لربما تصل سفيتلانا في ”زمن مستعمل“ إلى تسوية مع أحد مخاوفها في ”آخر الشهود“ حيال سرد وقائع ظلمت الناس، وذلك في جو البوح الحميم الذي يشبه الشراكة وينتهي بالبكاء. ليحلّ سؤال "لماذا أروي" مكان سؤالها القديم "ما هو الأفضل أن يتذكر المرء أم ينسى؟" إنّها تسأل عن الجدوى الآن
تتخذ الكاتبة البيلاروسية سفيتلانا أليكسييفيتش (نوبل 2015) في كتابها ”زمن مستعمل“ (دار ممدوح عدوان) من البيريسترويكا مختبرًا سرديًا تحاكم عبره الزمن السوفييتي في عهد أفولهِ، تحلل ذلك الزمن عبر شكوك وهواجس، وتجعل من محاكمتها السردية استعادة لأزمنة متعددة بإنسان واحد يعيش على هامش الحروب والهزائم الكبرى.
في كتابها الذي ترجمه إلى العربية الدكتور نزار عيون السود، بعنوان فرعي هو ”نهاية الإنسان الأحمر“، تواصل سفيتلانا كتابة ذلك النوع الأدبي من رواية الشهادات وهو النوع الذي ابتكرته. يلاحظ القارئ السمات المشتركة لكتبها؛ إنّها تقدم عبر تجربتها برمتها، عرضًا متواصلًا لآلامٍ حدثت في الاتحاد السوفييتي ودول أوروبا الشرقية. منذ الحرب العالمية الثانية موضوع كتاب ”آخر الشهود“، إلى الحرب الأفغانية موضوع ”فتيان الزنك“، إلى جانب ”صلاة تشرنوبل“ والذي تحدثت فيه عن ”الإنسان التشرنوبلي“. إلا أنّ ما يميز كتاب ”زمن مستعمل“ هو إغلاق تلك الحقبة الشيوعية ورصد نهايتها. إنّها إذ تقول نهاية ”الإنسان الأحمر“ لأنّها لطالما جعلت من الإنسان مرجعية عليا لأدبها. لكن، هل كان في نهاية الإنسان الأحمر بدايةً لإنسان جديد؟ هذا ما يتساءل القارئ حياله وهو يغلق كتاب سفيتلانا؛ وقد تراءى له عالم ضيق يخرج فيه الناس من أغلال إلى أغلال أشد. إنّ نهاية الإنسان الأحمر لم تكن سوى تأكيدًا لإنسان مستلب، كان عبدًا للأفكار وأصبح عبدًا للمال. لاسيما أنّ الكتاب يوثق على نحو ثري ومتدفق زلزال إعادة الهيكلة، الكتاب يروي لحظات الحقيقة التي تعرفها الشعوب؛ تلك اللحظات التي تكشف الوعي وتترك إنسانه عائمًا في تيارات التيه والعبث واللا جدوى.
عبر عشرات الشهادات لمسؤولين حزبيين وطلاب وأمهات وحالمين، محاربين قدامى ومتظاهرين، مهووسين بالشيوعية أو مهووسين بالتغيير، ضحايا وأبطال ومنفيون، عشاق متألمون أو أناس لا مبالين. عبر شهادات تشمل العقائد السوفييتية كافة، ترسم سفيتلانا زمانًا متهالكًا وحافلًا بتغيرات بدأت ببيع المثقفين لمكتباتهم، وقد ”خيبت الكتب آمالهم“. فالعالم السوفييتي الذي بدا مشيّدًا من الأفكار، باتَ ناسهُ فجأة، يعيشون وفق مقولة واحدة ”اشتروا.. اشتروا“ وكان على الذين نشأوا على الروايات الروسية البطولية أن يتعلموا البيع والشراء لأنّ في ”السوق“ نجاتهم من الفقر. تتحرك سفيتلانا في زمان يغفل الناس فيه عن واقعهم، إذ إنّ حضارة كاملة تُرمى، بواقعٍ من الرفض أو الجهل، إلى القمامة. فالسوفييتي الذي كانت الآلام طريقه إلى المعرفة، يواجه جيلًا يجهل المعاناة ويرفض الألم. وطريقه إلى المعرفة تقتصر على مغادرة الماضي أو الإساءة إليه، لقد طالت ”دمغة الشيوعية“ حتى اللغة، وباتت شتائم الأم بمثابة ”مفتاح نضالي“. ذلك على الرغم من تحول الكثير من الشيوعيين إلى مؤمنين وليبراليين وديمقراطيين متطرفين. في غمرة هذه التحولات الكبرى تعرض سفيتلانا مخاوفها من أنّ الحرية اقتصرت عند الروس على المرتديلا والجينز والألبسة النسائية الداخلية والمالبورو والعلك والماركات المختلقة.
تبرز سفيتلانا ”مؤرخة بدم بارد“ تنزع عن الشهادات المتقدة الأحقاد وتحافظ على نزوع عاطفي وميل إلى العدالة. لذا نراها تنصف الإنسان الأحمر (دلالة على الزمن الشيوعي) فتتحدث عن دولة كبرى ومعارك ونضالات، وتنصف الإنسان الأبيض (دلالة على الرأسمالية) فتتحدث عن إنسان يمتلك حرية مصيرهِ وذاتية ذلك المصير، الانتحار نموذجًا. تقف سفيتلانا بين الزمانين، ما بين جيل يرى في الغرب أعداء وجيل يحلم بأن يعيش في الغرب. ما بين نظام جعل الإنسان جزءًا من حشد، يعيش حياة غير شخصية، ونظام جعل من الإنسان مجرد غبار في آلة المال. ما بين شعب قطيع وسلطة ذئبة، ما بين جيل اعتاد، جراء الخوف، الثرثرة الليلة في المطابخ وجيل غادرها إلى الشوارع. وقد تحولت العواطف والمشاعر إلى مال وجنس، كثر الشقاق في العائلات بين من تربوا على العيش من أجل الآخرين، وبين من تفتح على حياة رأسمالية بعد طفولة شيوعية غير واعية. على تلك النوعية من الشروخ أقامت سفيتلانا جلّ سرديات شهودها، ضمنًا الصراعات الأهلية، التي عرفتها أبخازيا وجورجيا ويوغسلافية وطاجيكستان والحربين الشيشانية والأفغانية، إنّ نصها نصٌ شامل يتسم بالصراع والتصعيد الدرامي، لاسيما فيما ارتبط بمصائر المحبين والأبناء في أوطان أدركت الحرية بالحروب الأهلية.
لربما تصل سفيتلانا في ”زمن مستعمل“ إلى تسوية مع أحد مخاوفها في ”آخر الشهود“ حيال سرد وقائع ظلمت الناس، وذلك في جو البوح الحميم الذي يشبه الشراكة وينتهي بالبكاء. ليحلّ سؤال "لماذا أروي" مكان سؤالها القديم "ما هو الأفضل أن يتذكر المرء أم ينسى؟" إنّها تسأل عن الجدوى الآن؛ وهي تسدل ستار ذلك الزمن السوفييتي. تخبرها واحدة من شهود عيانها "ستكتبين وتنشرين، سيقرأ الناس الطيبون ويبكون، أما السيئون، الفاعلون الرئيسيون، فلن يقرأوها. فعلام أتحدث؟" فيما كان البوح لدى آخرين تحررًا من رهاب الذكريات ونجاةً من الجنون، إحداهن كانت تروي كي يقرأ الناس قصة حبها. فيما أخرى كانت تنتظر طوال حياتها أن يعثر عليها أحدٌ لتروي له كلّ شيء، وقد جعلت سفيتلانا من أدبها ساحةً بطولية للهامشيين الذين خذلهم التاريخ المعلن.