسطيني حسن رابح

الرسالة

2018-11-06 11:00:00

الرسالة

لا حقيقةَ الآن أنصع من الحزن. ما فهمتَ لِمَ خشيتَ ما يُشتهى، ولِمَ اشتهيتَ ما يُخشى، وأينما أقمتَ انسجنتَ وفرّ الجمالُ إلى مكانٍ آخر وناداك.

ثمة حدٌ تبلغه أية حياة، يفقد عنده الجدل معناه ومتعته، ولا تسعفك فيه شتيمة ولا يعزّيك سفرٌ ولا رجوع. الحصار لا ينتهي. ليل نهار، رسائل صوتية على الواتس آب في بيروت، آتية من كل حدب وصوب، من كل القارات، حتى تخال المرسلين موشكين على عضّ هواتفهم ومضغها. هناك دائماً من لا يستطيع أن يترك رسالة صوتية عند سماع المجيب الآلي، لأن هذا الحوار من طرف واحد حديثٌ بين ميّتين، لأنه يفكر بحشرجة نبرته التي ستبقى مسجّلة إلى الأبد في أرشيف مهول، غير قادر أن ينسى كم سيزعزعه الرفض حين تُسْمَع لهجته، وهو يتنحنح مستفسراً عن أسعار الغرف بنزلٍ رخيص قبل أن تقفل موظفة الاستقبال الخطّ. ما عاد بمقدوره الرد على أي اتصال أو الإجابة على أي رسالة، وزاده إرهاقاً أن يتخيل الذين يتّصل بهم وهم يرون اسمه على شاشات هواتفهم فلا يجيبون، لأنهم سيحسبونه يبادر إلى الاتصال بسبب ضائقته، وسيتلعثم ليستدين منهم نقوداً أو ليتوسّطوا له لتجديد أوراقه. مَن سيجدّد إقامةَ فلسطيني في لبنان، كان طفلاً من أطفال المخيّمات يقلّد ببطء شديد رقصةَ قنفذ في لعبة فيديو، كما تخيّل مايكل جاكسون في "غريب في موسكو"، حين استجوب ضابط مخابرات روسي الغريبَ: "لماذا جئتَ إلى هنا؟ اعترف!"؟ كالرجل الأصلع في هذه الأغنية، كنتَ تتأمّل السيارات البطيئة في شارع الحمرا، وتفكّر إن الأمطار تهينك حين تبلّلك. كنت تمشي وحدك طوال الليل بحثاً عمّن تكلّمه، حتى ناداك باسمك ولدٌ "سوريّ" يستجدي السكارى والمصلّين في الفجر، ونعتك ضاحكاً "أبو هريرة"، لأنك لم تكن تتسكّع بل تبحث عن "أمٍ بديلة" لقطة هزيلة ظننتَ أن عمرها أسبوعان، وجدتها ضائعة تموء قرب المدخل المقفل لجريدة السفير.

كنت تذكرُ كم راجت في سوريا، بعد "الوعد الصادق"، رنّة لوصول SMS مسجّلة بصوت حسن نصر الله، وفيها سماحة السيد، مقبّل أقدام المقاتلين وأياديهم وجباههم، يقول: "هناك رسالة كان يجب أن تصل ووصلتْ". رسالتك أيضاً وصلت، كمغلّف يفتحه عنصر من زوار الفجر في البريد فلا يجد إلا ورقة بيضاء. وصلتْ رسالتك قبل انبلاج الضوء، مرضوضةً ممزّقة الغلاف لأنها جسدك الذي غلّف روحك، مثلما اشتعلتْ رسالة لاوند حاجو المطعون بالسكاكين منذ عشر سنين، وقد فحّمَ جسده حريقٌ في فجر قدسيا، وذرذرت الجريمة بقاياه ككحل عينيه على اسم فرقته "رماد"، وأذيع النبأ في إذاعات إف. إم التي نعَتْك أيضاً، وبثّت النعي بين دعايتين لعيادات زرع الشعر كنت ترى إعلاناتها، محاطة بشجر الصنوبر، على الطريق بين الشام وبيروت، قبل صورة الجنرال عون التي كانت تغطّي جداراً كاملاً من مبنى سفارة جيبوتي.

على مبعدة ثلاثة أسابيع من العيد الصغير، في رمضان 2016، التقيتَ صديقك الراقص الكردي ريزان، بجسده المشدود كوتر بغلمة من أحشاء الذئاب، وكان يتقلّد تميمةً بداخلها مسحوقٌ من فَرْج ذئبة، وأطعمتُما الحمام في جنينة الصنائع، "مجاناً"- ما أبشع هذه الكلمة، قلتَ. تحدّث ريزان عن جمال الديوك التي يربّيها الأكراد في الجبال، وفشلها كالبشر في الطيران. تخيّلتَ كيف تركض ديوك الإيزيديين مقطوعة الرؤوس، صبيحة عيد القربان، لترتمي الذبائح على قبور أصحابها الذين لا تنساهم حتى لو فقدت رؤوسها، وترقص هناك رقصة ألمها الأخير بعد أن نزفت دماءها كلّها على تراب الطريق إلى الموت.

كان الرقص قد علّمك أن الموت لا يحتاج إلى تمارين إحماء. رأيت فجر بيروت ينبلج كحريقٍ يصعد من البحر ويلفح زجاج البنايات، وسمعتَ ديكاً يناديك من شارع الحمرا، لا يشبه صياحه ديك بطرس ولا ديك "النهار" الأزرق الآتي من كنائس فرنسا. قطعتَ المسافة بين الحياة والموت في إغماضةٍ واحدة، سرّع وصولك كلّ ما ظللتَ تؤجّله، وكلّ ما لم تفعله، وكلّ ما حُرمتَ منه. كانت قفزتك، من شرفةٍ في الطابق السابع، سقوطاً أبيضَ ما أدمى شيئاً، كسقوط العمال الذين يتهاوون من أعالي الأبراج فينشف دمهم في عروقهم على الطريق القصير إلى الأبدية. كنتَ قد امتلأتَ عاراً وخوفاً، خوفاً كثيراً تحوّل قليله إلى صاعقةٍ من الشجاعة.

لا حقيقةَ الآن أنصع من الحزن. ما فهمتَ لِمَ خشيتَ ما يُشتهى، ولِمَ اشتهيتَ ما يُخشى، وأينما أقمتَ انسجنتَ وفرّ الجمالُ إلى مكانٍ آخر وناداك.

 

قُرئت هذه الرسالة ضمن ملتقى "مينا" الذي نظّمته مؤسسة "اتجاهات-ثقافة مستقلة" في بيروت، وهي مقتطف من نص طويل يصدر قريباً ضمن كتاب "البحث عن مدننا في مدنٍ ومنافٍ أخرى" لدى دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع.