«تقرير إلى غريكو».. عندما جمع كازنتزاكيس البحر في زجاجة

2019-01-02 13:00:00

«تقرير إلى غريكو».. عندما جمع كازنتزاكيس البحر في زجاجة
نيكوس كازنتزاكيس

سرعان ما تتشعب ساحات الصراع، وتنتقل من دخيلة الطفل البطل الراوي بضمير المتكلم، لتجتاح كل شيء، علاقته بالناس ورجال الدين والمدرسة الكاثوليكية، صراع الكريت لنيل حريتها من الأتراك وصراع التعرف على الحياة، السفر، التمرد على الموروث وتجديد الرؤية...

يصعب تقديم تصنيف واضح للمعزوفة السردية الكبرى «تقرير إلى غريكو»، 1961،  لليوناني نيكوس كزانتزاكيس (1883 – 1957)، والصادرة في نسختها العربية عن دار ممدوح عدوان، وبترجمة تحمل توقيع الشاعر السوري الراحل (1941 – 2004).

تحليلات كثيرة حاولت إيجاد تصنيف لـ "التقرير"، فقيل إنها تندرج تحت السيرة الذاتية، اليوميات، الرواية، ورواية التخييل الذاتي، والمذكّرات... إلخ. غير أن هذا ليس ما يعنينا بشأن هذا الكتاب.

في مقدمة الكتاب، كتبت هيلين زوجة كازنتزاكيس، الظروف التي كتب فيها اليوناني نصه هذا بداية من 1956، وكيف كان يدعو الله أن يمد في عمره حتى ينتهي من تفريغ نفسه، ومن كتابة كل شيء: "كان يطلب من ربه أن يمد في عمره عشر سنوات أخرى يكمل بها عمله، يقول فيها ما كان عليه أن يقول... عشر سنوات تكفي أو هذا ما كان يظنه".

حاول الكاتب اليوناني، في تقريره، الموجه إلى جده أو سلفه القديم، الفنان الإسباني من أصول يونانية "غريكو" (1541 – 1614)، أن يجمع البحر في زجاجة، ويكتب لجده، تقريراً عن نفسه، تقريراً ليس سيريّاً، فقط ينمو أفقياً مع خط الزمن من نقطة بداية ما وحتى الممات، وإنما ينمو رأسياً بالمثل، ويحفر عميقاً في الذات الإنسانية، الفلسفة، التاريخ الوطني اليوناني الكريتي، والتاريخ في مطلقه. وربما يكون هذا الانفتاح على اتساع الإنسانية، واحدة من أهم الصفات التي ميّزت أدب كازنتزاكيس.

الأسلاف في زمرة الدم

- تكتب؟ ماذا تكتب؟

- حياة القديسين. وحياة جدي

- وهل كان جدك قديساً؟ ألم تقل لنا أنه كان يحارب الأتراك؟

- أليس هذا الشيء نفسه؟

صـ 60

صراع بين سلفين، أولهما ناري، والآخر ترابي، أسلاف قراصنة من جهة الأب، وأسلاف فلاحون من جهة الأم، والمواءمة بين هؤلاء وهؤلاء كان يقع داخل قلب وعقل الكريتي الصغير، ابن الكابتن ميخائيل. الذي بمرور الوقت قرر الانتصار لنفسه ومواصلة التقدم وتحويل كل هذا الموروث الجيني الفكري والإنساني إلى ثمار ناضجة وخالدة: "طوال حياتي كانت هناك كلمة تعذبني وتجددني وهي كلمة الصعود، وسأقدم هذا الصعود، وأنا أمزج الخيال بالواقع، مع آثار الخطى الحمراء التي خلفتها ورائي وأنا أصعد."

سرعان ما تتشعب ساحات الصراع، وتنتقل من دخيلة الطفل البطل الراوي بضمير المتكلم، لتجتاح كل شيء، علاقته بالناس ورجال الدين والمدرسة الكاثوليكية، صراع الكريت لنيل حريتها من الأتراك وصراع التعرف على الحياة، السفر، التمرد على الموروث وتجديد الرؤية... يسرد صاحب "زوربا اليوناني" كل ذلك بأسلوب الخاص، السهل جداً والممتنع بالمثل. إن للغة كازنتزاكيس سمة واضحة، فسرده يتدفق بسهولة وانسيابية، بصمة سردية تندرج بفخار تحت العنوان الكبير "الأسلوب هو الرجل"، تلك المقولة التي تنسب لاسمين فرنسيين هما سانت دينيف، وجورج لويس (بوفون)، أو مقولة الكاتب المصري مصطفى زكري: "الأسلوب شرف الكاتب"، ووفقاً لهذا القياس، فإن كازنتزاكيس أحد أشرف كتّاب العالم.

بهذا التدفق يحكي اليوناني طفولته، وتدريجياً، ينتقل إلى الصبا والفتوة والشباب، ويمضي في رحلته
 

ممدوح عدوان


قدّيس الأفكار

المحاولة الأولى التي قام بها نيكوس كازنتزاكيس للتحول إلى قديس كانت عندما فر من المنزل إلى الميناء وطلب من البحارة أن ينقلوه إلى جبل آثوس البعيد ليصير راهباً. مرة ثانية أكثر نضجاً ووعياً قام بها عند زيارته إلى سيناء وفلسطين.. تلك كانت محاولات صادقة، لكن هذا التحول في ظني لم يكتمل، إلا بنشره هذا الكتاب، فكازنتزاكيس، لا يتحول معه إلى قديس مسيحي، وإنما إلى قديس إنساني، قديس باتساع البشرية، يستطيع أن ينصف حتى عدوه التركي ويقدم جانبه الإنساني البسيط كما قدّم جانبه الدموي المحتل.

تكتمل اشتراطات هذا التحول على مدار الكتاب، عندما يعكس مؤلف "الإغواء الأخير للمسيح"، لا سيرة شخصية، وإنما سيرته الباطنية، المنحنى العاطفي لنفسيته، وأفكاره، وخبراته، وخروجه من مرحلة إلى أخرى، مرحلة أساطير القديسين في الطفولة، ثم مرحلة أيامه في إيطاليا، والقدس، والقوقاز، وباريس، وروسيا وغيرها من البلدان، وتأثره بكتاب بعينهم مثل نيتشه وبرغسون.. وهذا ربما ما حاول أن يقوله استباقياً في المقدمة القصيرة جداً التي كتبها قبل الشروع في الرحلة: "كانت هناك أربع درجات حاسمة في صعودي. وتحمل كل منها اسما مقدساً: المسيح، بوذا، لينين، أوليس. ورحلتي الدامية بين كل من هذه الأرواح العظيمة والأرواح الأخرى هي ما سوف أحاول جاهداً أن أبين معالمه في هذه "اليوميات".

ولا تخلو هذه العناوين الكبرى من خفة الدم اليونانية المعروفة، وبصمة الكاتب التي لا ينقصها الظرف، يقول: "بفضل تدخل طالبة جامعية مجهولة، كان قدري ينصب لي كمينا في مكتبة سانت جنفياف. كنت منكباً على أحد الكتب حينما جائتني فتاة وهي تمسك بكتاب كذلك يحتوي على صورة رجل وقد غطت أسفل الصفحة بكفها لكي تخفي اسمه، انحنت فوقي، ثم أشارت إلى الصورة، وسألتني من هو؟

هززت كتفي: وكيف لي أن أعرف؟

ألا تعرفه؟ أهي المرة الأولى التي تراه فيها! إنه نيتشه. خلال دقائق قليلة عادت ومعها زرادشت وقالت ضاحكة: هاك، ها هنا غذاء قوي لعقلك، إن كان لديك عقل وإن كان جائعاً.

كانت تلك واحدة من اللحظات الحاسمة في حياتي". 

زوربا

يفرد نيكون كازنتزاكيس في الصفحات الأخيرة من «تقرير إلى غريكو» فصلاً بعنوان "زوربا"، دوّن فيها تفاصيل التقائه بتلك الشخصية الفريدة والاستثنائية، والتي ألهمته واحدة من أفضل رواياته «زوربا اليوناني». كان ذلك اللقاء إبان اشتغال كازنتزاكيس في مشروع للحفر والتنقيب عن الغرانيت، لم يسفر ذلك التنقيب إلا عن زوربا، الفيلسوف البسيط والملهم الكبير، قال عنه المؤلف: "ولو أن سؤال العمر كان مطروحاً أمامي حول اختيار دليل روحي، أو غورو كما يسميه الهندوس، أو أب، كما يسميه كهنة جبل آثوس، فلا شك أنني كنت سأختار زوربا. لأنه كان يتمتع بكل ما يحتاج إليه الموجه للخلاص: النظرة الأولية التي تصل إلى هدفها كالسهم من عل، والانعدام المبدع للفنية، والتجدد كل صباح".

كواليس العلاقة الشخصية بين كازنتزاكيس وزوربا، المراسلات، المشروع الفاشل، ثم سفر العجوز ألكسيس زوربا ناحية صربيا للعمل، الهدايا التي كان يرسلها لنيكوس والبطاقات البريدية القبعات المزركشة... لقد كانت علاقة كزانتزاكيس بزوربا علاقة زلزالية، وقد قال العجوز للشاب أثناء الحفر للتنقيب عن الغرانيت إنهم يحفرون على الأرجح ليكتشفوا الشياطين الكامنة في أنفسهم..

كان اللقاء، وكما قال الكاتب اليوناني، بمثابة كأس ماء بارد في يوم صيفي قائظ.

في المجمل، "تقرير إلى غريكو" سيرة رجل حاول البحث عن الله والشيطان معاً، ولا ندري على وجه الدقة ما إذا كان قد نجح في الوصول لهما أم لا، لكننا نوقت في المقابل أنه خاض رحلة طويلة، وأن الكنز على الأرجح، يكمن في الرحلة.

اختتم كازنتزاكيس تقريره الفريد إلى جده غريكو قائلاً:

أقبل يدك يا جدي.

أقبل كتفك اليمنى. وأقبل كتفك اليسرى.

جدي!

مرحباً!